تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

آية الله السيّد حسين البروجردي

تفسير الصراط المستقيم - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد حسين البروجردي


المحقق: الشيخ غلامرضا بن علي أكبر مولانا البروجردي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: پاسدار إسلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ينساه ، أعليه فيه حرج؟ فقال عليه‌السلام : لا (١).

وللهيثم بن عبيد ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل قرأ القرآن ثم نسيه ، فرددت عليه ثلاثا ، أعليه فيه حرج؟ فقال عليه‌السلام : لا (٢).

وأمّا النبويّ المرويّ عن طرق الفريقين : «من تعلّم القرآن ثم نسيه لقى الله تعالى وهو أجذم» (٣).

فقد اختلفوا في معناه : فقيل : إنّه مقطوع اليد ، من جذم الرجل (بكسر الذال المعجمة) : إذا صار أجذم اى مقطوع اليد.

ومثله العلوي : «من نكث بيعته لقي الله تعالى وهو أجذم ، ليست له يد» (٤).

وهذا هو المحكّي عن أبي عبيد ، واعترضه ابن قتيبة بأنّ العقوبات من الله سبحانه لا تكون إلّا وفقا للذّنوب وبحسبها ، واليد لا مدخل لها في نسيان القرآن.

وقال : الأجذم هاهنا الذي ذهبت أعضاؤه كلّها ، يقال : رجل أجذم ومجذوم إذا فتّت أعضاؤه من الجذام وهو الداء المعروف.

واعترض (٥) بأنّ قضيّة الموافقة عقوبة الزاني بفرجه والقاذف بلسانه.

وبأنّ الجذام غير مشتق من الجذم الّذى هو القطع ، وإلّا لوجب كلّ داء يقطع الجسد ويفرّق أوصاله كالجدري ، والأكله يسمّى جذاما ، ويسمّى المبتلى به

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦٣٣ ح ٢٤.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٠٨ ح ٥.

(٣) أمالي السيّد المرتضى ج ١ ص ٥ وعنه مستدرك الوسائل ج ٤ ص ٢٦٣.

(٤) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٦٧.

(٥) المعترض هو ابن الأنبارى محمد بن القاسم المتوفى (٣٢٨) ، قال : معنى الحديث أنّه لقي الله وهو أجذم الجمّة لا لسان لا يتكلّم ولا حجّة في يده ـ البحار ج ٢ ص ٢٦٨.

٥٠١

أجذم ، وهو باطل.

مع أنّ الجوهري ذكر أنّه مشتقّ من جذم الرجل (بضمّ الجيم) فهو مجذوم ، ولا يقال : أجذم.

وقال الفيّومى : قالوا : ولا يقال فيه من هذا المعنى : فهو أجذم وزان أحمر.

وقيل (١) : معناه لقيه خالي اليد من الخير ، صفرها من الثواب ، فكنّى باليد عما تحتويه وتشتمل عليه من الخير.

وقيل : معناه لقيه منقطع السبب ، يدلّ عليه قوله : «القرآن سبب بيد الله وسبب بأيديكم ، فمن نسيه فقد قطع سببه.

والتخصيص في العلويّ المتقدّم بذكر اليد لخصوص البيعة الّتى تباشرها اليد من بين الأعضاء (٢).

وقال السيّد المرتضى رضى الله عنه بعد الاعتراض على المعنيين الأوّلين ببعض ما سمعت ، وغيره ممّا لا يخلو عن تأمّل : إنّه عليه‌السلام أراد المبالغة في وصفه بالنقصان عن الكمال ، وقد ما كان فيه بالقرآن من الزينة والجمال.

قال : والتشبيه له بالأجذم من حسن التشبيه وعجيبه ، لأنّ اليد من الأعضاء الشريفة الّتى لا يتمّ كثير من التصرفات ولا يوصل الى كثير من المنافع إلّا بها ، ففاقدها يفقد ما كان فيه من الكمال ، وتفوتها المنافع والمرافق الّتى كان يجعل يده ذريعة الى تناولها ، وهذه حال ناسى القرآن ومضيّعه بعد حفظه ، لأنّه

__________________

(١) قائله ابن الأعرابي محمّد بن زياد المتوفى (٢٣٠).

(٢) بحار الأنوار ج ٢ ص ٢٦٨.

٥٠٢

يفقد ما كان لابسا له من الجمال ومستحقّا له من الثواب (١).

