رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٩

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ٩

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-111-7
الصفحات: ٤٦٩

وهو شاذّ ، والمصير إلى الأوّل متعيّن ؛ لعموم ما دلّ على لزوم الوفاء بالشروط.

ومنه يظهر الوجه في لزوم الشرط في صورة العكس ، وهي اشتراط العامل ما عليه على المالك ، لكن فيها يفرق بين صورتي اشتراط الجميع والبعض ، فيبطل في الأُولى ؛ لمنافاته لمقتضى العقد.

ولا خلاف فيه وفي أصل الاشتراط مطلقاً ، كان المشروط أقلّ أو أكثر ، بل في ظاهر المسالك الإجماع عليه (١) ، إلاّ من المبسوط ، كما في المختلف (٢) فيما إذا ساقاه بالنصف على أن يعمل ربّ المال معه ، فأبطل به المساقاة ، بناءً على أن وضعها على أن مِن ربّ المال المال ومِن العامل العمل كما في القراض.

وفيه على إطلاقه منع ، مع أنه منقوض بتسويغه اشتراط العامل على المالك أن يعمل معه غلامه ، وأن يكون على المالك بعض العمل ، فيلكن هذا مثل ذلك ؛ لأنه من قبيله ، بل قيل : إنه نفسه (٣).

ومنه أيضاً (٤) فيما إذا ساقاه على أن اجرة الأُجراء الذين يعملون معه ويستعان بهم من الثمرة ، فأفسد به المساقاة ؛ لاستلزامه كون المال والعمل معاً من ربّ المال ، وهو منافٍ لوضعها ، كما مرّ.

وهو حسن إن لم يبق للعامل عمل يستزاد به الثمرة ، وإلاّ فهو محلّ مناقشة ، بل ظاهر المختلف وصريح المهذب (٥) الاكتفاء في الصحة بمجرّد‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٢٩٨.

(٢) المختلف : ٤٧٢ ، وهو في المبسوط ٣ : ٢١١.

(٣) كما في المختلف : ٤٧٢.

(٤) المبسوط ٣ : ٢١٧.

(٥) المختلف : ٤٧٢ ، المهذب البارع ٢ : ٥٧٤.

٤٠١

العمل وإن لم يكن فيه مستزاد للثمرة ، كالحفظ والتشميس والكبس في الظروف ونحو ذلك. ولا ريب في ضعفه.

( ولا بُدّ أن تكون الفائدة مشاعة ) كما في المزارعة ، بلا خلاف ؛ لعين ما مرّ فيها من الأدلّة (١) ( فلو اختصّ بها أحدهما لم تصحّ ) المساقاة ؛ لفقد شرطها.

لكن يختلف الحكم في ذلك بين ما لو كان المشروط له جميعها العامل أو المالك ، فإن كان الأوّل كان الثمرة كلها للمالك ، وللعامل اجرة المثل مع جهله بالفساد ، كما هو الحكم في كلّ مساقاة باطلة ، وسيأتي إليه وإلى وجهه الإشارة (٢).

وإن كان الثاني فالأقوى أنه لا اجرة له ؛ لدخوله في العمل على وجه التبرّع فلا اجرة له ولا حصّة ، كما في البضاعة.

وفيه احتمال ضعيف بثبوت الأُجرة.

ونحو اختصاص أحدهما بالفائدة في بطلان المعاملة ما لو شرط لنفسه شيئاً معيّناً وما زاد بينهما ، أو قدّر لنفسه أرطالاً أو ثمرة نخلة معيّنة.

ووجه البطلان فيهما بالخصوص مرّ في المزارعة فيما حكيناه من كلام ابن زهرة (٣).

ويجوز اختلاف الحصّة في الأنواع ، كالنصف من العنب والثلث من الرطب ، أو النوع الفلاني ، إذا علما الأنواع ؛ حذراً من وقوع أقلّ الجزءين لأكثر الجنسين مع الجهل بها فيحصل الغرر.

__________________

(١) راجع ص : ٣٦٨.

(٢) في ص : ٤٠٥.

(٣) راجع ص : ٣٦٩.

٤٠٢

ولو ساقاه بالنصف إن سقى بالناضح وبالثلث إن سقى بالسائح بطلت ، على الأشهر الأظهر ؛ لأن الحصّة لم تتعين ، وإن هي حينئذٍ إلاّ كالبيع بثمنين إلى أجلين مختلفين ، والمعتمد فيه البطلان ، كما مرّ في بحثه (١).

ويحتمل الصحة إن قيل بها ثمّة وكان مستندها منع الجهالة دون الرواية خاصّة.

وإن كانت هي الحجة خاصّة فيها ثمة كانت الصحة هنا ممتنعة ؛ للجهالة ، مع عدم وجود مخصّص لحكمها من إجماع أو رواية ، وإلحاقها بالبيع قياس فاسد في الشريعة.

( وتملك ) الفائدة ( بالظهور ) من دون توقّف على بدوّ الصلاح ، بلا خلاف بيننا كما في المسالك ، وفيه عن التذكرة الإجماع عليه (٢) ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى ما مرّ في المضاربة (٣) ، ولذا تجب الزكاة على كلّ من المالك والعامل إذا بلغ نصيبه الزكاة ، لوجود شرط الوجوب وهو تعلّق الوجوب بها على ملكه.

