تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٥

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

فهذه ثمرة ، وهذا الامتحان واجب عند التهمة ، واحتياط مع عدمها.

الثمرة الثانية : أن الظن طريق إلى أحكام الشريعة في التحليل والتحريم ؛ لأنه تعالى جعلها عند العلم محرمة على الكافر ، مباحة للمؤمن ، والمراد بالعلم الظن ؛ لأن العلم الحقيقي لا طريق إليه في هذه المسألة ، وهذه المسالة إجماعية ، وأما في غيرها فقد قال الإمام يحيى : لا فرق بينهما وأبو مضر قال : يعمل به في التحريم لا في التحليل ، إلا أن يكون مقارب عند المؤيد بالله ، وقسم الأحكام إلى ما يعمل فيه بالظن ، وإلى ما لا يعمل فيه.

الثمرة الثالثة : أن المسلمة لا ترجع إلى زوجها الكافر وهذا جلي ، ولكن هل تبين بنفس الإسلام ، أو بانقضاء العدة ، والمسألة على ثلاثة أوجه :

إن لم يدخل بها بانت بنفس الإسلام وفاقا ، فلو أسلم لم تحل له إلا بعقد ، وكذلك إذا سبي أحد الزوجين ، ثم أسلم الآخر فقد بانت وفاقا ، هذا وجه.

الثاني : لا تبين إلا بانقضاء العدة مع الدخول وفاقا ، وذلك إذا أسلم أحدهما ولم تفترق بهما الدار ، بل هما في دار الحرب معا ، وكذلك إذا أسلمت في دار الحرب ثم دخل زوجها في دار الإسلام ليعقد لنفسه الأمان فأسلم ، ذكر ذلك في الشرح.

الوجه الثالث : مختلف فيه وهو إذا أسلم أحد الحربيين ، وخرج إلى دار الإسلام ، وبقى الآخر فالذي حصل لمذهبنا ، وهو قول الشافعي : أنها لا تبين إلا بانقضاء العدة ، ولا يكون اختلاف الدار مؤثرا في البينونة ؛ لأن صفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل هربا يوم الفتح وأسلمت امرأتيهما وأخذا لهما الأمان ، ثم أسلما فبقى النكاح الأول.

٣٦١

وقال محمد بن عبد الله ، وأبو حنيفة : تبين بالإسلام والهجرة من غير انقضاء العدة ؛ لأن الآية نفت الحل بينهما ، وكما لو سبي أحد الزوجين ، وقد اختلفت الرواية في حديث زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقيل : إنه لما أسلم ردها إليه بعقد جديد ، فيكون حجة لأبي حنيفة ، ومحمد بن عبد الله.

وروي عن ابن عباس أنه ردها بالنكاح الأول فيكون حجة لنا.

وقوله تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ) بين تعالى علة ذلك بقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ) وأكده بقوله : (وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) لأن من حرمت على إنسان حرم عليها.

وفرع على هذا تحريم بيع الأمة المسلمة من الذمي.

قال في البيان : وذلك إجماع ؛ لأنه لا يؤمن عليها ، ووطؤها عليه محرم ، وإنما الخلاف في بيع العبد المسلم من الذمي.

الثمرة الرابعة : تعلق بقوله تعالى : (وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا) وقد اختلف المفسرون هل هذا حكم ثبت ثم نسخ ، أو كان ثبوته لوقوع الصلح عليه يوم الحديبية ، فقال بعضهم : هذه أحكام مصلحية وهو رد المهر على الزوج الذي أسلمت امرأته ، ورد المهر على من أسلم ، وبقيت امرأته فثبت في ذلك الصلح بالشرط ، لا إن لم يكن ثمّ شرط كما كان من قبل ، فلو وقع الصلح الآن على رد المسلمة فحكى في التهذيب ، فعن الهادي وأبي حنيفة : لا ترد ، ولا يرد مهرها.

وعن الشافعي : يرد مهرها ، وقد قال في بيان القاضي محمد بن عبد الله بن أبي النجم في الناسخ والمنسوخ : الذي رجح أئمتنا أنه لا يرد المهر.

وقال الأكثر : في الآية نسخ ، وهو رد المهر على الكافر ، وعلى

٣٦٢

المسلم ، وكان يجب رده من الغنيمة على الكافر إذا أسلمت زوجته وخرجت إلينا يرد المهر من الغنيمة قبل القسمة ، وقد قال ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : المردود هو الصداق.

