تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]

تفسير الثمرات اليانعة - ج ٤

المؤلف:

يوسف بن أحمد بن عثمان [ الفقيه يوسف ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة التراث الإسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٤٤

ثمرات هذه الجملة :

منها : جواز اقتناء الضرائب الذي يتخذها الظلمة وينقش عليها أسماؤهم ، ويأتي مثله في جواز اقتناء الخصيّ من الغلمان ، وقد روي عن مالك : المنع من شرائه ؛ لأن ذلك يجرئ الناس على الخصي.

ومنها : أن التأهب بالزاد وآلة السفر لا ينافي التوكل على الله ، وقد قال جار الله في هذه دلالة على أن حمل النفقة ، وما يصلح للمسافر هو رأي المتوكلين على الله دون المتكلين على ما في أوعيتهم ، ومن ذلك قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ لمن سألها عن محرم يشد عليه هميانه (١) : أوثق عليك نفقتك.

وما حكي عن بعض صعاليك العلماء أنه كان شديد الحنين إلى أن يرزق حج بيت الله ، وتعولم منه ذلك وكانت مياسير أهل بلده كلما عزم منهم فوج على الحج أتوه فبذلوا له أن يحجوا به ، وألحوا عليه فيعتذر إليهم ، ويحمد بذلهم ، وإذا انفضوا عنه قال لمن عنده : ما لهذا السفر إلا شيئان شد الهميان (٢) والتوكل على الرحمن.

ومنها : جواز دخول دار الكفر لحاجة.

ومنها : حسن البحث عن الحلال.

ومنها : جواز طلب الأطيب والأرخص ؛ لأنه قد فسر قوله تعالى : (أَزْكى طَعاماً) أنه أراد أحل وأطيب.

__________________

(١) أجازت له ذلك لأنه ليس بلبس للمخيط ولا يجوز للمحرم لبس المخيط وشد الكيس بوسطه ليس بلبس له تمت.

(٢) المصباح المنير ج : ٢ ص : ٦٤١.

الهميان : كيس يجعل فيه النفقة ويشد على الوسط وجمعه همايين قال الأزهري وهو معرب دخيل في كلامهم ووزنه فعيال وعكس بعضهم فجعل الياء أصلا والنون زائدة فوزنه فعلان.

٢٠١

وقيل : أكثر وأرخص.

ومنها : حسن الملاطفة للكفار إذا خشي فتنة ، وجواز التخفي بالدين ؛ لأنه قد فسر قوله تعالى : (وَلْيَتَلَطَّفْ) بذلك ، وقد روي أنهم شرطوا على من أرسلوه شرطين :

الأول : أن يشتري من أحل الطعام فلا يكون ذبيحة أهلت لغير الله ؛ لأن عامتهم كانوا مجوسا وفيهم مسلمون ، ولا يكون مغصوبا.

والشرط الثاني : التلطف.

وقوله تعالى : (أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا :) يعني إن عدتم.

قال الحاكم : إن قيل : من أظهر الكفر مكرها فإنه يفلح ،

وأجاب بأن هذا في شريعتنا ، ولا نعلم كيف كان شرعهم ، ويجوز أن يكون ذلك الوقت لا بعده.

وقد قال الأصم : قد دلت الآية أنه لم يكن بقية في الكفر عندهم.

قوله تعالى : (لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) هذا قول الملك المسلم وأصحابه.

وقيل : أولياء أصحاب أهل الكهف من المؤمنين.

وقيل : رؤساء البلد.

وأرادوا موضعا : للسجود والعبادة. أما المسجد الحقيقي : فمن شرطه أن لا يكون فيه حق للغير ، فلو بنى مسجد حولي قبر لم يصح حتى يعين للقبر طريق لمن أراد أن يزوره ، ويكون الباقي مسجدا إذا سبله ، هذا في حكم هذه الشريعة.

وإن عين الطريق ولم يعد التسبيل جاء على الخلاف ، هل يصح الوقف في الذمة كما ذكره المؤيد بالله استقر الباقي من غير الطريق

٢٠٢

مسجدا ، أو لا يصح كما ذكرها الأستاذ ، وهو قول الشافعي لم يكن مسجدا.

قوله تعالى

(فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلَّا مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٢ ، ٢٤]

هذه أوامر أمر الله تعالى بها نبيه عليه‌السلام :

الأول : انه لا يماري في أهل الكهف وعددهم إلا مراء ظاهرا.