خلافاً للغنية (٤) ، فأسقطها من العامل ؛ محتجّاً بأن حصّته كالأُجرة.

وهو ضعيف غايته ، بل انعقد الإجماع ممن بعده على فساد ما ذكره ؛ لأن الأُجرة إذا كانت ثمرة أو زرعاً قبل تعلّق الوجوب وجبت الزكاة على الأجير ، كما لو ملكها كذلك بأيّ وجه كان ، وإن أراد كالأُجرة بعد ذلك فليس محل النزاع إلاّ أن يذهب إلى أن الحصة لا يملكها العامل بالظهور ،

__________________

(١) راجع ص : ٣٣٣ من ج ٨.

(٢) المسالك ١ : ٣٠٢ ، وهو في التذكرة ٢ : ٣٤٩.

(٣) راجع ص : ٣٥٢.

(٤) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٢.

٤٠٣

بل بعد بدوّ الصلاح وتعلّق الزكاة ، لكنه خلاف الإجماع ، ومع ذلك لا يتمّ التعليل بالأُجرة ؛ لاجتماعها مع وجوب الزكاة فيها كما عرفت ، بل اللازم التعليل بتأخّر ملكه عن الوجوب.

ولو كان المساقاة بعد تعلّق الزكاة وجوّزناها بأن بقي من العمل ما فيه مستزاد الثمرة حيث جوّزناها مع ذلك اتّجه ما ذكره من وجوب الزكاة في حصّة العامل على المالك ؛ لتعلق الوجوب بها على ملكه.

( وإذا اختلَّ أحد شروط المساقاة ) المعتبرة في صحتها ( كانت الفائدة للمالك ) لأنها تابعة لأصلها ، ولا ناقل سوى العقد ، وقد بطل بحكم الفرض.

( وللعامل الأُجرة ) أُجرة المثل إذا لم يكن عالماً بالفساد ، ولم يكن الفساد بشرط عدم الحصّة للعامل ؛ لأنه لم يتبرّع بعمله ولم يحصل له العوض المشروط له فيرجع إلى الأُجرة. ولا كذلك مع أحد الأمرين ؛ لقدومه حينئذٍ على أن لا شي‌ء له.

ولا خلاف ولا إشكال في شي‌ء من ذلك إلاّ في استحقاقه الأُجرة حيث يستحقها لو زادت عن الحصّة ، فأحتمل في المسالك الاكتفاء بها عن الأُجرة ؛ لقدومه على أن لا يكون له سواها في مقابلة عمله ، حتى لو كانت في مقابلة عشر العمل لكان مسقطاً للزائد ، فيكون متبرّعاً للزائد على هذا التقدير ، كما تبرّع به على تقدير اشتراط جميع الثمرة للمالك ، وعلى تقدير عليه بالفساد (١).

وفيه أوّلاً : أن ذلك لو صلح دليلاً للاكتفاء بالحصّة عن الأُجرة الزائدة‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٢٩٩.

٤٠٤

لصلح دليلاً لنفي الأُجرة بالمرّة حيث لا تحصل فائدة بالكلية ؛ لقدومه على أن لا شي‌ء له لو فسدت الثمرة ولم تكن هناك فائدة ، وليت شعري كيف لم يستدلّ به على ذلك مع كونه أوفق بالأصل؟!

وثانياً : بأن الحصّة إنما وجبت بحيث لا تجوز الزيادة ولا النقيصة ، من حيث اشتراطها في العقد اللازم على تقدير الصحة ، وصار الحكم في المسألة مبنياً على قاعدة أُخرى من كونه عملاً موجباً للأُجرة ، وأن الداخل فيه إنما دخل بذلك ولكن لا تسلم له ، لظهور فساد المعاملة ، فلا بُدّ لعمله من اجرة ، ورضا العامل بتلك الحصّة على تقدير صحة المعاملة لا مدخل له في مفروض المسألة ، لمغايرتهما ، ورضاه بالأقلّ ثمّة لا يوجب الحكم به عليه هنا إلاّ أن يتجدّد رضا آخر منه بذلك ، والمفروض عدمه ، وإلاّ فلا كلام معه.

وثالثاً : بما ذكره في الكتاب المشار إليه من أنه لم يقدم على التبرّع بعمله أصلاً ، بل كما يحتمل أن تكون الحصّة قاصرة عن مقابلة العمل يحتمل مساواتها له وزيادتها عليه أضعافاً مضاعفة ، فهو قادم على عمل محتمل للزيادة والنقيصة ، فليس متبرّعاً به بالكلية ، وإن احتمل قصورها في بعض الأزمنة ، بخلاف العالم وشارط جميع الحصة للمالك ، فإنه في ابتداء الأمر قادم على التبرّع المحض على أيّ تقدير.

( ويكره أن يشترط المالك ) (١) على العامل ( شيئاً من ذهب أو فضة و ) لكن ( يجب الوفاء به لو شرط ) عملاً بما دلّ على لزومه من الكتاب والسنة ( ما لم تتلف الثمرة ) يُخرج منها شي‌ء ، ولو تلفت أو عدمت‌

__________________

(١) في المختصر المطبوع زيادة : مع الحصّة.

