رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ١٠

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي

رياض المسائل في تحقيق الأحكام بالدّلائل - ج ١٠

المؤلف:

السيد علي بن السيد محمد علي الطباطبائي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-112-5
الصفحات: ٤٠٩

الرواية الأخيرة (١).

( ولو كان ) الوقف على ( مصلحة ) عامّة ( كالقناطير ، أو موضع عبادة كالمساجد ) قالوا : ( قَبضَه الناظر فيها ) أي في تلك المصلحة ، فإن كان لها ناظر شرعي من قبله تولّى القبض ؛ لما مرّ من الخبر ، وإلاّ فالحاكم ، لما يأتي.

وأطلق بعضهم (٢) في القبض في نحو المساجد والمقبرة بصلاة واحدة ودفن واحد فيها.

وقيّده آخر (٣) بوقوع ذلك بإذن الواقف ؛ ليتحقّق الإقباض الذي هو شرط صحّة القبض.

وقيّده ثالث (٤) بوقوعهما بنيّة القبض أيضاً ، فلو أوقعا لا بنيته كما لو أوقعا قبل العلم بالوقف ، أو بعده قبل الإذن فيهما ، أو بعدهما لا بقصد القبض ، إمّا للذهول عنه ، أو لغير ذلك لم يلزم.

قالوا : هذا إذا لم يقبضه الحاكم الشرعي أو منصوبة ، وإلاّ فالأقوى الاكتفاء به إذا وقع بإذن الواقف ؛ لأنّه نائب المسلمين ، وهو حسن.

( ولو كان ) الوقف ( على طفل ) أو مجنون ( قبضه الولي ) لهما ( كالأب والجدّ للأب ) بلا خلاف فيهما.

( أو الوصي ) لأحدهما مع عدمهما ، على الأقوى ؛ لمفهوم التعليل في الصحيحة الثانية (٥).

__________________

(١) المتقدّمة في ص : ٩٦.

(٢) كالمحقّق في الشرائع ٢ : ٢١٧ ، والسبزواري في الكفاية : ١٤٠.

(٣) اللمعة ( الروضة البهية ٣ ) : ١٦٦.

(٤) كصاحب الحدائق ٢٢ : ١٥١.

(٥) المتقدّمة في ص : ٩٧.

١٠١

خلافاً للماتن في الشرائع وغيره (١) ، فتردّدا فيه ؛ لما ذكر ، ولضعف يده وولايته بالإضافة إلى غيره.

ويضعّف بما مرّ ، وضعف اليد وقوّتها لا أثر له في ذلك بعد ثبوت أصل الولاية.

( ولو وقف عليه ) أي على الطفل ومن في معناه ( الأب أو الجدّ ) له ( صحّ ) ولزم ولم يحتج إلى إقباضٍ من أحد ، بلا خلاف ؛ للصحيح الثاني المتقدّم وما بعده ، فإنّهما مع ما فيهما من التعليل المشار إليه في قوله : ( لأنّه مقبوض بيده ) نصّان في المقام كالصحيح الأوّل.

وإطلاقهما كالعبارة وكثير من عبائر الجماعة يقتضي الاكتفاء بقبضهما وإن تجرّد عن نية القبض عنهما ، واحتمل بعضهم اعتبار ذلك (٢).

قيل : وفي معناه ما لو كان الموقوف تحت يد الموقوف عليه بوديعة أو عارية أو نحوهما ؛ لصدق القبض (٣).

وفيه نظر ، سيّما إذا كان مجرّداً عن نيّته بعد الوقف ، فإنّ ظواهر النصوص المتقدّمة اعتبار التسليم ، وليس بحاصل.

نعم ، ربّما يومئ إليه الاكتفاء في بعضها بسبق قبض الولي الواقف له وكونه في يده قبله ، فلا بأس به.

ولو كان القبض واقعاً بغير إذن الواقف ، كالمقبوض بالغصب والشراء الفاسد ، ففي الاكتفاء به نظر ، ولعلّ العدم هنا أظهر.