وقيل : يرد المهر الذي يتزوج بها قيل : والناسخ ما ورد في سورة براءة وقد قال قتادة : نسخ هذا الرد وهذا الحكم براءة.

الثمرة الخامسة : تعلق بقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) وهذه إباحة لتزوج المسلمين للمهاجرات ، لكنها مشروطة بتأدية الأجر وهو المهر.

قال جار الله ـ رحمه‌الله ـ : فإن أريد بذلك ما يؤدى لأزواجهن كان تقدم الأداء شرطا ، وقد تقدم أن هذا منسوخ ، أو أنه كان في ذلك الصلح لا في غيره.

قال : وإن أريد أنهن إذا أعطين على سبيل الفرض ، ثم تزوجن عليه لم يكن به بأس ، وليس المراد أن شرط الإباحة أن يقدم إيتاء المهر ، فإن النكاح ينعقد بغير تسمية لقوله تعالى في سورة البقرة : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة : ٢٣٦].

قال جار الله : وإن أريد بذلك البيان أن ما أعطي أزواجهن لا يقوم مقام المهر ، فهو محتمل للصحة هذا معنى كلامه.

الثمرة السادسة : إذا قلنا بجواز نكاح من خرجت مهاجرة فهل يعتبر لإباحته مضي العدة أم لا؟ مذهبنا أنه لا بد من انقضاء العدة ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد ، والشافعي.

وقال أبو حنيفة : لا عدة عليها إن كانت غير حامل ، وفي الحامل روايتان صحح أبو بكر أنها لا تزوج حتى تضع ، احتج بهذه الآية ؛ لأن الله تعالى نفى الجناح لقوله تعالى : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ)؟

٣٦٣

قلنا : هذا لا يمنع من ثبوت العدة إن قام عليها الدليل ، وحديث صفوان وعكرمة دليل على إثبات العدة ، وكذلك القياس على امرأة المرتد ، فإن عليها العدة وفاقا.

الثمرة السابعة : تعلق بقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) العصم : جمع عصمة وهي ما يتمسك به من عقد أو سبب ، وفيها دلالة على أن التناكح بين المسلمين والكفار لا يصح ، وأنه لا يبتدأ به ، ولا يستمر أن تقدم العقد.

وللمفسرين أقوال في تفسيرها ، فقيل المراد من كانت له امرأة بمكة فلا يعدها من نسائه ؛ لأن اختلاف الدين قطع عصمتها منه ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعن النخعي في المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر.

وعن مجاهد أمر الله تعالى بطلاق النساء الكوافر ، وقد طلق عمر امرأتين له بمكة ، وهما قرينة ، وأم كلثوم ، وطلق طلحة أورى بنت ربيعة.

وقيل : المراد لا تزوجوا الكافرات ، والكوافر قيل : هو جمع كافرة كقابلة ، وقوابل ، وقيل : كوافر جمع كافر كفارس وفوارس.

وقيل : قد يقع على الرجال والنساء ، ويكون على تقدير فرقة كافرة وفرق كوافر. وقيل : يصح للرجال والنساء مثل قول الشاعر :

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

خضع الرقاب نواكس الأبصار

فيكون في الآية دلالة على حصول الفرقة بين المسلم والكافرة ، وبين المسلمة والكافر ، وأبو حنيفة يتمسك بهذه أيضا في أن المسلمة لا عدة عليها ، وجوابه ما تقدم ، وطلاق عمر ، وطلحة.

وما روي عن مجاهد : أمر الله تعالى بطلاق الباقيات على الكفر. وفي هذا دلالة على اعتبار العدة ، وأنها لا تبين إلا بانقضائها ، وأنه لو طلق الزوج وهي في هذه العدة لحقها الطلاق ، وهذا على قول المؤيد بالله ،

٣٦٤

ومن منعه : إن المطلقة رجعيا يلحقها الطلاق ؛ لأنا إذا قلنا لا تبين شبهناه بالطلاق الرجعي.

وأما على قول الهادي : إن المطلقة لا يلحقها الطلاق فلو أسلم الرجل ، ثم طلق امرأته الباقية على الكفر في العدة (١).

وفي هذا أيضا دلالة على أنه لا يجوز نكاح المسلم للذمية ؛ لأنها كافرة بدليل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١] وقد تقدم الخلاف في هذه المسألة ، ودليل كل قول تقدم أيضا.