٤٠٥

لم يجب الوفاء به.

بلا خلاف في شي‌ء من ذلك حتى الكراهة ، كما في المسالك (١) ، وعلّلت مع ذلك في المهذب وغيره (٢) بجواز كون الخارج بقدر الشرط أو أقل ، فيكون عمله ضائعاً موجباً للضرر المنفي عقلاً وشرعاً ، مع احتمال خروج العامل بذلك عن الرشد ودخوله في السفهاء. وفيه نظر.

ووجّه في المسالك وغيره (٣) سقوط المشروط مع تلف الثمرة أو عدمها بأجمعها أنه لولاه لكان أكل مال بالباطل ؛ فإن العامل قد عمل ولم يحصل له عوض فلا أقلّ من خروجه رأساً برأس.

نعم ، لو كان الشرط للعامل على المالك اتّجه عدم سقوطه ؛ لأن العوض من قبل العامل وهو العمل قد حصل ، والشرط بالعقد قد وجب ، فلا وجه لسقوطه.

وربما قيل بمساواته الأوّل (٤). وهو ضعيف.

ولو كان التالف في الصورة الأُولى البعض خاصة فهل يسقط من المشروط بالنسبة ؛ لمقابلة الأجزاء بالأجزاء حيث قوبلت الجملة بالجملة؟ أو لا ؛ لأصالة العدم ، وأن المعتبر حصول عوض العمل ولا اعتبار بكثرته وقلّته ، ومن ثمّ لا يسقط من العمل شي‌ء بتلف بعض الثمرة أو أكثرها؟

قولان ، أجودهما الثاني ، وفاقاً للشهيد الثاني (٥). خلافاً للمحكي في بعض الحواشي عن المحقق الثاني.

__________________

(١) المسالك ١ : ٢٢٩.

(٢) المهذّب البارع ٢ : ٥٧٥ ؛ وانظر مجمع الفائدة ١٠ : ١٣٠.

(٣) المسالك ١ : ٢٩٩ ؛ وانظر جامع المقاصد ٧ : ٣٧٠.

(٤) حكاه في جامع المقاصد ٧ : ٣٧٠ ، عن ظاهر إطلاق عبارة التذكرة والتحرير.

(٥) المسالك ١ : ٢٩٩.

٤٠٦

ولا يخلو عن قوّة حيث لا يكون الباقي من الثمرة يوازي العمل لقلّته ؛ بناءً على انسحاب علّة السقوط في صورة تلف الثمرة بأجمعها هنا ، إلاّ أنها لمّا لا يخلو عن شي‌ء من أصلها وكان الإجماع هو العمدة في علّة السقوط في تلك الصورة كان عدمه هنا أقوى ؛ عملاً بالأصل الدالّ على لزوم الوفاء.

وهل يلحق باشتراط الذهب والفضة في الجواز مع الكراهة اشتراط حصّة من الأُصول الثابتة؟

قولان ؛ لعموم دليل الجواز في الملحق به ، وأنّ مقتضى المساقاة جعل الحصّة من الفائدة ، وأن الحصّة من الأُصول تدخل في ملكه ، فلا يكون العمل المبذول في مقابلة الحصة واقعاً في ملك المالك ، ولا واجباً بالعقد ؛ إذ لا يعقل أن يشترط العمل في ملك نفسه.

ومنه يظهر الوجه في الفرق بينه وبين اشتراط النقدين ، وحاصله أنه فرق بين أن يكون الشرط من غير المال الذي يعمل به وبين أن يكون منه ؛ لأن جعل العوض الحاصل للعامل وهو الحصّة من النماء إنما هو في مقابلة العمل بجميع المال المعقود عليه ، وإذا صار له جزء من الأصل لم يحصل العمل بجميع المال المملوك للمالك ، فلم يستحق مجموع الحصة المشترطة ؛ لإخلاله بالشرط وهو العمل بالجميع ، فيبطل العقد.

وفيه نظر ؛ لاحتمال أن يكون اشتراط الحصة من الأصل كالاستثناء من العمل بجميع المال المملوك ، وبياناً لأن ما يستحقه من الحصّة من الثمرة بعضها في مقابلة العمل بما يخصّ المالك من الأُصول الثابتة والباقي بتبعيّته للملك الحاصل له بالشرط في العقد اللازم.

ومع هذا فالمنع أوجه ، وفاقاً للأكثر ، كالطوسي والحلّي وفخر الدين‌

٤٠٧

والمسالك والمفلح الصيمري (١) ، بل لم أقف على مخالف صريحاً ، بل ولا ظاهراً عدا الماتن في الشرائع (٢) ، حيث تردّد ، ونحوه الفاضل في القواعد (٣) ، بعد جزمهما بالمنع ، اقتصاراً في هذه المعاملة المخالفة للأُصول على المجمع عليه المتيقن.

__________________

(١) الطوسي في المبسوط ٣ : ٢١١ ، الحلي في السرائر ٢ : ٤٥٥ ، فخر الدين في إيضاح الفوائد ٢ : ٢٩٤ ، المسالك ١ : ٢٩٩.