( والنظر ) في هذا الكتاب ( إمّا في الشروط أو ) في ( اللواحق ).

__________________

(١) الشرائع ٢ : ٢٤٥ ؛ وانظر التحرير ١ : ٢٨٥.

(٢) المسالك ١ : ٣٥٤.

(٣) المسالك ١ : ٣٥٤.

١٠٢

( والشروط ) زيادة على ما مرّ ( أربعة أقسام ) من حيث إن أركانه أربعة ، كلّ قسم منها يتعلّق بأحدها.

( الأوّل : في ) ما يتعلّق بـ ( الوقف )

( ويشترط فيه التنجيز ) فلو علّقه على شرط متوقّع ، أو صفة مترقّبة ، أو جعل له الخيار في فسخه متى أراده من دون حاجة بطل ، بلا خلاف فيه ، وفي الصحّة لو كان المعلّق عليه واقعاً والواقف عالم بوقوعه ، كقوله : وقفت إن كان اليوم الجمعة ، وكذا في غيره من العقود ، وبعدم الخلاف صرّح جماعة (١) ؛ ولعلّه كافٍ في الحجّية.

مضافاً إلى الأصل ، واختصاص النصوص مطلقا بحكم التبادر بغير مفروض المسألة ، مع أن في المسالك الإجماع عليه (٢).

( والدوام ، والإقباض ) من الموقوف عليه أو من في حكمه ، بأن يسلّطه عليه ويرفع يده عنه ، كما في الروضة (٣). والأولى أن القبض في كلّ شي‌ء بحسبه ، كما مرّ في كتاب التجارة (٤).

( وإخراجه عن نفسه ، فلو كان ) وقفه ( إلى أمد ) معيّن كشهر أو سنة بطل عند الأكثر ؛ لاشتراطهم التأبيد المشترط في صحّته عندهم ، بل وغيرهم ، حتى إن ابن زهرة ادّعى في الغنية عليه إجماع الإماميّة (٥) ؛ وهو الحجّة المخصِّصة لعموم الآية الآمرة بالوفاء بالعقود (٦) إن قلنا باشتراط‌

__________________

(١) منهم العلاّمة في التحرير ١ : ٢٨٤ ، السبزواري في الكفاية : ١٤٠ ، الفيض الكاشاني في المفاتيح ٣ : ٢٠٧.

(٢) المسالك ١ : ٣٥٣.

(٣) الروضة ٣ : ١٧١.

(٤) راجع ج ٨ : ٣٥٦.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٣.

(٦) المائدة : ١.

١٠٣

القبول فيه ، كما هو الأظهر ، وإلاّ كما هو الأشهر بين الطائفة فهو حجّة أُخرى مستقلّة بعد الأصل السليم عمّا يصلح للمعارضة ؛ لاختصاص النصوص بحكم التبادر في بعض النصّية في آخر ، كما تضمّن وقوف الأئمّة عليهم‌السلام بالوقوف المؤبّدة ، بل جعل الطوسي في كتابي الحديث (١) الروايات الأخيرة من أدلّة اشتراطه وحجّة مستقلّة مخصِّصة لعموم الآية.

ولكن فيه مناقشة ، وإن أمكن تصحيحه بظهوره من تتبّعها جملة ، لا أن يكون كلّ منها بنفسه حجّة.

وكيف كان ، الإجماع المتقدّم المعتضد بفتاوي الجماعة ممّن حضرني كلامه كافٍ في الحجية.

ولا ينافيه فتوى الأكثر كما سيظهر بالصحّة فيما ليس بمؤبّد ؛ لأعمّية وجهها من الوقف وغيره ، بل الجمع بين كلماتهم هنا وسابقاً يعيّن إرادة الأخير خاصّة ، وبه صرّح الصيمري في شرح الشرائع ، فقال في الوقف على من ينقرض بعد حكمه بالاشتراط من دون نقل خلاف فيه عن الجماعة : إن المشهور الصحّة وأنّه حبس. فما ذكره في المسالك وفخر الإسلام في الإيضاح (٢) : من أن اشتراطه محل منازعة وشبهة ، لا يخلو عن مناقشة.