قال جار الله : يعني نقص عليهم ما أوحي إليك من غير تجهيل ولا تعنيف ، وهذا نظير قوله تعالى : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].

فيكون ثمرة ذلك :

أن الأمر بالمعروف يبدأ فيه بالقول اللين.

وقيل : إلّا مراء ظاهرا ليحضره للناس لئلا يكذبوا ويلبسوا.

وثمرة ذلك :

لزوم الحذر من كيد أعداء الله.

وقوله تعالى : (وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً).

أما في حق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا يجوز أن يرجع إليهم ؛ لأن الله تعالى قد أرشده فلا يسترشد بهم فيسألهم ، ولا يسألهم سؤال تعسف ؛ لأنه خلاف ما أوصاه الله تعالى من المداراة والمجاملة.

وأما غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فلا يجوز ؛ لأنه لا يؤخذ بأخبارهم لعدم الثقة.

وكان هذا بسبب أن أهل نجران العاقب ، والسيد ، وأصحابهما :

٢٠٣

ذكروا أهل الكهف فقال العاقب وكان يعقوبيا : كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم ، وقال السيد (١) : كانوا أربعة خامسهم كلبهم (٢).

وقيل : ذلك في قوم من اليهود.

فإن قيل : فقد حكم بشهادتهم من بعضهم على البعض الآخر ، وهذا رجوع إلى قولهم؟

قلنا : أما من منع الحكم وهو : الشافعي ، ومالك : فلا سؤال عليه.

وأما على قولنا : فلعل هذا مخصص بالخبر ، وهو قوله عليه‌السلام : «لا تقبل شهادة أهل ملة على ملة إلا ملة الإسلام فإنها مقبولة على كل ملة» فمفهومه أن المنع في غير ملة الإسلام على ما يخالفها فقط ، وقد يرجع إلى قولهم في العادات لأجل القرائن ، كما لو كان البائع ذميا ، وأراد بيع شيء في يده وقال : إنه وكيل ، وكذلك على قول من يجوز نكاح الذمية يرجع إليها في الحيض والطهر.

أما خبر كافر التأويل ففي قبول خبره الخلاف السابق.

وقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) في معنى ذلك وجوه :

الأول : أن المراد النهي عن أن يقول في شيء : إني فاعله غدا ، يعني في المستقبل.

(إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أي إلا أن يأذن الله لك أن تقوله.

الثاني : أن معناه لا تقولن : إنك فاعل فعلا في المستقبل ، وتطلق القول لجواز ألا تفعله ، فتكون كاذبا ، بل تقول : أنا فاعله إن شاء الله.

__________________

(١) قال في الكشاف بعد ذكر السيد : وكان يعقوبيا. وذكر العاقب وقال : وكان نسطوريا عكس ما ذكر في الأصل وحاشيته تمت.

(٢) وقال المسلمون : سبعة وثامنهم كلبهم تمت كشاف.

٢٠٤

الثالث : أن قوله : (أَنْ يَشاءَ اللهُ) في معنى كلمة التأبيد ، كأنه قال : ولا تقولنه أبدا ، هكذا ذكر جار الله.

قال : والنهي نهي تأديب ، وذلك لأن اليهود قالت لقريش اسألوه عن الروح ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين فسألوه : فقال : «ائتوني غدا أخبركم» ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه (١) ، فكذبته قريش.

قال الحاكم : الأوجه : أن يكون هذا شرعا مبتدأ للجميع لئلا يلزم الكذب ، والرسول عليه‌السلام إذا أخبر عن إذن جاز من غير استثناء ؛ لأنه لا يكون فيه خلف ، ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام : «إنك ستقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين».

وللاستثناء بإن شاء الله حكمان :

الأول : أن المتكلم يأتي به لئلا يقع في الكذب ، وقد قال الزمخشري : إنه أمر تأديب.

والثاني : أنه إذا علق به حكم كأن يقول لعبده : أنت حر إن شاء الله ، أو لامرأته أنت طالق إن شاء الله ، فالمحكي ـ عن زيد بن علي ، وأبي حنيفة ، والشافعي ـ : أنه يرفع الحكم ، ويبطله.

وقال المؤيد بالله : إنه بمعنى إن بقّاني الله.