وقوله تعالى

(وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ) [الممتحنة : ١٠]

يعني : اطلبوا مهر من لحقت من نسائكم بالكفار ، كما يطلبون مهر من فات من نسائهم بالإسلام ، وهذا قد تقدم أنه منسوخ ، وأنه كان في ذلك الصلح ، لوقوعه على هذه الصفة.

وقوله تعالى

(وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) [الممتحنة : ١١]

ثمرتها أن من ارتد من نساء المؤمنين فإنه يجب أن يسلم إليه المهر من الغنيمة ، وقيل : من مال الفيء ، وذلك لأن المرتدة لما لم يكن لها ولي يسلم المهر لزوجها كان ذلك على المسلمين ، والمراد : عاقبتم أي : أصبتم الكفار بعقوبة وذلك هو التغنم لأموالهم ، قيل : أراد بالمعاقبة

__________________

(١) بياض في الأصلين قدر نصف سطر في (ب) وسطر ونصف في (أ).

٣٦٥

المداولة والمراد أنه يجب الرد على زوج المسلمة فإذا عاقبتموهم يعني فاتكم شيء من أزواجكم ، وقد تقدم أنه منسوخ ، أو في ذلك الصلح.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الممتحنة : ١٢]

قيل لما فرغ رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ يوم الفتح من بيعة الرجال وهو على الصفا ، وعمر أسفل منه يبايع النساء بأمره.

وعن الشعبي كان يبايع بيده وعليها ثوب ، وقيل كان عنده قدح ماء غمس يده فيه فغمسن أيديهن وقيل حضرت مجلس رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للبيعة وفيهن هند بنت عتبة امرأة أبى سفيان متنقبة متنكرة خوفا من رسول ـ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما قال : «على أن لا تشركن بالله شيئا» قالت هند : إنك تأخذ علينا أمرا ما أخذته على الرجال ، وكان يبايع الرجال على الإسلام ، والجهاد ، فلما قال : «ولا يسرقن» قالت هند : أن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله. فقال أبو سفيان : جعلتك في حل فعرفها رسول الله وتبسم ، وقال : «إنك لهند». فقالت : نعم فاعف عما سلف ، فلما قال : «ولا يزنين. قالت : أتزني الحرة؟ فلما قال : «ولا يقتلن أولادهن» قالت : ربيناهم صغارا وقتلتهم كبارا ، فأنتم وهم أعلم ، وذلك لأن ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر ، فضحك عمر ، وتبسم رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ فلما قال : «ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهنّ وأرجلهنّ» قالت : إن البهتان يقبح ، وما أمرتنا إلا بمكارم الأخلاق ، فلما قال : «ولا يعصينك في معروف» قالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.

٣٦٦

قيل في قوله تعالى : (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أراد ما كانت الجاهلية عليه من دفن البنات وهي الموءودة ، وقيل لا يمنعن الرضاع في وقت حاجة المولود ، وقيل : هو قتل الأولاد في الأرحام.

وقوله تعالى : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ).

قال ابن عباس : لا يلحقن بأزواجهنّ غير أولادهنّ ، وقيل كانت المرأة تلتقط الولد ، وتقول لزوجها : هو ولدي منك ، فكنى بالبهتان من بين أيديهن وأرجلهن عن ذلك ، وقيل هو السحر ، وقيل التهمة ، وقيل لا يقذف بعضهنّ بعضا ، وقيل الخيانة للزوج.

وقوله تعالى : (وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ).

قيل : أراد في جميع ما تأمرهن ؛ لأنه معروف ، وقيل : فيما شرط عليهن ، ومما شرط ترك النوح ، عن ابن عباس ، وقيل : أخذ عليهنّ ألا يشققن جيبا ولا يدعين بالويل والثبور كفعل الجاهلية ، عن زيد بن أسلم.

وقيل التبرج إلى غير محرم ، ورجح الحاكم الأول ، وقيل ألا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا مع محرم ، وألا ينحنّ ، وألا يخمشن وجوههنّ ، ولا ينتفن شعورهنّ ، ويقرن في بيوتهنّ.

وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لعن الله النائحة والمستمعة ، والحالقة ، والواشمة».

ثمرات الآية : منها : أن الاستيثاق فيما يعرف أنه قوة للمسلمين من البيعة يتوجه على الإمام.

ومنها : أنه يجوز التحليف على الأمور المستقبلة كأن يحلفه ليعطين غريمه حقه رأس الشهر ، وقد حكى علي خليل جواز التحليف على هذه الصفة عند الهادي.