أقول : أمّا اشتقاقه من الجذام ، ففيه مع بعده ، أنّه مردود بنصّ أهل اللّغة على خلافه وهجر استعماله كما مرّ عن الجوهري والفيّومى.

نعم في «القاموس» : جذم كعني (أي بضم الجيم وكسر الذال المعجمة) فهو مجذوم ومجذّم وأجذم ، ووهم الجوهري في منعه.

ولكنّه غير صالح للمعارضة لما مرّ ، ولو مع تقديم الشهادة على الإثبات ، لأنّه فرع التكافؤ ، سلّمنا لكنّه لا بدّ عن الشذوذ والندرة.

وأمّا المعاني المتقدّمة فلا يبعد الحمل عليها ولو على جهة الاجتماع ، فإنّ الكلمة من محمّد وآله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لتنصرف على سبعين وجها من كلّها المخرج ، سيّما مع عدم تعاند المعاني في المقام ، بل وتناسبها ، فإنّه يمكن أن يراد أنّه يلقى الله تعالى مقطوع اليد أى قليل الحظّ من الثواب ، فاقد الخير والبهجة ، فائت الزينة والكمال.

نعم ، قد يقال : إنّ في هذا الحديث سرّا يتّضح بالحديث الآخر الّذي تواتر نقله عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله من طرق الفريقين : «إنّى تارك فيكم الثقلين : أحدهما كتاب الله حبل ممدود من السماء الى الأرض».

فلمّا شبّه الكتاب بالحبل الّذى يتعلّق به ويجعل سببا للتوقّي الى المراتب ، والتوقّي عن المعاطب ، عبّر عن تاركه والغافل عنه بالأجذم ، وإنّما يخيّل اليه بكلمة الأجذم الشنعة واللّفظ المستكره لأنّه إذا انقطع الحبل لم يكن تمسّك ، وإذا كانت اليد جذماء أيضا لم يمكن التمسّك ، فأراد بذلك أنّ عدم حصول التمسّك

__________________

(١) أمالى المرتضى ج ١ ص ٥.

٥٠٣

والإمساك إنّما هو لأمر راجع الى اليد الممسكة لا إلى الحبل ، فإنّ الممدود من السماء الى الأرض وهو القرآن باق بحاله.

ويمكن أن يكون المراد من النسيان ترك العمل بما فيه من ولاية آل محمّد عليهم‌السلام ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ) (١) ، فيلقى الله تعالى حينئذ مقطوع اليد عن التشبّت بحبل ولائهم عليهم‌السلام فإنّهم حبل الله المتين الّذي أمرنا بالتمسك به.

ومن أحكام القراءة : أنّه يستحب ختم القرآن في ثلاث وصاعدا إلى شهر ، مع الاهتمام في إيثار الترتيل وحسن التدبّر وسائر الوظائف على كثرة القراءة.

ففي «العيون» بالإسناد عن إبراهيم بن العبّاس ، قال : ما رأيت الرّضا عليه‌السلام سئل عن شيء قطّ إلّا علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان الأوّل إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسّئوال عن كلّ شيء فيجيب فيه ، وكان كلامه كلّه ، وجوابه ، وتمثّله انتزاعات من القرآن ، وكان يختمه في كلّ ثلاث ويقول عليه‌السلام : لو أردت أن أختمه في أقرب من ثلاثة لختمت ، ولكنّى ما مررت بآية قطّ إلّا فكّرت فيها ، وفي أيّ شيء أنزلت ، وفي أي وقت ، فلذلك صرت أختم في كلّ ثلاثة (٢).

وفي «الإقبال» للسيّد ابن طاوس رحمة الله عليه : عن وهب بن حفص ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام ، قال : سألته : الرّجل في كم يقرأ القرآن؟

__________________

(١) الانعام : ٤٤.

(٢) العيون ج ٢ ص ١٨٠ ح ٤ ، الأمالى ص ٥٢٥ ح ١٤ ، وعنهما البحار ج ٤٩ ص ٩٠ ح ٣ ، وج ٩٢ ص ٢٠٤ ح ١.

٥٠٤

قال عليه‌السلام : في ستّ فصاعدا ، قلت : في شهر رمضان؟

قال عليه‌السلام : في ثلاث وصاعدا (١).

وعن ابن قولويه باسناده إلى أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «لا يعجبني أن يقرأ القرآن في أقلّ من شهر» (٢).