والمذكور للهدوية : أنه بمعنى الشرط ، فإن كانت مشيئته تعلق بذلك وقع الحكم ، وإلّا فلا.

وأما الاستثناء بإلّا : فهذا يؤثر في الكلام بلا لبس نحو : له على عشرة إلا درهما. وله أحكام.

__________________

(١) في البيضاوي بضعة عشر يوما ، وفي تفسير النيسابوري في تفسير قوله (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) قال المفسرون : أبطأ جبريل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اثني عشر يوما عن ابن جريج. أو خمس وعشرين : عن ابن عباس ، أو أربعين : عن السدي. ومقاتل : ذكره في الضحى والسبب ما هنا تمت.

٢٠٥

قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)

في هذا أقوال للمفسرين :

الأول : أنّ المعنى ـ بذكر الله ـ أن يذكر كلمة الاستثناء ، وهو : (أَنْ يَشاءَ اللهُ) إذا نسيها ، وهذا حث على ذكرها.

قال ابن عباس : ولو إلى سنة ، وهكذا : عن ابن جبير.

وعن طاوس ، والحسن : ما دام في مجلسه.

وعن عطاء : له مقدار حلب ناقة غزيرة

وعن عامة الفقهاء : لا أثر له ما لم يكن متصلا ، وهذا قول الأئمة ، إلا الناصر.

قال في الكشاف : وروي أن المنصور (١) استحضر أبا حنيفة لينكر عليه مخالفة ابن عباس في الاستثناء ، فلما أنكر عليه قال أبو حنيفة : هذا يرجع عليك ؛ لأنك تأخذ الناس في البيعة بالأيمان ، أفترضى أن يخرجوا من عندك ثم يستثنون ، فاستحسن كلامه ورضي عنه.

وقد رخص من شرط الاتصال في التنفس ، وبلع الريق ، وبدور القيء فهذا لا يقطع.

وقيل : المعنى اذكر الله بالتسبيح إذا نسيت كلمة الاستثناء ، وهذا أيضا حث عليها.

وقيل : اذكر الله تعالى إذا تركت بعض ما أمرك.

وقيل : اذكر الله إذا اعتراك النسيان لتذكر المنسي.

وقيل : اذكر ربك بالاستغفار إذا عصيت : عن عكرمة.

__________________

(١) أبو الدوانيق تمت.

٢٠٦

وقيل : اذكر الله بالحمد إذا نسيت شيئا ، ثم ذكرته ، فإن لم تذكره فقل : (عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا).

وقيل : أراد بهذا قضاء الصلوات إذا نسيها ، فهو كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها فليؤدها إذا ذكرها».

قوله تعالى :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٨ ، ٢٩]

النزول

قيل : نزلت في سلمان ، وأبي ذر ، وصهيب ، وعمار ، وخباب ، وغيرهم ، من فقراء الصحابة.

وذلك أن المؤلفة قلوبهم جاءوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ عيينة بن حصن ، والأقرع بن حابس ، وغيرهما ـ وقالوا : إن نفيت عنك هؤلاء وأرواح ثيابهم ـ وكانوا يلبسون الصوف ـ وجلست في صدر المجلس جلسنا نحن إليك ، وإنّا رؤساء مضر إن نسلم أسلم الناس بعدنا ، والله ما يمنعنا من الدخول معك إلا هؤلاء ، فنزلت الآية : عن ابن عباس ، وغيره.

وقيل : نزلت في أصحاب الصفة (١) ، ـ وكانوا سبعمائة رجل ـ لزموا المسجد يصلون صلاة وينتظرون أخرى ، فلما نزلت قال عليه‌السلام : «الحمد لله الذي جعل من أمتي من أمرت أن أصبر معهم».

__________________

(١) هذا أضعف من الأول لأن السورة مكية والصفة بالمدينة فكيف الالتئام تمت وروي في مجمع البيان عن ابن عباس أن آية واصبر نفسك الآية مدنية فعلا فلا اعتراض تمت.

٢٠٧

وللآية ثمرات :

منها : النهي عن الازدراء بفقراء المؤمنين وأن تنبو عنهم الأعين لرثاثة زيهم ، وتطمح إلى زي الأغنياء ، وحسن شارتهم (١) والحث على مخالطتهم ومجالستهم.

وقد قال عليه‌السلام في آخر الخبر : «وخالط أهل الذلة والمسكنة».