(٢) الشرائع ٢ : ١٥٧.

(٣) القواعد ١ : ٢٤٠.

٤٠٨

( كتاب الوديعة والعارية ) ‌

( أمّا الوديعة : فهي استنابة في الاحتفاظ ) خاصّة ، فخرج نحو الوكالة والمضاربة والإجارة ؛ لأنَّها استنابة فيه مع شي‌ء زائد وهو التصرف ، بل هو المقصود بالذات منها دون الاستنابة ، بعكس الوديعة ، لكونها المقصود بالذات فيها دون أمر آخر.

والأصل فيها بعد إجماع الأُمة المحكي في كلام جماعة ، كالغنية والمهذب والتذكرة (١) الكتاب ، والسنة المتواترة الخاصيّة والعاميّة ، قال الله سبحانه ( إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ) (٢).

وفي النبوي العامي : « أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك » (٣) ونحوه الخاصيّة المتواترة التي سيأتي إلى جملة منها الإشارة (٤).

( وتفتقر إلى الإيجاب والقبول قولاً كان ) كلّ منهما ( أو فعلاً ) ولا يشترط في القول حيث إنها من العقود الجائرة الصراحة بل يكتفي فيه بنحو من التلويح والإشارة إذا كانت لمعناها مفهمة.

ووجه الاكتفاء بالقبول الفعلي أنه ربما كان أقوى من القولي باعتبار التزامه دخولها حينئذٍ في ضمانه مع التقصير ؛ لعموم : « على اليد ما أخذت‌

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٠ ، المهذب البارع ٣ : ٧ ، التذكرة ٢ : ١٩٦.

(٢) النساء : ٥٨.

(٣) تفسير أبي الفتوح الرازي ٢ : ٥٢٦ ، المستدرك ١٤ : ١١ أبواب كتاب الوديعة ب ٢ ح ١٣.

(٤) في ص : ٤١٣.

٤٠٩

حتى تؤدّي » (١).

وقيل : إن كان الإيجاب بلفظ : أودعتك ، وشبهه وجب القبول لفظاً ، وإن قال : احفظه ، ونحوه لم يفتقر إلى اللفظ (٢).

ووجهه غير واضح ، كما صرّح به من متأخّري متأخري الأصحاب جماعة (٣).

وكيف كان ، فلا يجب المقارنة بين الإيجاب والقبول ، بلا خلاف يظهر ، وبه صرّح في المفاتيح (٤). ولا ريب فيه ولا شبهة حيث يكون القبول فعليّاً ، ولو كان قوليّاً ففيه نوع مناقشة لولا حكاية عدم الخلاف التي هي حجة عامّة ، مؤيّدة بإطلاقات أخبار الوديعة.

ولو طرحه عنده من غير ما يدلّ على الإيداع من قرينة ولو حالية ولم يحصل القبول فعلاً لم يلزم الحفظ مطلقاً ، بلا خلاف يظهر ، إلاّ من الكفاية حيث أثبت الوديعة لو حصل ثمّة قبول لفظي ، مدّعياً كون مجرّد الطرح دالاّ على الوديعة (٥).

وفيه مناقشة حيث لم تنضمّ إليه قرينة من عرف أو عادة.

وحيث لم تثبت ، لو ذهب المستودَع وتركه فلا ضمان عليه ؛ للأصل. لكن قيل : يأثم إن كان ذهابه بعد غيبة المالك ؛ لوجوب الحفظ من باب الإعانة على البرّ ومعاونة المحتاج على الكفاية (٦).

__________________

(١) مستدرك الحاكم ٢ : ٤٧ ، عوالي اللئلئ ٢ : ٣٤٥ / ١٠ ، سنن البيهقي ٦ : ٩٠.

(٢) حكاه في التذكرة ٢ : ١٩٧ عن بعض العامّة ، وقال في المسالك ١ : ٣٠٣ : وهو كلام موجّه.

(٣) منهم : الأردبيلي في مجمع الفائدة ١٠ : ٢٧٤ ، وتنظّر فيه في الكفاية : ١٣٢.

(٤) مفاتيح الشرائع ٣ : ١٦٢.

(٥) الكفاية : ١٣٢.

(٦) المسالك ١ : ٣٠٣.

٤١٠

وفي كونه فسخاً للوديعة حيث ثبت قول ، جزم به في التذكرة (١).

وهو حسن إن قرنه ما يدلّ عليه ، وإلاّ فهو محل مناقشة ، سيّما إذا كان القبول فعلاً ؛ لأصالة بقاء حكم الوديعة ، وعموم الرواية المتقدمة.

ولو حصل ذلك بعد غيبة المالك ضمن قولاً واحداً. ولا ريب فيه حيث يكون تفريطاً ، ولعلّه مراد الجماعة.

( ويشترط فيهما الاختيار ) بلا خلاف ولا إشكال ، فلو اكره المودِع في الإيداع لم يؤثّر ؛ لعدم الإذن في الاستنابة حقيقة. وكذا لو اكره المستودَع على القبض لم يضمن مطلقاً ، إلاّ مع الإتلاف ، أو وضع يده عليه بعد ذلك مختاراً ، فيضمن حينئذٍ جدّاً ؛ لعموم الخبر المتقدّم.