ومثله في «الكافي» عنه عليه‌السلام بعد ما قيل له : «أقرأ القرآن في ليلة» (٣).

وفيه بالإسناد : عن حسين بن خالد ، عنه عليه‌السلام قال : قلت له : «كم أقرا القرآن؟ قال عليه‌السلام : اقرأه أخماسا ، أقرأه أسباعا ، أما إنّ عندي مصحفا مجزّءا أربعة عشر جزءا (٤).

وفيه : عن عليّ بن أبي حمزة قال : سأل أبو بصير أبا عبد الله عليه‌السلام وأنا حاضر ، فقال له : جعلت فداك أقرأ القرآن في ليلة؟ قال عليه‌السلام : لا ، فقال : ففي ليلتين؟ فقال : لا ، حتّى بلغ ستّ ليال ، فأشار بيده وقال : ها ، ثم قال عليه‌السلام : يا أبا محمّد انّ من كان قبلكم من أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأ القرآن في شهر وأقلّ ، إنّ القرآن لا يقرا هذرمة ، ولكن يرتّل ترتيلا ، إذا مررت بآية فيها ذكر النار وقفت عندها وتعوّذت بالله من النار ، فقال أبو بصير : أقرأ القرآن في رمضان في ليلة؟ فقال عليه‌السلام : لا ، فقال : في ليلتين؟ فقال عليه‌السلام : لا ، فقال : في ثلاث؟ فقال عليه‌السلام : ها! وأومأ بيده ، نعم ، إنّ شهر رمضان لا يشبهه شهر من الشهور ، له حقّ وحرمة ، أكثر

__________________

(١) إقبال الأعمال ص ١١٠ وعنه الوسائل ج ٤ ص ٨٦٤ ح ٩.

(٢) الإقبال ص ١١٠ عن ابن قولويه.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٦١٧ ح ١.

(٤) الكافي ج ٢ ص ٦١٧ ح ٣.

٥٠٥

من الصلاة ما استطعت (١).

ومثله عنه بطريق آخر ، وزاد بعد قوله : ترتيلا : «وإذا مررت فيها ذكر الجنّة فقف عندها وسل الله الجنّة» (٢).

وفيه : عن عليّ بن المغيرة ، عن أبى الحسن عليه‌السلام قال : قلت له : إنّ أبي سأل جدّك عليه‌السلام عن ختم القرآن في كلّ ليلة ، فقال له جدّك : في كلّ ليلة ، فقال له : في شهر رمضان ، فقال له جدّك : في شهر رمضان فقال له أبي نعم ما استطعت ، فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان ، ثمّ ختمته بعد أبي ، فربما زدت وربما نقصت على قدر فراغي وشغلي ونشاطي ، وكسلى ، فاذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ختمة : ولعليّ عليه‌السلام اخرى ، ولفاطمة عليهما‌السلام أخرى ، ثمّ للأئمّة عليهم‌السلام حتّى انتهيت إليك ، فصيّرت لك واحدة ، منذ صرت في هذه الحال ، فأيّ شيء لي بذلك؟ قال عليه‌السلام : لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة ، قلت : الله أكبر فلي بذلك؟ قال عليه‌السلام : نعم ، ثلاث مرّات (٣).

أقول : وقد استدلّ به على استحباب إهداء ثواب القراءة الى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة عليهم‌السلام وإلى المؤمنين من الأحياء والأموات ، ولا بأس بذلك ، سيّما بعد الاعتضاد بالاعتبار ، وبعموم ما دلّ على من عمل من المسلمين من ميّت عملا صالحا أضعف الله له أجره للّذى يفعله وللميّت ، وخصوص ما دلّ على إهداء خصوص السّور لأهل القبور ، ولمن يريد صلته من الأموات.

بل في «دعوات» الرّاوندى : عن ابن عبّاس : أنّ رجلا ضرب خباء على

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦١٨ ح ٥ وعنه الوسائل ج ٤ ص ٨٦٢ ح ٣.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦١٧ ح ٢ وعنه الوسائل ج ٤ ص ٨٦٢ ح ٤.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٦١٨ ح ٤.

٥٠٦

قبر ، ولم يعلم أنّه قبر ، فقرأ : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) فسمع صالحا يقول : هي المنجية ، فذكر ذلك للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقال : «هي المنجية من عذاب القبر» (١).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من دخل المقابر وقرأ سورة يس خفّف الله عنهم يومئذ ، وكان له بعدد من فيها حسنات» (٢).