وقد أفرد الحاكم ـ رحمه‌الله ـ في السفينة بابا في حب المساكين ، وروى فيه أخبارا وترغيبات.

منها : ما روي عن أبي ذر ـ رحمه‌الله ـ أوصاني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسبع : (أوصاني : بحب المساكين ، والدنو منهم ، وأوصاني : أن انظر إلى من هو دوني ، ولا انظر إلى من هو فوقي ، وأوصاني : أن أقول الحق وإن كان مرا ، وأوصاني : أن أصل رحمي ولو أوذيت ، وأوصاني : أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأوصاني : أن لا اسأل الناس شيئا ، وأوصاني : أن استكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله ، فإنها من كنوز الجنة).

وكان سليمان بن داود عليه‌السلام إذا دخل المسجد ونظر إلى مسكين جلس إليه وقال : (مسكين جالس مسكينا).

وفي الحديث : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه كان يقول : «اللهم أحيني مسكينا ، وأمتني مسكينا ، واحشرني في زمرة المساكين».

وفي الحديث : عنه عليه‌السلام : «يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم من أيام الآخرة وهو خمسمائة سنة».

__________________

(١) الشارة والشوار اللباس والهيئة تمت.

٢٠٨

شعرا :

لا تعد عيناك مسكينا تلاحظه

فإنما هي أقسام وأرزاق

وكن محبا له ترجو شفاعته

فللمساكين يوم الحشر أسواق

ومنها : الزجر عن الرغبة في رؤية الدنيا.

ومنها : فضيلة الدائمين على دعاء الله تعالى.

ومنها : الزجر عن طاعة أعداء الله ، والميل إلى كلامهم ، والقبول لخبرهم ، وقد جعل القبول لأخبارهم وآرائهم ركونا إليهم ، وقد قال تعالى في سورة هود : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) [هود : ١١٣].

ومنها : أنه لا يترك الشرع بنوع من الاستصلاح ؛ لأنه تعالى قال : (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩] وقد شرط من جوّز العمل بالمصالح المرسلة أن لا تكون مصادمة للشرع ، ومثّل ذلك : بما لو خطب للعيد قبل الصلاة ليتعظ الناس بالخطبة حيث عرف أنهم ينتظرون الصلاة ، ولو صلى أولا نفروا وفات الاتعاظ.

إن قيل ما حكم صلح الأئمة السلاطين الظلمة والتخلية لهم على ما هم عليه من المعاصي بشيء من المال ، وهذا مصادم؟

قلنا : إنما يجوز ذلك حيث عرف أن الهدنة له مصلحة لأمر آخر ، وذلك بأن يكون حربهم سببا لمنكر أغلظ مما هم عليه لا إن لم تكن الهدنة لهم إلا لأخذ المال فيحمل فعل الأئمة على أن صلحهم لخشية منكر أعظم ، وأخذ المال ؛ جائز لأنه من أموال الله تعالى ، وقد صالح صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل نجران بشيء من المال خشية أن ينتقلوا إلى دار الحرب.

إن قيل : هذا يوصل إلى المباح بما صورته صورة المحظور ، وهو تقريرهم على ما هم عليه فأشبه بيع رءوس الكفار من الكفار ، وقد نص الأئمة على أنه لا يجوز ، ورووا أن رجلا من المشركين يوم الخندق وقع

٢٠٩

في الخندق مقتولا ، فطلب المشركين جيفته بعشرة آلاف درهم ، فامتنع صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر بردها إليهم ، ولهذه المسألة نظائر ومسائل تدل على المنع ، ومسائل تدل على الجواز وقد ذكرت في غير هذا الموضع.

المعنى. (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي : أحبسها. قال ذؤيب :

فصبرت عارفة لذلك حرة

ترسو إذا نفس الجبان تطلع

أراد وصف نفسه بالصبر والتجلد على الشدائد. والعارفة : الضائرة من العرف ـ بكسر العين ـ وهو الصبر ، وقوله : ترسو أي : ترسخ وتثبت.

وقوله : (إذا نفس الجبان تطلع) أي : تتضرب ولا تستقر.

وقوله تعالى :

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الكهف : ٢٨]

قيل : أراد دائبين على الدعاء في كل وقت ، وقيل : أراد صلاة الفجر والعصر.