قال : وعند المؤيد بالله لا يحلف على الأمور المستقبلة.

٣٦٧

ويأتي من هذا القبيل لو كان يضارر غيره كان للحاكم أن يحلفه لا ضارره في المستقبل ، وإذا جاز التحليف جاز الاستيثاق بالكفيل ، وهذا كما يعتاد في بعض البلدان من كون الحاكم يضمن من عرف منه الضرار بعدم الاعتراض وقد روي في حديث الدعار أن عليا عليه‌السلام كان يكفل عشائرهم.

ومنها تحريم ما ذكر من قتل الأولاد ، وعدم الرضاء والبهتان المذكور على ما ورد.

ومنه النياحة ، وقد تظاهرت الأخبار بالنهي عنها ، وعن استماعها.

قال في الشفاء : وما ورد أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال يوم أحد : «أما حمزة فلا بواكي له» فاجتمع النساء فنحنّ على حمزة فلما انصرفن أثنى عليهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قال الأمير الحسين : إنا نروي ذلك ونروي نسخه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر من ينهى النائحات على قتلى مؤتة ، وقال لمن أمرهم : «إن سكتن وإلا فاحثوا في أفواههنّ التراب» وغزوة مؤتة متأخرة عن قتل حمزة ؛ لأن يوم أحد في سنة أربع ، وغزوة مؤتة في سنة ثمان.

وأما الإمام يحيى فجوز النياحة ، واحتج بما ورد في حديث قتل حمزة ، وجوز أيضا المقارضة ما لم تؤد إلى الأذية والهجاء.

قال في الانتصار : لما قالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح ، قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خذي ما يكفيك أنت وولدك بالمعروف»

في ذلك دلالة على أحكام :

منها جواز خروج المرأة للحاجة ، وأن كلامهنّ ليس بعورة ، وأن ذكر الإنسان بما فيه يعني طلبا لإزالة التعدي جائز ، وأن الرسول يحكم بعلمه ؛ لأنه لم يسألها البينة ، وأن المرأة تقبض نفقة ولدها وتولّى إنفاقه ،

٣٦٨

وأنها تستحق الخادم ؛ لأنه قد روي أنها قالت : ولا يدخل عليّ ، والمراد لا يخدمها.

قال الحاكم في أحكام الآية :

فيها دلالة على أن الاستغفار لا يكون إلا بهذه الشرائط.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ) [الممتحنة : ١٣]

النزول

قيل كان ناس من فقراء المؤمنين يخبرون اليهود بأخبار المؤمنين ليصيبوا من خيرهم ، فنهوا عن ذلك ونزلت الآية.

وثمرتها : النهي عن موالاة الكفار ، وفي الموالاة ما تقدم.

سورة الصف

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٢ ـ ٤]

النزول

قيل قال قوم : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لسارعنا إليه ، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا عنه عن ابن عباس ، ومجاهد.

٣٦٩

وقيل : نزلت في أقوام كانوا يقولون : جاهدنا وقاتلنا ، وأنفقنا وابتلينا ، وفعلنا ولم يفعلوا ، وهم في ذلك كذبة ، عن قتادة ، والأصم.

وقيل : كان رجل آذى المسلمين يوم بدر فقتله صهيب فقال رجل : أنا قتلت فلانا ، ففرح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال عمر وعبد الرحمن بن عوف : يا رسول الله إنما قتله صهيب ، فنزلت الآية عن سعيد بن المسيب.

وقيل : في قوم قالوا : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لبذلنا فيها أنفسنا وأموالنا ، فأمروا بالجهاد فولوا يوم أحد.

وقيل : أخبروا بثواب الشهداء فقالوا : إن لقينا قتال لنفرغنّ فيه وسعنا ففروا يوم أحد.

وقيل : في المنافقين وسماهم مؤمنين توبيخا وتهكما.

وثمرة الآية : قبح من يقول : ولا يفعل ولكن قد يقبح ويستحق الذنب وهو إن كان عازما ألا يفعل ، وقد يقبح ولا يستحق الذم ، وذلك إذا كان عازما ، وإنما قبح لأنه كذب ، إما في الماضي وإما في المستقبل.