وأمّا الإهداء للأحياء فلا بأس به بعد دلالة الخبر المتقدّم عليه في الجملة.

بل وعن «مشكاة الأنوار» و «عدّة الداعي» عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما يمنع أحدكم أن يبرّ والديه حيّين وميّتين ، يصلّى عنهما ، ويتصدّق عنهما ، ويصوم عنهما ، فيكون الذي صنع لهما ، وله مثل ذلك فيزيده الله ببرّه خيرا كثيرا» (٣).

ومن أحكام القرآن : أنّه يستحبّ تصحيح المصحف من الأغلاط مادّة وهيئة إذا كان ملكا له ، أو مأذونا من مالكه ، ولو بالفحوى ، أو شاهد الحال بل يستحبّ تصحيح المصاحف الموقوفة للموقوف عليهم ، أو بإذنهم إذا لم يؤدّ إلى تضييع الخطوط ، أو الورقة بالمحو ، والمزق ، والخرق.

وهل يجوز إثبات الساقط أو الممحوّ منها بالخطّ الذي دونها في الحسن؟ الأقرب الجواز ، إلّا أن يكون بعيدا عن مجانسته جدّا أو بالغا في الرّدائة بحيث لا يكاد يقرأ.

ومنها : أنّه يستحبّ اتّخاذ المصحف في البيت وتعليقه فيه ، من غير أن يترك القرائة منه.

__________________

(١) الدعوات ص ٢٧٩ ح ٨١١ وعنه البحار ج ٨٢ ص ٦٤ ح ٨.

(٢) مجمع البيان ج ٨ ص ٤١٣.

(٣) بحار الأنوار ج ٧٤ ص ٤٦ ح ٧ عن الكافي ج ٢ ص ١٥٩ مع تفاوت.

٥٠٧

في «الكافي» و «ثواب الأعمال» عن الصادق عليه‌السلام ، قال : «إنّه ليعجبني أن يكون في البيت المصحف يطرد الله عزوجل به الشياطين» (١).

وفي «قرب الإسناد» عن الباقر عليه‌السلام ، قال : «يستحبّ أن يعلّق المصحف في البيت ، ويتّقى به من الشياطين ، قال : ويستحبّ أن لا يترك من القرائة فيه» (٢).

وفي «الكافي» : عن الصادق عليه‌السلام قال : «ثلاثة يشكون إلى الله عزوجل : مسجد خراب لا يصلّى فيه أهله ، وعالم بين جهّال ، ومصحف معلّق قد وقع عليه الغبار ، لا يقرأ فيه» (٣).

ومن أحكام القرآن : حرمة بيعة وشرائعه ، صرّح جماعة من الأصحاب بحرمتها ، بل مطلق نقله ، وانتقاله بالعقود المعاوضية ، كلّا أو بعضا ، ولو ورقة منه ، أو آية ، أو كلمة.

وهو فتوى «النهاية» ، و «السرائر» و «الشرائع» و «الدروس» ، و «جامع المقاصد» ، وغيرها ، بل عن «نهاية الأحكام» منع الصحابة عنه.

والأصل فيه أخبار مستفيضة ظاهرة ، أو صريحة في تحريم بيعه.

وفيها كما في الفتاوى أنّه إنّما يباع الجلد والورق ، وغيرهما من الآلات.

ففي «الكافي» عن عبد الرحمن بن سليمان ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سمعته يقول : إنّ المصاحف لن تشترى ، فاذا اشتريت فقل : إنّما أشترى منك

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦١٣ ح ٢ ـ ثواب الأعمال ص ١٢٩ ح ١.

(٢) قرب الاسناد ص ٤٢ وعنه البحار ج ٩٢ ص ١٩٥ ح ٢.

(٣) الكافي ج ٢ ص ٦١٣ ح ٣.

٥٠٨

الورق وما فيه من الأدم وحليته وما فيه من عمل يدك بكذا وكذا (١).

قيل : ولعلّ المراد ما عملت يده ممّا عدا الكتابة.

وعن سماعة قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : لا تبيعوا المصاحف ، فإنّ بيعها حرام ، قلت : فما تقول في شرائها؟ فقال عليه‌السلام : اشتر منه الدفتين ، والحديد (٢) ، والغلاف ، وإيّاك أن تشترى منه الورق وفيه القرآن مكتوب ، فيكون عليك حراما ، وعلى من باعه حراما (٣).