وفي عين المعاني للسخاوندي : وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لئن أصبر مع قوم يذكرون الله من بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس أحبّ إليّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل عليه‌السلام ومن بعد صلاة العصر إلى أن تغرب أحبّ إليّ من مثلهم».

وقيل : أراد الصلوات الخمس ، والغداة والعشي عبارة عن الدوام.

وقيل : خصهما لأن من عمل في وقت الشغل كان بالليل أعمل.

وقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ) يريد الحث على ملازمتهم.

وقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا)

٢١٠

يعني : خذلناه عقوبة لمعصيته فرغب عن مجالسة المساكين.

وقرئ في الشاذ : (أغفلنا قلبه عن ذكرنا) بإسناد الفعل إلى القلب ، أي حسبنا قلبه غافلين.

قيل : هو أمية بن خلف المخزومي. وقيل : عيينة بن حصن الفزاري. وقيل : عام في جميع الكفار.

قوله تعالى :

(الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف : ٤٦]

ثمرة ذلك :

الحث على الاهتمام بالباقيات الصالحات.

واختلف ما أريد بالصالحات : فقيل : الطاعات : عن ابن عباس ؛ لأن ثوابها باق.

وقيل : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر : عن عكرمة ، وابن عباس أيضا ، ومجاهد ، والضحاك ، وروي مرفوعا.

وقيل : هذه بزيادة ولا حول ولا قوة إلا بالله : عن عثمان ، وابن عمر ، وعطاء بن أبي رباح ، وسعيد بن المسيب ، وروي مرفوعا.

وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «استكثروا من الباقيات الصالحات؟ قيل : وما هي ، قال : التكبير والتهليل والتسبيح ، ولا حول ولا قوة إلا بالله».

وقيل : الصلوات الخمس ، وهي (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) عن سعيد بن جبير ، ومسروق ، ونحوه عن ابن عباس.

وقيل : الكلام الطيب عن أبي عبيدة ، وقيل : النيّات الصادقة ، وقيل : التوحيد.

٢١١

رجح الحاكم الطاعات عموما.

من عيون المعاني عن قتادة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذ غصنا يابسا وحرقه حتى سقط ورقه ، وقال : «إن العبد المسلم إذا قال : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذه الورق».

وفي الحديث : «وهن من كنوز الجنة ، وهن الباقيات الصالحات».

قوله تعالى

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) [الكهف : ٥٠]

قد تقدم معنى السجود المذكور ، وأنه لم يرد سجود العبادة له.

قوله تعالى :

(وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) [الكهف : ٥٦]

الثمرة :

أنه يقبح المجادلة بالباطل ، ولا فرق بين أن يجادل محق أو مبطل.

أما المجادلة بالحق : فجائزة ؛ لأن في ذلك أمرا بمعروف ، أو نهيا عن منكر.

قال في البيان : يجوز مع المخالف ، وإن أوحر صدره ، وأما مع الموافق فيشترط أن لا يوحر صدره.

قال في قواعد الأحكام : يشترط أن يقصد الإرشاد لا العلو ، فإن أراد العلو فمحظور ، ويزداد الحظر إذا ظهر التضاحك والسخرية ، ولا يجادل من هذه حاله ؛ لأنه يكون مسببا له إلى فعل المحظور.

وعن الشافعي : أنه كان إذا جادل أحدا قال : اللهم ألق الحق على لسانه.

٢١٢

فصار الجدال منقسما إلى محظور ، وواجب ، ومستحب :

فالمحظور : ما ذكر ؛ لأن ذلك كالأمر بالمعروف إذا أدى إلى منكر.

والواجب : إذا تكاملت شروط الأمر ، والنهي ، وكان إذا لم يجادل حصل المحظور ، أو أخل بالواجب.

والمندوب : إذا جادل في الرد إلى أمر مندوب ولم يحصل حاضر.

قوله تعالى

(وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) [الكهف : ٥٧]

لا يقال : هذا دليل على حسن الأمر بالمعروف ، وإن علم الآمر أنّ أمره لا يؤثر ؛ لأن التبليغ على الرسول عليه‌السلام واجب.

وأما غيره فقيل : إنه لا يحسن ؛ لأنه عبث ، وقيل : بل يحسن ، واختاره الإمام يحيى محتجا بقوله تعالى في سورة الأعراف : (لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ) [الكهف : ١٦٤].