قال أبو علي : ويخرج عن القبح بأن يقول : إن شاء الله ، وقد جاء في الحديث عنه عليه‌السلام خير المقال ما صدقه الفعال ، ويدخل في هذا حسن الوفاء بالوعد ، ونحو ذلك ، وقد قال الله تعالى في شأنه على إسماعيل صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ) [مريم : ٥٤] وفي ذكر من اقتدى بأنبيائه ، ولا حظ امتثال أمر الله ترغيب إلى الخير.

حدثني القاضي الفاضل عبد الله بن عواض [الأسدي] ـ رحمه‌الله ـ ، عن شيخه الأفضل العالم جمال الدين علي بن يحيى الوشلي ـ رحمه‌الله ـ أنه وعد رجلا أن يكري منه حانوتا لمسجد دبة بصعدة بقدر معلوم ، فجاء رجل آخر وبذل زيادة على ذلك القدر فأكرى من الأولى بالزيادة ، وكان يؤدي الزيادة من نفسه ليفي بما وعد ، ويخرج عن عهدة الوفاء بحق المسجد.

٣٧٠

قال الحاكم ـ رحمه‌الله ـ : وفي الآية دلالة على وجوب الوفاء بالنذر ، والدلالة محتملة.

وقوله تعالى

(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف : ٤]

المرصوص : المحكم الذي لا خلل فيه.

وقيل : مأخوذ من البناء بالرصاص ، وفي قراءة زيد بن علي : يقاتلون ـ بفتح التاء ـ ، وقرئ يقتلون ، والقراءة الظاهرة : يقاتلون ـ بكسر التاء ـ.

وثمرة ذلك : الترغيب في الجهاد بمحبة الله وناهيك بذلك مرغبا.

وقوله تعالى : (فِي سَبِيلِهِ) أي : في طريق دينه.

وقوله : (صَفًّا) أي صافين أنفسهم ، وقيل : اجتماعهم في الثبات حتى يكونوا عند اجتماعة الكلمة كالبنيان المرصوص ، وقد استدل بعضهم على فضل القتال راجلا ؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ، وفي قوله : (فِي سَبِيلِهِ) دليل على اعتبار النية في القتال.

وفي ذلك أيضا دلالة على لزوم تهيئة حال المقاتلين على وجه تحصل به النكاية ، وتكون السلامة معه أقرب ، من الاجتماع والاصطفاف ، وعدم التفرق ، والانتشار الذي لا يؤمن معه من ظفر العدو ونكأته ، وغدره ، وفي قراءة زيد بن علي دلالة على فضل المدافعين ، وفي قراءة من قرأ (يقتلون) دلالة على فضل الشهادة.

قوله تعالى :

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف : ٥]

٣٧١

قيل : أذيتهم له مخالفته ، ورد ما جاء به ، وقيل : نسبتهم النقص له ، وأنه آدر وقيل : ببهتانهم له أنه قتل هارون.

وثمرتها : قبح الأذى للمؤمن ، والافتراء عليه ، وأن أذية النبي عليه‌السلام أعظم.

قال الحاكم : وقد تكون كفرا ، ولعله فيما يكون استخفافا.

قوله تعالى :

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) [الصف : ٧]

في ذلك دلالة على أن من دعي إلى الإسلام فكذّب الداعي عالما بكذبه أنه يكون كافرا ؛ لأنه تعالى جعل هذا أبلغ الظلم ، فإذا دعاه نبي إلى الإسلام وحاجه بالقرآن وقال : هو سحر مفتريا كفر ، وقد قيل : ذلك في المنافقين ، وقيل : فيمن كذب عيسى عليه‌السلام ، وقول من يقول : يدخل في هذا المجبرة ؛ لأنهم يدعون إلى الطاعة فيقولون : الله لم يرد منا الإسلام ، والدلالة محتملة ؛ لأنهم يقولون بذلك عن شبهة لا فرية ، وهي العلم من نفوسهم بالكذب.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الصف : ١٠ ، ١١]

ثمرة الآية وجوب الجهاد بالنفس والمال ؛ لأنه تعالى قرن ذلك بالإيمان بالله وبرسوله ، ولأنه تعالى جعل ذلك في مقابلة ترك العذاب الأليم ، وما كان في مقابلة ترك العذاب فهو واجب ، وقد ذكر هذا المنصور بالله في المهذب.