ولعلّ المراد في الخبر الأوّل حال التجرّد ، أو خصوص الأجزاء المجرّدة من كتابة القرآن ، وفي الثاني ما اشتمل عليه ، ولذا قيل : إنّ قوله : «وفيه القرآن» يعنى تجعله المقصود بالشراء ، فيلزم التحريم.

وعن عثمان بن عيسى ، عن سماعة ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن بيع المصاحف وشرائها ، فقال عليه‌السلام : لا تشتر كتاب الله ، ولكن اشتر الحديد ، والجلود ، والدفتين ، وقل : أشتر هذا منك بكذا وكذا (٤).

وعن عبد الله بن سليمان ، قال : سألته عن شراء المصاحف ، فقال عليه‌السلام : إذا أردت أن تشترى فقل : أشترى منك ورقه وأديمه وعمل يديك بكذا وكذا (٥).

أقول : والّذى يظهر من أخبار الباب بالتأمّل وفاقا لبعض أجلّة المحققين

__________________

(١) فروع الكافي ج ٥ ص ١٢١ وعنه الوسائل ج ١٧ ص ١٥٨.

(٢) الحديد الذي يعلّق على جلد المصحف ليغلق ويقفل كما هو المشهود في زماننا (تعليقات الغفاري على الكافي).

(٣) الوسائل ج ١٧ / ١٦٠ عن التهذيب ج ٧ ص ٢٣١.

(٤) فروع الكافي ج ٥ ص ١٢١ ح ١ وعنه الوسائل ج ١٧ ص ١٥٨.

(٥) الوسائل ج ١٧ ص ١٥٩ ح ٦ عن التهذيب ج ٦ ص ٣٦٥.

٥٠٩

كصاحب الجواهر وغيره ، بل ولظاهر الأكثر على ما تسمع أنّ النهى نهى تعظيم لا نهى تحريم ، وذلك لأنّ قضيّة تعظيم كتاب الله وكلامه أن لا يساوم في معرض البيع والشراء ، ولا يشترى بآيات الله ثمنا قليلا ، بل يجعل البيع الصوري بالنسبة الى الجلد ، والغلاف ، وغيرهما ممّا يتعلّق به ، وإن كان المقصود الأصلى هو الكتابة ، بل يتفاوت البذل باختلافها في مراتب الجودة.

وبالجملة قضيّة الأصول والإطلاقات والعموم جواز بيعه ، بل عليه السيرة القطعيّة في سائر الأعصار والأمصار ، وإن اشتهر بين أهل العرف من جهة حسن الأدب تسمية بيعه أو ثمنه هديّة.

بل في خبر عنبسة الورّاق ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام فقلت : أنا رجل أبيع المصاحف ، فإن نهيتني لم أبعها؟ فقال عليه‌السلام : ألست تشترى ورقا وتكتب فيه؟ قلت : بلى وأعالجها ، قال عليه‌السلام : لا بأس بها (١).

بل ولعلّ فيه إشارة إلى إثبات المقتضى لجواز البيع ونفى المانع عنه ، وذلك أنّ كلّا من الورق والمداد الذي يكتب به كانا قبل الكتابة ملكا له ، ومجرّد الكتابة غير موجب لخروج شيء منهما عن ملكه ، ولا لخروجهما عن قابليّة الانتقال ، سواء قلنا إنّ المكتوب وهو النقوش الواقعة على سطح الورق من الأعيان الّتى يكون بإزائها جزء من الثمن كما هو الأظهر ، أو قلنا : إنّها من الأعراض والصفات الّتى تزيد بها قيمة الورق.

هذا مضافا الى أنّ ما يحرم بيعه أو نقله مطلقا إمّا أن يكون هو خصوص النقوش ، أو النقوش بمحالّها من الورق ، أو الورق المنقوش باعتبار موضع

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ١٥٩ عن الكافي ج ٥ ص ١٢٢ ح ٤.