قوله تعالى

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) [الكهف : ٦٠]

قيل : إنه سئل موسى عليه‌السلام : أي الناس أعلم؟ فقال : أنا ، فعتب الله عليه حين لم يرد العلم إلى الله ، فأوحى الله بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر.

وقيل : إن موسى عليه‌السلام سأل ربه أي عبادك أحبّ إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني. قال : فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال : فأي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى ، فقال : إن

٢١٣

كان في عبادك من هو أعلم مني فادللني عليه ، قال : أعلم منك الخضر ، قال : فأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة.

وقوله تعالى : (قالَ لِفَتاهُ)

قيل : أراد عبده ، وقيل : أراد يوشع بن نون ، وإنما قال : فتاه لأنه كان يتبعه ويخدمه ، هكذا في الكشاف. وللآية ثمرات :

الأولى : أن السيد لا يقول : عبدي ولا أمتي ، فإن ذلك يكره ، وكذا يكره أن يقول المملوك للمالك : ربي ، ذكره النووي.

قال في صحيحي البخاري ومسلم : عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقل أحدكم : أطعم ربك وضّ ربك ، واسق ربك ، وليقل : سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم : عبدي أمتي. وليقل : فتاي فتاتي ، وغلامي» لكن أخذ الجواز : لقوله : فتاي من الآية ، والخبر. والمنع : من قوله : عبدي وأمتي من الخبر.

الثانية : استحباب طلب العلم وتحمل المشقة والسفر له كما فعله موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

الثالثة : أن النبي لا يجب أن يكون أعلم أهل زمانه ، فكذا الإمام لا يجب أن يكون أعلم ، وقد ذكر المؤيد بالله أن تقليد المقتصد أولى من تقليد السابق له ؛ لأنه أفرغ للنظر.

فإن قيل : فإذا شرط في الإمام أن يكون أفضل أهل زمانه فإنه يلزم أن يكون أعلمهم ، أما إذا كان الأعلم له مانع فلا إشكال في ذلك ، وأما إذا لم يكن له مانع (١) ... وقد قال الزمخشري : إنه لا نقص على نبي أن يطلب علما من نبي آخر إنما يكون النقص لو طلبه من غير نبي ، وهذا بناء على أن الخضر نبي ، وقد صححه الحاكم.

__________________

(١) بياض في الأصل تمت.

٢١٤

قال : ويجوز أن يرسل إلى أهل قرية ، فاهلكوا بتكذيبه أو بلغهم ، ثم تخلّى للعبادة ، وقيل : ليس بنبي. ومذهب الفضلاء من كافة العلماء : أن المراد بالسائل : موسى بن عمران ، وقد خطئ من قال : إنه موسى بن ميشا لا موسى بن عمران كما ذكرت اليهود.

قوله تعالى في حكاية كلام موسى عليه‌السلام :

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً).

قال الحاكم : دل ذلك على وجوب الاستثناء لئلا يكون كاذبا.

واعلم أنه إن نطق القائل بقوله : إن شاء الله فذلك جلي ، وإن أطلق فالشرط الذي هو الاستثناء مقدر في كلام الفضلاء لعادة المسلمين بالمواعيد مع ترك الاستثناء.

وقوله تعالى في اتباع الخضر :

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً).

قال الحاكم : لأن المصلحة قد تكون بترك السؤال ، ولهذا قال تعالى في سورة المائدة : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) [المائدة : ١٠١].

وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن السؤال في حديث الأقرع بن حابس ، في قوله : «ألعامنا أم لكل عام» فنهاهم عن السؤال (١) ، وبين أن بني إسرائيل أهلكوا بكثرة السؤال لأنبيائهم. لكن إنما يكون السؤال قبيحا : إذا كان للتعنت وطلب الإفحام لا للاهتداء ، وقد قال : صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العلم خزائن ومفاتيحه السؤال» وقد أخذ من هذا أنه ينبغي أن يحسن السائل والتابع الأدب.

__________________

(١) وقد تقدم أن السائل سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن تمت.

٢١٥

قوله تعالى

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٤ ـ ٧٧]

قيل : لما ركبا في السفينة قال أهلها : هما من اللصوص وأمروهما بالخروج ، فقال صاحب السفينة : أرى وجوه الأنبياء.