٣٧٢

وقوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ) و (وَتُجاهِدُونَ) هو خبر في معنى الأمر ، والمعنى : آمنوا وجاهدوا ، ولهذا أجيب بقوله : و (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ويدل على هذا قراءة عبد الله بن مسعود : (آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا) ، وهذا معنى قول المبرد ، وما روي عن الفراء أنّ (ويَغْفِرْ لَكُمْ) جواب الاستفهام ، وهو (هَلْ أَدُلُّكُمْ) ، فيتأول على أن الإيمان والجهاد بيان للتجارة ، فكأنه قال تعالى : هل تؤمنون بالله وتجاهدون يغفر لكم ، والجهاد يعم الجهاد بالسيف وبالحجة مع أهل الحرب ، وبالحجة مع المبتدعة ، وجهاد النفس بالصبر عن المحرمات ، وعلى أداء الواجبات ، وقد ذكر ذلك المنصور بالله والمؤيد بالله ، وغيرهم ، واحتج المنصور بالله بهذه الآية ، وبقوله تعالى في سورة براءة : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) وبقوله : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اجعل مالك دون دينك ، فإن جاوزك البلاء فاجعل مالك ، ودمك ، دون دينك».

وأما قوله تعالى : (وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ) فذلك منسوخ بقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) [التوبة : ١٠٣] والأخذ آكد من السؤال.

قال : وللإمام أن يلزم الرعية الضيافة على قدر ما يراه من المصلحة.

وأما قدر ما يخرج من المال فما دعت إليه الحاجة ، وعينه الإمام ، وقد قال المؤيد بالله : من كان له فضل مال يلزم إنفاقه في الجهاد ، ولكن قد ذكرت شروط للأخذ وهي : أن يوزع ما يحتاج إليه على قدر الأموال ، وأن لا يكون مع الإمام بيت مال ، ولا مستحق لبيت المال ، وأن يكون فاضلا عما يكفيه إلى وقت الدخل ، وهل لغير الإمام أن يأخذ.

وفي حواشي المهذب للمحتسب أن يجبر عند المنصور بالله ، وذكره الهادي في مسائل الطبري ، قال والمشهور من المذهب أنه لا يكره على أخذ الأموال إلى الإمام.

وهاهنا نكتة وهي أن الله سبحانه قد رغب في هذه الآية وحث على

٣٧٣

الجهاد بالنفس ، والمال ، بقوله تعالى : (تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) وبالأمر وهو قوله : (وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) وبكونه تعالى أتى به بلفظ الخبر يدل على الثبوت والحصول ، وبقوله : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) والمعنى : خير لكم من أموالكم وأنفسكم ، وبقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهذا وجه خامس من التأكيد والترغيب.

والسادس : قوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

والسابع : قوله : (وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

والثامن : قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ).

والتاسع : قوله : (ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي الظفر المطلوب.

والعاشر : قوله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) والمعنى : ولكم مع الثواب خصلة أخرى ، وهي النصر والفتح.

والحادي عشر : قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) والمعنى : وبشر الذين آمنوا وجاهدوا.

وقال في التهذيب في قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) أي ومواضع يسكنونها طيبة من طيبها لا يبغون عنها حولا.

قال : وسأل الحسن عمران بن الحصين وأبا هريرة عن تفسير (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) فقالا : على الخبير سقطت ، سألنا رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك فقال : «قصر من لؤلؤة في الجنة ، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، على كل سرير سبعون فراشا من كل لون ، على كل فراش امرأة من الحور ، وفي كل بيت سبعون مائدة من كل أنواع الطعام في جنات عدن».

٣٧٤

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ) [الصف : ١٤]

المعنى : لنبيه ولأوليائه ، ويريد أعوانا.

ثمرة ذلك : وجوب المعاونة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا مطابق لقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى).

سورة الجمعة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى

(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) [الجمعة : ٥]

هذا ورد في اليهود ؛ لأنهم حملوا التوراة ، أي : كلفوا العمل بما فيها ، وفيها نعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والبشارة به ، فلم يعملوا بذلك ، بل كذبوا وفي قراءة زيد بن علي ، (حملوا) بفتح الحاء ، والتخفيف ، رواه في عين المعاني ، والمعنى : حملوها ، وكأنهم ما حملوها لعدم العمل بها.

ولهذه الآية ثمرة : وهي ذم من لم يعمل بما علم ، فيدخل في ذلك علماء السوء ، وقد أفرد الحاكم ـ رحمه‌الله ـ بابا في السفينة في ذكر علماء السوء قال فيه : روى جابر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ، وقلب لا يخشع ، ونفس لا تشبع ، ودعاء لا يسمع».