وهل تصير بذلك حينئذٍ وديعة لا يجب ردّها إلاّ مع طلب المالك أو من يقوم مقامه ، أو أمانة شرعية يجب إيصالها إلى المستحق فوراً ، وبدونه يضمن مطلقاً؟ وجهان.

وربما يفرق بين وضع اليد عليها اختياراً بنية الاستيداع وعدمه ، فيضمن على الثاني مع الإخلال بما يجب عليه دون الأوّل ؛ إعطاءً لكلّ واحد حكمه الأصلي.

ولا يخلو عن وجه ، وإن كان الثاني أوجه ؛ لكونه الموافق للأصل الدالّ على عدم جواز التصرف في ملك الغير ، ووجوب إيصاله إليه فوراً ، خرج منه الوديعة المعلومة إجماعاً ، فتوًى ونصّاً ، وبقي ما عداها ولو ما يشك كونه وديعة كما هو الفرض ؛ للشك في تأثير الإذن السابق في ثبوتها داخلاً تحته جدّاً ، مع أنه أحوط وأولى.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ١٩٧.

٤١١

ومما حققناه ظهر وجه الفرق بين الأمانتين ، وضابطه : أنه مع وضع اليد بإذن المالك أو مَن في حكمه يكون وديعة ، وبدونه مع عدم الغصب أمانة شرعية.

ووجه الضمان فيها مع الإخلال بما يجب عليه من الردّ فوراً بعد الإجماع الخبر المتقدّم ، وهو وإن عمّ صورة عدم الإخلال بذلك أيضاً إلاّ أنها مخصّصة بالإجماع المتأيّد بالأصل والاعتبار جدّاً.

( و ) يجب على المستودَع أن ( يحفظ كلّ وديعة ) قَبِلَها لفظاً أو فعلاً ، بلا خلاف ولا إشكال في الثاني ؛ لعموم الخبر المتقدم. وكذا في الأوّل مطلقاً ولو فسخ عقدها وخرج عن الاستيداع ، فيجب إلى أن يردّها إلى مالكها ؛ لاستلزام تركه إضاعة المال المنهيّ عنها في الشريعة ، مع استلزامه الضرر على المالك بتغريره له بقبولها ، وهو منفي قطعاً ، فتوى ورواية.

مضافاً إلى إطلاق الأدلّة من الكتاب والسنة بردّ الأمانة الشامل لمفروض المسألة ، ولا يتمّ إلاّ بالحفظ ، فيجب ولو من باب المقدمة.

فمنها زيادة على ما مرّ إليه الإشارة المستفيضة ، منها : « أدّوا الأمانات إلى أهلها وإن كانوا مجوساً » (١). وفي آخر : « ولو إلى قاتل أولاد الأنبياء » (٢).

ومنها : « لو أنّ قاتل علي عليه‌السلام ائتمنني على أمانة لأدّيتها إليه » (٣)

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٢ / ٢ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٣ ، الوسائل ١٩ : ٧٣ أبواب أحكام الوديعة ب ٢ ح ٥.

(٢) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٣ ، الخصال : ٦١٤ ، الوسائل ١٩ : ٧٣ ، ٧٦ أبواب الوديعة ب ٢ ح ٦ ، ١٤.

(٣) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٤ ، الوسائل ١٩ : ٧٢ أبواب أحكام الوديعة ب ٢ ح ٢ ، ورواه الصدوق في أماليه : ٢٠٤ / ٥ عن عمر بن يزيد.

٤١٢

وبمعناه غيره (١) ، إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة.

وأسانيدها وإن كانت ما بين ضعيفة وقاصرة عن الصحّة إلاّ أنها بالإجماع وظاهر الكتاب المؤيّد بما قدّمناه منجبرة ، مع قوّة احتمال كونها متواترة ، فترتفع المناقشة في السند من أصلها بالمرة ، هذا.

مضافاً إلى ما سيأتي من المعتبرة الدالّة على الضمان مع مخالفة أمر المالك في المحافظة ، وبالجملة لا شبهة في المسألة.

وينبغي أن يكون الحفظ ( بما جرت به العادة ) من مكان الوديعة وزمانها ؛ لعدم التعيين من قبل الشارع فيرجع إليها ، فليحرز نحو الثوب والنقد في الصندوق المقفل أو الموضوع في بيت محرز عمن يخاف منه عليه عادة ، لا عن الغير مطلقاً كما في المسالك والروضة وعن التذكرة (٢) ؛ لعدم اعتبار مثله في الحفظ عادة ، بل يعدّ الحفظ بما ذكرناه حفظاً ولو لم يحرز عمن لا يخاف منه عليه كالأهل والشريك جدّاً ، فاعتبار الحرز عن الغير مطلقاً كما في الكتب المشار إليها غير سديد قطعاً.

والدابة في الإصطبل المضبوط بالغلق.

والشاة في المراح كذلك ، أو المحفوظ بنظر المستودع.