٥١٠

الكتابة أو مطلقا ، وهو على الوجوه كلّها ملك للبايع قبل البيع ، وأمّا بعده فإن بقي على ملكه فهو كما ترى لاستلزامه الشركة وتوقّف جواز التصرّف فيه على إذنه ، وغيره ممّا لا يلتزم به أحد ، وإن انتقل إلى المشترى بجزء من الثمن فهو المطلوب ، أو تبعا ، أو مجانّا ، أو قهرا فهو خلاف المقصود ، بل لا أرى أحدا يلتزم بنفي خيار العيب والغبن ، وخلاف الوصف إذا اشتمل على أغلاط ، وسقطات كثيرة ، أو اختلاف في خطّ ، أو مخالفة للوصف أو غير ذلك ، كما لا ينبغي أن يلتزم أحد بأنّ خطّ المصحف لا يدخل في الملك شرعا.

نعم الذي يظهر من الأخبار كراهة البيع الصوري بالنسبة اليه ، تعظيما لكتاب الله تعالى ، كما علّق عليه النهى في الأخبار ، وأما صحّته فلا ينبغي التأمّل فيها بعد ما سمعت من السيرة القطعيّة وغيرها وإطلاق الفتاوى في مقام شرائط البيع وغيره ، حتّى في مسألة بيع المصحف من الكافر الظاهر في جواز بيعه من المسلم من غير تقييد بالآلات.

مضافا الى ما في خبر عبد الرحمن بن أبى عبد الله ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام : «أنّ أمّ عبد الله بن الحارث أرادت أن تكتب مصحفا فاشترت ورقا من عندها ودعت رجلا فكتب لها على غير شرط ، فأعطته حين فرغ خمسين دينارا ، وانّه لم تبع المصاحف إلّا حديثا» (١).

لظهوره في كون السيرة حاصلة في زمانه عليه‌السلام أيضا ، وإن كانت فيه إشارة الى حسن الأدب للسلف الصّالح حيث كانوا لا يشارطون الاجرة على الكتابة.

كما أشير إليه أيضا مع دلالته على المطلوب من وجهين ، أو وجوه في خبر

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ١٦٠ ح ١٠ عن التهذيب ج ٦ ص ٣٦٦.

٥١١

روح بن عبد الرحيم قال : سألت الصادق عليه‌السلام من شراء المصاحف وبيعها ، فقال عليه‌السلام : إنّما كان يوضع الورق عند المنبر ، وكان ما بين المنبر والحائط قدر ما تمرّ الشاة ، أو رجل منحرف ، قال : فكان الرّجل يأتى فيكتب من ذلك ، ثمّ إنّهم اشتروا بعد ، قلت : فما ترى في ذلك؟ فقال لي : أشتري أحبّ إليّ من أن أبيعه ، قلت : فما ترى أن أعطي على كتابته أجرا؟ قال عليه‌السلام : لا بأس ، ولكن هكذا كانوا يصنعون (١).

وخبر أبى بصير قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن بيع المصاحف وشرائها ، فقال عليه‌السلام : إنّما كان يوضع عند القامة (٢) والمنبر ، قال : وكان بين الحائط والمنبر قيد (٣) ممّر شاة أو رجل منحرفا ، فكان الرّجل يأتى ويكتب البقرة ، ويجيء آخر ويكتب السورة ، كذلك كانوا ثمّ اشتروا بعد ذلك ، قلت : فما ترى في ذلك؟ فقال عليه‌السلام : أشتريه أحبّ إليّ من أن أبيعه (٤).

حيث إنّ الاقتصار في الصدر الأوّل على الكتابة دون البيع والشراء إنّما كان للتعظيم ، ثمّ استمرّت الطريقة على المعاملة.

وقوله بعد السؤال عمّا جرت السيرة عليه من شراءه : «أن اشترى أحبّ إليّ من أن أبيعه» كالصّريح في جوازهما ، وإن كان بذل الثمن بإزائه أحبّ إليه من أخذه به.

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ١٥٩ ح ٤ عن الكافي ج ٥ ص ١٢١ ح ٣.

(٢) قال المحدّث الكاشاني في الوافي : أراد بالقامة الحائط فإنّ حائط مسجد الرّسول (ص) كان قدر قامة.

(٣) القيد : القدر ـ الصحاح ـ قيد ج ٢ ص ٥٢٩.

(٤) الوافي ج ٣ ص ٣٨ ـ الوسائل ج ١٧ ص ١٦٠ عن التهذيب ج ٦ ص ٣٦٦.

٥١٢

وبالجملة لا ينبغي للفقيه التأمّل في الجواز مع الكراهة ، وان اختلفت شدّة وضعفا بالنسبة الى البيع والشّراء ، حسبما يدلّ عليه الخبران ، مضافا الى شهادة الإعتبار بذلك.