وعن أبي هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن أشد الناس عذابا عالم لم ينتفع بعلمه» وقد مثل الله تعالى من لم يعمل بعلمه بهذا المثل ، ثم قال تعالى :

٣٧٥

(بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ) لأن الحامل للأسفار يتعب بحملها ، فإذا لم ينتفع بما حمل فليس له إلا المشقة والتعب ، والأسفار الكتب ، شعرا :

زوامل للأسفار لا علم عندهم

بجيّدها إلا كعلم الأباعر

لعمرك ما يدري البعير إذا غدا

لحاجته أو راح ما في الغرائر

قوله تعالى

(قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) [الجمعة : ٦ ، ٧]

النزول

قيل : لما قالت اليهود نحن أبناء الله وأحباؤه ، ولنا الجنة دون الناس نزلت هذه الآية.

وثمرتها : أن تمني الموت ممن عرف أنه من أولياء الله جائز.

فإن قيل : فقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، فإن كان ولا بد قال : اللهم أمتني إن كان الممات خيرا لي ، وأحيني إن كانت الحياة خيرا لي»؟

جواب هذا أنه نهى عن تمني الموت لأجل ما يصيبه من البلوى ، وفي الصبر زيادة في الأجر والثواب ، وهو يفضل في هذه المسألة ، ويقال : إنه إن عرف أنه ولي الله ففي الآية دلالة على جواز ذلك ، ولكن هذا لا يحصل إلا ممن دل الدليل على عصمته ، ولم يعرف من أحد من أنبياء الله تمنيه ؛ لأنه لا يكون دعاؤهم إلا بإذن من الله تعالى ؛ لأنه تعالى أمرهم بالصبر على دعاء الخلق ، فإن لم يعرف عصمته ، فإن خشي الفتنة في دينه جاز ، وقد كان سفيان الثوري يتمنى الموت.

٣٧٦

قال في السفينة عن عبد الرحمن بن مهدي قال : كنت كثيرا ما أسمع سفيان الثوري يتمنى الموت فقلت له : يا أبا عبد الله أما بلغك أن النبي عليه‌السلام قال : «لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ، ولكن ليقول اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي ، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي» قال : بلى ، ولكن هؤلاء القوم أحب أن أموت على السلامة منهم.

وإن لم تخف فتنة كره تمني الموت عند أكثر العلماء. وقال بعضهم : لا كراهة في ذلك.

أما محبة الموت فخارجة عن هذا ، وقد جاء في الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه».

وفي كلام علي عليه‌السلام : «ما أبالي سقط الموت عليّ أم سقطت على الموت».

وفي كتب أهل المعاملات دقائق ولطائف ، وأن من أحب الله اشتاق إلى لقائه.

قوله تعالى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ مِنَ اللهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) [الجمعة : ١٠ ـ ١١]

النزول

قيل : أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وأقام بها الاثنين والثلاثاء

٣٧٧

والأربعاء والخميس ، وأسس مسجدهم ، وخرج يوم الجمعة عائدا إلى المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بني عامر بن عوف في بطن واد لهم فخطب وصلى الجمعة ، وكانت أول جمعة جمعها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأول جمعة جمعت بالمدينة أقامها سعد بن زرارة. قال في التهذيب : كانت في المدينة.

وقال في الشرح : كانت أول جمعة جمّعت في الإسلام بعد جمعة جمّعت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جمعه بجواثا قرية من القرى البحرين من قرى عبد القيس.

وروي أن أسعد بن زرارة أول من جمع في حرة بني بياضة ، وهي قرية ليست بمصر ، وهي منفصلة عن المدينة على قدر ميل من بني سلمة.

وفي السنن في بقيع يقال له : بقيع الحصمان.

قال في التهذيب : وكان قوم يجلسون يبتاعون ويشترون إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، فنزلت الآية.

وأما قوله تعالى : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) فروى في مسلم بالإسناد إلى جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يخطب يوم الجمعة فجاء عير من الشام فانتقل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا.

وفي التهذيب أن دحية الكلبي أقبل من الشام بتجارة ، وكان يقدم بما يحتاج إليه ، ويقف في سوق المدينة ، ويضرب بالطبل فقدم قبل إسلامه فخرج إليه الناس ورسول الله يخطب ولم يبق إلا اثنا عشر ، وقيل : أحد عشر ، وقيل : ثمانية ، وقيل : فعلوا ذلك ثلاث مرات لعير تقدم من الشام.