وهذه الثلاثة مما جرت العادة بكونها حرزاً لما ذكر ، وقد يفتقر إلى أمر آخر ، ككون الصندوق المذكور كبيراً ، أو موضوعاً في محل لا يعتاد سرقته منه ، أو يقوم غيرها مقامها عادة ، كوضع الدابة في بيت السكنى ، أو الشاة في داره المضبوطة.

__________________

(١) الكافي ٥ : ١٣٣ / ٥ ، التهذيب ٦ : ٣٥١ / ٩٩٤ ، الوسائل ١٩ : ٧٤ أبواب أحكام الوديعة ب ٢ ح ٨.

(٢) المسالك ١ : ٣٠٥ ، الروضة ٤ : ٢٣٩ ، التذكرة ٢ : ٢٠٠.

٤١٣

وبالجملة الضابط ما يعدّ به في العرف حافظاً غير مقصّر في الحفظ أصلاً ، وهو يختلف باختلاف الأحوال والعادات جدّاً ، وإنما ذكرت الأمثلة ونحوها في عبارات الأصحاب توضيحاً.

ولا فرق في وجوب الحرز على المستودع بين من يملكه وغيره ، ولا بين من يعلم المودع أنه لا حرز له وغيره ، فلو أودعه دابَّة مع علمه أنه لا إصطبل له أو مالاً مع علمه بأنه لا صندوق له لم يكن عذراً ، فيضمن مع عدم الحفظ.

ثم إنّ كلّ ذا إذا لم يعيّن المالك حرزاً ( ولو عيّن المالك حرزاً اقتصر عليه ) وجوباً ، بلا خلاف فيه في الجملة ، ( ولو نقلها إلى أدون أو أحرز ضمن ) إجماعاً في الأوّل ، كما في الغنية والمسالك (١).

ووفاقاً للمحكي عن الحلّي والمحقق الثاني والمسالك والروضة (٢) في الثاني ؛ عملاً بمقتضى التعيين ، واختلاف الأغراض في ذلك.

وبه يظهر حكم النقل إلى المساوي بفحوى الخطاب.

خلافاً للشيخ (٣) رحمه‌الله فيه. وهو قياس باطل ، إلاّ أن يكون هناك قرينة حال أو مقال دالّة على أن المراد من التعيين نفس الحفظ دون خصوصيّة المحل ، ولعلّه غير محل النزاع.

وللأكثر ومنهم الحليّ (٤) ، كما يظهر من عبارته المحكية لي ، بل ادّعي عليه الإجماع في الأحرز ، فجوّزوا النقل إليه.

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٠ ، المسالك ١ : ٣٠٥.

(٢) لم نعثر على قول الحلّي في السرائر ، المحقق الثاني في جامع المقاصد ٦ : ٣٥ ، المسالك ١ : ٣٠٥ ، الروضة ٤ : ٢٣٧.

(٣) كما في المبسوط ٤ : ١٤١.

(٤) السرائر ٢ : ٤٤٠.

٤١٤

وهو أظهر ؛ لدلالة العرف عليه. واختلاف الأغراض مع الجهل بأن المقصود من التعيين هو الخصوصية غير قادح ، كيف لا ومراعاته في عدم الأخذ بالأولوية في مفروض المسألة توجب انسداد باب إثبات الأحكام الشرعية بها بطريق أولى بالضرورة ، ولم يقل به هؤلاء الجماعة.

نعم ، لو علم قصد الخصوصية بالنهي عن النقل إليه ونحوه اتّجه المنع ، ولا خلاف فيه ، بل في التنقيح والمسالك (١) الإجماع عليه ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى الأدلّة المتقدمة.

فيضمن حينئذٍ ( إلاّ مع الخوف ) ببقائها فيه من التلف ونحوه علماً أو ظنّاً متاخماً له أو مطلقاً ، لا مع الشك ، وأولى منه دونه ، فيجوز النقل في الأوّلين ولا ضمان ، بلا خلاف ولو قال : ولو تلفت ؛ لأنه محسن و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (٢).

بل الظاهر الوجوب كما قالوه ؛ لوجوب الحفظ عليه ، ولا يتمّ إلاّ بذلك ، ولا دليل على سقوطه بنهي المالك عنه مطلقاً ، فإن غايته إيجاب شي‌ء آخر عليه وهو المحل ، وسقوطه بتعذّره لمكان الخوف لا يوجب سقوط الواجب الآخر الذي أمر به الشارع.

مع احتمال الوجوب فيما لو قال : ولو تلفت ، من وجه آخر ، وهو ثبوت نوع سفاهة للمودع بقوله ذلك ، فيجب الحفظ عليه لذلك ، كمال الطفل والمجنون إذا وقع في يده.

نعم ، قالوا : لا ضمان عليه بعدم النقل حينئذٍ وإن أثم ؛ لإسقاط المالك ذلك عنه ، مضافاً إلى الأصل ، وبهما يخصّص عموم على اليد ، ولعلّ‌

__________________

(١) التنقيح الرائع ٢ : ٢٣٨ ، المسالك ١ : ٣٠٦.

(٢) التوبة : ٩١.

٤١٥

مرادهم صورة لم تستلزم سفاهة المودِع.