وقيل : عرفوا الخضر فحملوا من غير نوال ، يعني بغير عطية فلما لججوا (١) أخذ الخضر الفأس وخرق السفينة بأن قلع لوحين من ألواحها مما يلي الماء فجعل موسى يسد الخرق بثيابه وهو يقول : (أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) ، قرئ بالتاء الفوقانية مضمومة بالتشديد والتخفيف في الراء ، وقرئ (ليغرق) بالياء المثناة من تحت ، (وأهلها) مرفوع على أن الفعل لهم.

ثم قال موسى عليه‌السلام : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً).

قيل : الإمر الداهية العظيمة ، عن أبي عبيد : وأنشد :

__________________

(١) أي بلغوا اللجّ تمت.

٢١٦

لقد لقى الأقران منه نكرا

داهية دهياء إدّا إمرا (١)

وقيل : الإمر : الفاسد يقال : رجل إمر أي : ضعيف الرأي. وقيل : العجيب.

قيل : ثم مر الخضر بغلمان يلعبون فأخذ غلاما طريفا وضيء الوجه فذبحه ، عن سعيد بن جبير ، وقيل : ضرب برأسه الحائط.

وقيل : فتل عنقه ، وقيل : ضربه برجله فقتله ، فقال موسى عليه‌السلام : (أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً) ، قرئ (زاكية) بألف وقرئ (زكيّة) بغير ألف.

قيل : معناهما واحد وهي الطاهرة.

وقال أبو عمرو : الزاكية : التي لم تذنب ، والزكيّة : التي أذنبت ثم تابت.

وقول موسى عليه‌السلام : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) ، قرئ بسكون الكاف وضمها ، والنكر : هو المنكر.

وعن الأصم ، وقتادة : هو أعظم من الأمر ؛ لأن القتل أشد في القبح من خرق السفينة ؛ لأنه يمكن إصلاحها ، وقيل : بل خرق السفينة أعظم ؛ لأن قتل نفس واحدة أهون من قتل نفوس.

فلما أتيا القرية وهي أنطاكية : عن ابن عباس.

وقيل : الأيلة وهي أبعد أراض الله من السماء فوجد فيها جدارا ، قيل : كان بناه رجل صالح ، وكان بناه على ظهر الطريق تمر تحته الناس ، وكان طوله في السماء مائة ذراع : عن وهب.

__________________

(١) رواه في الكشاف وفي شرحه في الحاشية رواه بلفظ :

لقد لقي الأقوام منّي نكرا

داهية دهياء إدّا إمرا

والنكر : المنكر. والداهية : الحادثة المكروهة من شدائد الدهر. والدهياء المبالغة في شدتها. والإد : المنكر كل الإنكار. والإمر : الشيء العظيم.

والمعنى يصف نفسه بشدة النكاية للأعداء ويجوز أن يكون الكلام من قبيل التجريد تمت.

٢١٧

وقيل : مائتين ذراع ، وطوله على وجه الأرض خمسمائة.

وإرادة الجدار (١) مجاز فأقامه الخضر.

قيل : رفع الجدار بيده فاستقام (٢) وقد كان قارب السقوط ومال من أسفله عن سعيد بن جبير.

وقيل : أقامه بمنكبيه حتى قام ، وقيل : هدمه ، ثم قعد يبنيه عن ابن عباس ، فقال له موسى ـ وكان قد غضب على أهل القرية لكونهم أبوا أن يطعموهما. وقيل : كانوا أهل قرية لئاما ـ (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) [الكهف : ٧٧].

ولهذه الجملة ثمرات :

منها : حسن دفع الضرر العظيم باليسير ، بل وجوبه ؛ لأنه دفع بالخرق اليسير ضررا أعظم منه وهو الغصب ، ويستوي في ذلك دفع الضرر عن نفسه وعن غيره ؛ لأنه دفع عن المساكين الضرر الذي جهلوه ، هكذا ذكر الحاكم.

وقد ذكر أهل الفقه مسائل من هذا :

منها : إذا وجد الإنسان حيوان غيره يجود بنفسه.

قال أبو مضر : وجب عليه ذبحه ؛ لأن حفظ مال المسلم واجب ، فإذا ذبحه وصدقه المالك فلا ضمان عليه ، وإن لم يصدقه ضمن ، وإن أخل بذبحه أثم ولا ضمان عليه ، إلا أن يكون في يده.