بل قد يقال : بكراهة بيع غير المصحف أيضا من الكتب المشتملة على بعض الآيات قلّت أو كثرت.

بل وكتب الحديث المشتملة على أخبار أولياء الله الذين كلامهم كلام الله تعالى.

بل وكتب اللّغة سيّما المشتملة على تفسير لغات الكتاب والسنّة ، وأولى منها التفاسير وان لم يشتمل على تمام الآية.

وكذا كتب الفقه المشتملة على الآيات والأخبار ، والخطب سهل بعد ما سمعت ، والتعظيم والإكرام مطلوب في كلّ مقام.

هذا كلّه بالنسبة إلى بيعه من المسلمين ، وأمّا بيعه من أعداء الدين فالمشهور بين المتأخّرين عدم جواز بيعه من الكافر ولو على الوجه الّذى يجوز بيعه من المسلم ، لفحوى ما دلّ على عدم تملّك الكافر للمسلم ، من الآية والخبر ، وانّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

مضافا إلى فحاوي ما دلّ على وجوب التعظيم للشعائر ، خصوصا القرآن ، وحرمة الإهانة به ، ونفى السلطنة والسبيل لهم ، وأنّ في تملّكهم له إهانة للإسلام ، وأهله.

بل قد يلحق به أبعاضه وكلماته المتّصلة المتفرّقة ، بل المقطّعة المكتوبة بالحروف ، أو الرقوم الهنديّة ، أو الخطوط المختلفة الغريبة جوهريّة وعرضيّة ،

٥١٣

ولو بالانطباع والعكس ، ومنسوخ الحكم وغيره ، وتمام الكلام فيه وفي سائر الفروع في الفقه.

ومنها : أنّه يكره تذهيبه بمعنى استعمال الذّهب المحلول في جداوله ، ومفتتحات سوره وكتابة أعشاره ، وأخماسه ، وأجزائه ، وأعلام آياته ، ووقوفه ، واختلافات قراءاته ، ووجوه إعرابه ، وبين سطوره ، وأطراف صفحاته.

لموثّق سماعة ، قال : سألته عن رجل يعشّر المصاحف بالذّهب ، فقال عليه‌السلام : لا يصلح ، قال : إنّها معيشتي ، فقال عليه‌السلام : إنّك إن تركته لله جعل الله لك مخرجا (١).

وربما يقال بالحرمة نظرا الى نفى الصلاحيّة في الخبر الظاهر في الحرمة والفساد وعلى ما هو أظهر الأقوال فيه.

وفيه : أنّه مع تسليمه ينبغي الخروج عنه ، ولو لشهرة الفتوى وظاهر الأخبار.

كخبر محمّد بن الورّاق ، قال : عرضت على أبي عبد الله عليه‌السلام كتابا فيه قرآن معشّر بالذهب ، وكتب بآخره سورة بالذهب ، فأريته إيّاه ، فلم يعجب فيه شيئا إلّا كتابة القرآن بالذهب ، فإنّه قال عليه‌السلام : لا يعجبني أن يكتب القرآن إلّا بالسّواد كما كتب أوّل مرّة (٢).

وفيه أيضا دلالة على استحباب كتابته بالسّواد ، دون غيره.

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ص ١٦٢ ح ١ عن التهذيب ج ٦ ص ٣٦٦ وفيه : إنّه معيشتي.

(٢) الكافي ج ٢ ص ٦٢٩ ح ٨ ـ التهذيب ج ٦ ص ٣٦٧ ح ١٧٧ والوسائل عنهما ج ١٧ ص ١٦٢ ح ٢.

٥١٤

وخبر آخر : «لا بأس بتحلية المصاحف والسيوف بالذهب والفضة» (١).

ونفى البأس صريح في نفى التحريم ، وإن استفيدت الكراهة منه ، أو من غيره على ما مرّ.

بل وممّا روى في كتاب «المختصر» للحسن بن (٢) سليمان ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في علامات ظهور القائم عجلّ الله تعالى فرجه قال : «يكون ذلك إذا رفع العلم ، وظهر الجهل ، وكثر القرّاء ، وقلّ العمل وحليت المصاحف ، وزخرفت المساجد» (٣).

__________________

(١) الوسائل ج ٥ ص ١٠٥ عن الكافي ج ٦ ص ٤٧٥ ح ٣ وفيه : «ليس بتحلية المصاحف والسيوف بالذهب والفضّة بأس».