ولا كذلك لو لم ينهه ؛ لانصراف التعيين إلى غير صورة الخوف من التلف بالبقاء في المعيّن ، فلا إسقاط من المالك للضمان ، بخلاف ما لو نهى عن النقل ، وسيّما لو قال : ولو تلفت ؛ لاستلزامه سيّما الثاني الإسقاط ، مع احتمال العدم في الأوّل ، لعدم الصراحة في الإسقاط ، فيؤخذ حينئذٍ بعموم على اليد.

ثم إن جواز النقل إلى الغير مع الخوف في صورة النهي يستلزمه في غيرها حيث يمنع فيه بدونه بطريق أولى ، ولا ضمان ؛ للإذن من الشارع ، مع عموم نفي السبيل.

ولا خلاف فيه إلاّ من الفاضل (١) ، فأثبت الضمان ؛ ولعلّه لعموم : على اليد ، وهو معارض بالعموم المتقدّم المتأيّد بالأصل والاعتبار.

وفيه قول بالتفصيل (٢) ضعيف كالآخر.

ولو احتاج النقل حيث جاز إلى الأُجرة ففي الرجوع بها على المالك مع نيّته كما في المسالك (٣) ، أو لا مطلقاً كما عن التذكرة (٤) وجهان ، من الأصل ، ونفي الضرر. ولعلّه أوجه وأحوط للمالك ، وإن كان العدم للمستودَع أحوط.

وفي اشتراط كون المنقول إليه أحرز أو مساوياً مع إمكانهما بالترتيب ثم الأدون ، أم لا ، بل يجوز إلى الأخيرين مطلقاً ، الأحوط الأوّل ، وبتعيّنه‌

__________________

(١) كما في التحرير ١ : ٢٦٦.

(٢) كما في التحرير ١ : ٢٦٦.

(٣) المسالك ١ : ٣٠٦.

(٤) التذكرة ٢ : ٢٠٤.

٤١٦

صرّح في المسالك (١) ؛ اقتصاراً في انتفاء الضمان عنه مع لزومه عليه بعموم النص على المتيقّن.

خلافاً لظاهر إطلاق العبارة وكثير من عبائر الجماعة ؛ رجوعاً إلى حكم الوديعة بعد تعذّر المعيّن ، وإن هو حينئذٍ إلاّ كما لو لم يعيّن ، والحكم فيه ذلك بلا خلاف.

ويمكن الفرق بين ما لو كان المقصود من التعيين الأحرزية فالأوّل ، وإلاّ فالثاني ، ولعلّه مراد القائل بالأوّل وإن أطلق ؛ لاحتمال الإطلاق الحمل على الشق الأوّل بناءً على أنه المقصود من التعيين غالباً ، وهذا أوجه ، وإن كان الأوّل على إطلاقه أحوط.

( وهي جائزة من الطرفين ) بلا خلاف ، كما في المسالك وغيره (٢) ؛ وهو الحجة المخصّصة لأدلّة لزوم الوفاء بالعقود إن قلنا بكونها منها كما هو المشهور ، وإن قلنا بكونها إذناً فقط ارتفع الإشكال من أصله ولا احتياج إلى تخصيص.

وكيف كان ، فللمودِع مطالبتها متى شاء ، وللمستودَع ردّها كذلك ، لكن مع وجود المالك أو وكيله لا يبرأ إلاّ بردّها عليه دون الحاكم ؛ إذ لا ولاية له على الحاضر الرشيد.

ومع فقدهما يجوز دفعها إلى الحاكم مع العذر ، كالعجز عن حفظها ، أو الخوف عليها من السرق أو الحرق ، أو نحو ذلك من الأعذار ؛ لأن له ولاية على الغائب على هذا الوجه لا بدونه ، لالتزامه بالحفظ بنفسه فلا يبرأ إلاّ بدفعها إلى المالك أو وكيله.

__________________

(١) المسالك ١ : ٣٠٦.

(٢) المسالك ١ : ٣٠٤ ؛ وانظر مجمع الفائدة ١٠ : ٢٧٦ ، الكفاية : ١٣٢.

٤١٧

مع أن المالك لم يرض بيد غيره ، ولا ضرورة له إلى إخراجها من يده ، فليحفظها إلى أن يجدهما أو يتجدّد له عذر.

ولا خلاف في شي‌ء من ذلك بيننا وبين جماعة من العامّة ، وكذا في جواز إيداعها من ثقة ، وأنه مع تعذّر الحاكم. أما مع القدرة عليه فلا ، حكاه في المسالك وغيره (١) ، بل عن التذكرة (٢) الإجماع عليه ؛ وهو الحجة ، مضافاً إلى ما مرّ من الأدلّة.

وفي الأوّل عن بعض العامة جواز الدفع إلى الحاكم عند تعذّر المالك مطلقاً ؛ لأنه بمنزلة الوكيل ، ونفى عنه البعد فيه.

وليس بوجه ، سيّما مع دعواه عدم الخلاف في خلافه ، فيجب المصير إليه ، مع أنه أحوط.

وفي وجوب قبول الحاكم إياها حيث جاز ردّها إليه ، أم العدم وجهان ، أحوطهما الأوّل.

ويأتيان مع الاحتياط فيما لو حمل المديون الدين إليه مع غيبة المدين ، أو الغاصب المغصوب أو بدله عند تلفه ، وغير ذلك من الأمانات التي يليها الحاكم.