وعن أبي علي : كان الذين خرجوا من المؤمنين.

وقال أبو مسلم : ذلك من المنافقين.

وأما الأحكام المقتطفة من هذه الآية فقد انطوت على خمسة أوامر ،

٣٧٨

وتضمنت النهي عن مفارقة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يخطب ، وهي منطوية على أحكام مجملة ومبينة ، ونحن نتتبع ألفاظ الآية الكريمة.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هذا خطاب للمؤمنين بصريح الآية. قال في التهذيب : والفاسق داخل في هذا الخطاب بالإجماع ، ولعله يقال : إنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم الذين يقتدى بأفعالهم وطاعاتهم ، وهذا يتناول الكفار ؛ لأنهم مخاطبون بالشرائع عندنا والشافعي ، وعند أبي حنيفة ليسوا مخاطبين بالشرائع بل بالإسلام ، فإذا أسلموا تناولهم الخطاب ، والفائدة في أحكام الآخرة وهي هل يعاقبون على الواجبات الشرعية أم لا؟

وأما النساء فلا تجب وفاقا ؛ لأنهنّ غير داخلات في لفظ الآية ؛ لأنه تعالى قال : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) والضمير ضمير المذكر ، وقد جاء الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة : عبد مملوك ، أو امرأة ، أو صبي ، أو مريض».

وفي حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الجمعة واجبة على كل حالم إلا أربعة : الصبي ، والعبد ، والمرأة ، والمريض» والمسألة إجماعية أن المرأة لا جمعة عليها.

قال في التهذيب : لا تجب على النساء والمرضى ، وأما العبد فقيل : إنه يخرج من الوجوب لقوله تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وسعيه حق للسيد ، والظاهر خروجه بالخبر المروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأحد الروايتين عن مالك ، وأصحاب الظاهر أنها تجب على العبد ، وكأن الخبر ما صح لهم.

وأما دخول الأعمى إذا وجد له قائدا فمذهبنا أنه داخل في عموم الآية ، والخبر ، وهو قول الشافعي ، وأبي يوسف ، ومحمد.

وقال أبو حنيفة : لا تجب عليه وإن وجد قائدا ، ويخصه من العموم بما يلحق من المشقة ، فشأنه ما تسقط به الجمعة من الأعذار كالمطر والمرض ، واختاره في الانتصار.

٣٧٩

وأما دخول المسافر فاختلف العلماء في ذلك ، فعند الهادي ، والناصر ، وداود : أنها تجب عليه لعموم الآية ، وهكذا حصل أبو طالب إلا أن يكون سائرا.

وقال زيد بن علي ، والمؤيد بالله ، وأبو حنيفة ، والشافعي : إنها لا تجب على المسافر ، وأنه خارج من العموم بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما رواه جابر : «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا على مريض أو مسافر».

قال أبو طالب : المراد به إذا كان سائرا فإنه لا يجب عليه العدول إلى موضع الجمعة ، وبعضه لم يصح له الحديث ، رواه في النهاية.

وأما الأجير الخاص فقيل : ففي شرح أبي مضر عن المؤيد بالله أنها لا تجب عليه ، وفيه شبهة بالعبد من حيث أن منافعه مملوكة.

وفي التذكرة والحفيظ : أنها تجب عليه.

قيل : ويفرع المقعد على الأعمى فتجب عليه إن وجد من يوصله ، وكذا على السلس إن أمن من تنجس المسجد ، وقد ورد في الحديث عنه عليه‌السلام : «إذا ابتلت النعال فالصلاة في الرحال» فيكون المطر عذرا في الجمعة والجماعة ، ذكره في الانتصار وغيره.

قال في الانتصار : ومن أعذار الجمعة والجماعة الخوف على النفس والمال والعرض بالأذية ، وكذا التمريض للقريب الذي يخشى ضياعه أو عدم توبته ، أو تنبيه في وصيته ، أو تجهيز الميت القريب.

تكملة لهذه الجملة وهي أن يقال : إذا أخرجتم هؤلاء من عموم الخطاب فهو يلزم من هذا أن جمعهم لا تصح إن حضروا كما قال زفر في المملوك والنساء ، وقد قال أهل المذهب وأبو حنيفة والشافعي : إن حضروا وصلوا صحت الجمعة ، وسقط الظهر ، وقد عللوا قولهم : بأن

٣٨٠