وبنى أبو مضر على أنه يجب الدخول في واجب ، وإن خشي من عاقبته التضمين.

وفرع بعض المتأخرين أنه لا يجب إذا خشي التضمين.

ومنها : من كان في يده شيء لغيره وخاف من ظالم كان له أن

__________________

(١) من قوله تعالى : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ).

(٢) فهي معجزة تمت.

٢١٨

يستفديه بدون قيمته : ذكر هذا أبو جعفر ، وصححه لأن عود بعض النفع أولى من عود جميع المضرة.

وعن الأستاذ : ليس له ذلك ، وقد وسع في هذا صاحب قواعد الأحكام ، واستلزم أن يدفع أعظم المفسدتين بأحقهما حتى قال : يجوز القتال مع الفاسق لإقامة ولايته دفعا للأفسد.

وقال : يجوز إعانته على المعصية لا بكونها معصية ، بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة ، كما يبذل المال ، في فداء أسرى المسلمين من الكفار.

وكذا إذا كان الولاة والحكام من الفساق قدم أقلهم فسقا لئلا تفوت المصالح ، والله تعالى يقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ).

وقد ذكر الأئمة ـ عليهم‌السلام ـ أنه يعان أقل الظالمين ظلما على دفع الأكثر لا على أخذه للمال ، ولو عرف من إعانته أنه يأخذ أقل مما يأخذ الأكثر أعني قبح. وكذا في النهي عن المناكير ، يقدم النهي عن ما هو أكثر قبحا ، فيقدم الدفع عن النفس ، ثم عن العضو ، ثم عن البعض المحرم ، ثم عن المال الأعظم ، ثم عن الحقير ذكره في القواعد.

قال : فإن كان الحقير لفقير [يجحف له] والكثير لغني [لا يجحف]؟

قال : ففيه نظر.

قال الحاكم : وقد علم الخضر أن أهل السفينة لا يغرقون إذ لو عرف غرقهم فذلك أعظم من غصب السفينة.

ومن الثمرات :

أن المنكر المظنون حدوثه في المستقبل كالحاصل ؛ لأنه خرق السفينة مع جواز زوال الظالم بموت أو إقلاع ، وقد ذكر المؤيد بالله نظير هذا فقال : إذا انهزم البغاة لم يجز قتلهم ، إلا أن يظن أنهم إن لم يقتلوا عادوا إلى المبغي عليهم.

٢١٩

ومنها : قوله تعالى : (لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ)

اختلف ما أريد بذلك؟

فقيل : غفلت ، من النسيان الذي هو ضد الذكر.

وعن أبيّ بن كعب : أنه لم ينس ، ولكن هذا من معاريض الكلام التي ينتفي معها الكذب مع إرادة التعريض ، كقول إبراهيم عليه‌السلام : هذه أختي ـ يعني سارة ـ وأراد : إخوة الدين ، (إِنِّي سَقِيمٌ) [الكهف : ٨٩] فيستثمر جواز المعاريض.

ومنها : ما يتعلق بقتل الغلام : ـ

وذلك أنه يجوز العدالة (١) بالظاهر ؛ لأن موسى سماه نفسا زاكية ؛ إما لأنها طاهرة عنده لم يعرف منها معصية ، وإما لأنها صغيرة لم تبلغ الحنث.

وفي هذا بحث وهو أن يقال : ما المبيح للخضر عليه‌السلام في قتل هذا الغلام؟ قلنا : في هذا وجوه :

الأول : أنه كان بالغا ، ولكن سماه غلاما لقرب عهده به ، وهذا مروي عن الأصم ، وهذا كقول الأخيليّة (٢) في الحجاج :

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام إذا هز القناة شفاها

__________________

(١) أي : الحكم بالعدالة.

(٢) هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال بن شداد بن كعب الأخيلية من بني عامر بن صعصعة سميت الأخيلية لقول جدها أو لقولها :

نحن الأخايل ما يزال غلامنا

حتى يدب على العصا

وقيل أبوها الأخيل بن ذي الرحالة بن شداد بن عبادة بن عقيل توفيت في ٨٠ / ه

اذا هبط الحجاج ارضا مريضة

تتبع اقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها

غلام اذا هز القناة سقاها

سقاها دماء المارقين وعلها

اذا جمحت يوما وخيف اذاها

٢٢٠