ويجوز السفر بها بعد ذلك كلّه لا مطلقاً ، إلاّ أن يخاف عليها مع الإيداع ، فيقدّم السفر عليه هنا ، وفي التذكرة (٣) الإجماع عليه.

وحيث جاز السفر أو وجب يشترط فيه عدم ظهور أمارة الخوف فيه. وأمّا معه فلا يجوز مطلقاً وإن خيف عليها في الحضر ، بلا خلاف يظهر ؛

__________________

(١) المسالك ١ : ٣١٠ ؛ وانظر مجمع الفائدة ١٠ : ٣٠٤.

(٢) التذكرة ٢ : ١٩٩ ، ٢٠٠.

(٣) التذكرة ٢ : ٢٠٠.

٤١٨

لتعارض الخطرين فيرجّح الحضر ، لأن السفر بنفسه خطر ، فإذا انضم إليه أمارة الخوف زاد خطر على خطر.

ومنه يظهر عدم جواز السفر بها من دون ضرورة ، وبه مع الإجماع عليه صرّح في التذكرة (١) ، معلّلاً بالتزامه الحفظ ، فليؤخّر السفر أو يلتزم خطر الضمان.

ومن التعليل يظهر انسحاب المنع عنه في صورة التمكن من دفعها إلى الحاكم أو الثقة أيضاً ؛ لالتزامه الحفظ بنفسه فلا يجوز من دون ضرورة ، إلاّ أن ظاهره الجواز في هذه الصورة ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت عنده ودائع ، فلما أراد الهجرة سلّمها إلى أُمّ أيمن ، وأمر عليّاً عليه‌السلام أن يردّها (٢).

وفي السند والدلالة نظر ، فإن كان إجماع ، وإلاّ فالأوّل أظهر وأحوط.

( و ) كما تبطل بالفسخ كذا ( تبطل بموت كلّ واحد منهما ) أو ما يوجب الخروج عن أهليّة التصرف ، كالجنون والإغماء ، بلا خلاف ؛ لأن ذلك من أحكام العقود الجائزة ، والوديعة منها ، كما مضى.

وحيث بطلت تصير أمانة شرعيّة تجب المبادرة إلى ردّها على الفور إلى أهله ، ولا يقبل قول مَن هي في يده في ردها إلى المالك ولو مع يمينه ، بخلاف الوديعة.

ومن هنا يظهر بطريق أولى ما ذكروه من أنه لا يصحّ وديعة الطفل والمجنون ؛ لعدم أهليّتهما ، فيضمن القابض ، ولا يبرأ بردّها إليهما ، بل إلى وليّهما أو الحاكم.

__________________

(١) التذكرة ٢ : ٢٠٠.

(٢) عوالي اللئلئ ٣ : ٢٥٠ / ٢ ، المستدرك ١٤ : ٧ أبواب كتاب الوديعة ب ١ ح ١٢ ؛ وانظر الكامل في التاريخ لابن الأثير ٢ : ١٠٣.

٤١٩

ولو علم تلفها في أيديهما إن لم يقبض فقبضها بنيّة الحسبة في الحفظ لم يضمن ؛ لأنه محسن و ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (١) لكن يجب مراجعة الولي في ذلك مع الإمكان.

ولو استودعا لم يضمنا بالإهمال ؛ لأن المودِع لهما متلف ماله ، والضمان بالإهمال إنما يثبت حيث يجب الحفظ ، والوجوب لا يتعلق بهما ؛ لأنه من خطاب الشرع المختص بالمكلفين. ولا يعارضه حديث على اليد ؛ لظهور « على » في وجوب الدفع والتكليف بالردّ ، فيكون مختصّاً بالمكلف.

نعم ، لو تعدّيا فيه فتلف فهل يضمنان ، أم المميّز خاصّة ، أم لا مطلقاً؟ وجوه ، وكذا القول في كلّ ما يتلفانه من مال الغير.

واختار الأوّل في المسالك (٢) ، معلّلاً بأن الإتلاف لمال الغير سبب في ضمانه إذا وقع بغير إذنه ، والأسباب من باب خطاب الوضع يشترك فيها الصغير والكبير.

وهو حسن مع وجود ما يدلّ على السببية على الإطلاق ، ولم أقف إلاّ على الحديث المتقدم المختص كما عرفت واعترف به بالمكلف ، فإن وجد ما يدلّ عليها كذلك ، وإلاّ فعدم الضمان مطلقاً أقوى ، وفاقاً للتذكرة كما حكى عنه في كتاب الحجر (٣) ؛ عملاً بأصالة براءة الذمة.

( ولو كانت ) الوديعة ( دابّة ) أو مملوكاً أو شجراً أو نحو ذلك مما يحتاج بقاؤه إلى إنفاق ( وجب ) على المستودع ( علفها وسقيها ) وجميع ما يحتاج إليه حفظها إن لم يتكفّلها المودِع ، بلا خلاف ؛ لوجوب حفظها‌

__________________

(١) التوبة : ٩١.

(٢) المسالك ١ : ٣٠٦.

(٣) التذكرة ٢ : ٧٨.

٤٢٠