(٢) الحسن بن سليمان بن خالد الحلّى المجاز من الشهيد الأوّل سنة (٧٥٧) ـ الذريعة ج ٢٠ ص ١٨٢.

(٣) بحار الأنوار ج ٥١ ص ٧٠ عن كمال الدين ج ١ ص ٣٦١ ـ ٣٦٤.

٥١٥
٥١٦

الباب الرابع عشر

في جملة من الفوائد الّتى ينبغي

التنبيه عليها

٥١٧
٥١٨

وهي أمور :

الأوّل : أنّ القرآن شفاء من كلّ داء.

لا ريب في أنّ القرآن بجميع معانيه ، وبطونه ، وإشاراته ، ولطائفه وحقائقه شفاء من العيوب النفسيّة ، والأمراض القلبيّة الّتى هي الجهالات والضلالات ، والانحرافات ، ومتابعة الأهواء النفسانيّة ، والوساوس الشيطانيّة ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (١).

وروى العيّاشى عن مولانا الصادق عليه‌السلام قال : «إنّما الشفاء في علم القرآن لقوله : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ) (٢) لأهله لا شكّ فيه ولا مرية» (٣).

وفي تفسير الإمام عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «إنّ هذا القرآن هو النور المبين ، والحبل المتين ، والعروة الوثقى ، والدرجة العلياء ، والشفاء الأشفى ، والفضيلة الكبرى ، والسعادة العظمى ، من استضاء به نوّره الله ، ومن عقد به أموره عصمه الله ، ومن تمسّك به أنقذه الله ، ومن لم يفارق أحكامه رفعه الله ، ومن استشفى به شفاه الله ، ومن آثره على ما سواه هداه الله ، ومن طلب الهدى في غيره أضلّه الله».

وقد مرّ كثير من الأخبار المتعلّقة بالمقام في الباب الثاني.

__________________

(١) الإسراء : ٨٢.

(٢) الإسراء : ٨٢.

(٣) تفسير الامام ص ٢٠٣ وعنه البحار ج ٩٢ ص ٣١ ح ٣٤.

٥١٩

وكما أنّ باطنه ومعانيه ، وعلمه ، والعمل به شفاء من الأمراض الباطنيّة كذلك ألفاظه وحروفه شفاء من الأمراض البدنيّة ، ففي معانيه شفاء الروح والجنان بنور العلم والإيمان ، وفي ألفاظه شفاء الأبدان ، وقوّة الأركان ، بل وفي كلّ من الأمرين كلّ من الأمرين ، ولذا يجوز بل يستحبّ الاستشفاء به من الأمراض الظاهرة والباطنة.

وأمّا ما في «البصائر» عن الحارث (١) النصرى قال : رأيت على بعض صبيانهم تعويذا ، فقلت : جعلني الله فداك أما يكره تعويذ القرآن يعلّق على الصبيّ؟ قال عليه‌السلام : «إنّ ذا ليس بذا ، إنّما ذا من ريش الملائكة ، إنّ الملائكة تطأ فرشنا ، وتمسح رؤس صبياننا» (٢).

فلا دلالة فيه على الكراهة تقريرا ، ولا فحوى كما لا يخفى ، سيّما بعد تظافر الأخبار على الجواز ، بل على الاستحباب.

ففي «طبّ الأئمّة» : عن عبد الله بن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن رقية العقرب والحيّة والنشرة ورقية المجنون والمسحور الذي يعذّب؟ فقال : يا بن سنان لا بأس بالرقية والعوذة والنشرة إذا كانت من القرآن ، ومن لم يشفه فلا شفاه الله تعالى ، وهل شيء أبلغ في هذه الأشياء من القرآن ، أو ليس الله يقول : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٣)؟ أليس يقول الله جلّ ثناؤه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٤)؟ سلونا نعلّمكم ونوقفكم على قوارع القرآن لكلّ داء (٥).

__________________

(١) هو الحارث بن المغيرة النصرى البصري الموثّق الراوي عن الباقر والصادق والكاظم عليهم‌السلام.

(٢) بحار الأنوار ج ٢٦ ص ٣٥٤ ح ١٢ عن البصائر ص ٢٦.

(٣) الإسراء : ٨٢.

(٤) الحشر : ٢١.

(٥) بحار الأنوار ج ٩٥ ص ٤ عن طبّ الأئمّة ص ٤٨.

٥٢٠