وحيث بطل وقفاً ( كان حبساً ) عند الأكثر ، كما في عبارة الصيمري قد مرّ ، وبه صرّح غيره (٣) ، بل صرّح الأوّل بأن عليه عامّة المتأخّرين ، مؤذناً بدعوى إجماعهم عليه ، وممّن حكي تصريحه به من القدماء الشيخان‌

__________________

(١) الاستبصار ٤ : ٩٩ ، التهذيب ٩ : ١٣٢.

(٢) المسالك ١ : ٣٥٥ ، إيضاح الفوائد ٢ : ٣٩٣.

(٣) انظر القواعد ١ : ٢٦٧ ، والمسالك ١ : ٣٥٥.

١٠٤

والإسكافي والديلمي والقاضي وابن حمزة والحلّي (١).

وحكاية الشهرة ومذهب هؤلاء الجماعة وإن كان في غير مورد المسألة وهو المسألة الآتية ، إلاّ أنّهما من باب واحد ، من حيث اشتراكهما في عدم التأبيد المشترط في الصحّة ، وإن كان فقده في الأُولى أقطع منه في الثانية ، هذا.

مضافاً إلى جريان بعض أدلّتهم التي ذكروها للصحّة ثمّة هنا بالبديهة.

وممّن صرّح بالصحّة حبساً في خصوص المسألة مضافاً إلى الماتن الشهيدان في الدروس والمسالك والروضة (٢). ولم أقف لهم هنا على مخالف من الجماعة عدا من سيأتي إليه الإشارة ، وعلّلاه بوجود المقتضي ، وهو الصيغة الصالحة للحبس ، لاشتراكه مع الوقف في المعنى ، فيمكن إقامة كلّ منهما مقام الآخر ، فإذا قرن الوقف بعدم التأبيد كان قرينة على الحبس ، كما لو قرن الحبس بالتأبيد كان قرينة على الوقف. والأجود الاستدلال عليه بالصحيحين ، في أحدهما : روى بعض مواليك عن آبائك عليهم‌السلام : أن كلّ وقف إلى وقت معلوم فهو واجب على الورثة ، وكلّ وقف إلى غير وقت جهل مجهول فهو باطل مردود على الورثة ، وأنت أعلم بقول آبائك عليهم‌السلام ، فكتب عليه‌السلام : « هو عندي كذا » (٣).

وفي الثاني : عن الوقف الذي يصحّ ما هو؟ فقد روي أن الوقف إذا‌

__________________

(١) المفيد في المقنعة : ٦٥٢ ، الطوسي في النهاية : ٥٩٥ ، حكاه عن الإسكافي في المختلف : ٤٩٠ ، الديلمي في المراسم : ١٩٧ ، القاضي في المهذب ٢ : ٨٧ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٧٠ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١٥٧.

(٢) الدروس ٢ : ٢٦٤ ، المسالك ١ : ٣٥٥ ، الروضة ٣ : ١٧٢.

(٣) الكافي ٧ : ٣٦ / ٣١ ، الفقيه ٤ : ١٧٦ / ٦٢٢ ، التهذيب ٩ : ١٣٢ / ٥٦١ ، الإستبصار ٤ : ٩٩ / ٣٨٣ ، الوسائل ١٩ : ١٩٢ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٧ ح ١.

١٠٥

كان غير موقّت فهو باطل مردود على الورثة ، وإذا كان موقّتاً فهو صحيح ممضى ، قال قوم : إن الموقّت هو الذي يذكر فيه أنّه وقف على فلان وعقبه ، فإذا انقرضوا فهو للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها ، قال : وقال آخرون : هذا موقّت إذا ذكر أنّه لفلان وعقبه ما بقوا ، ولم يذكر في آخره للفقراء والمساكين إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ، والذي غير موقّت أن يقول : هذا وقف ، ولم يذكر أحداً ، فما الذي يصحّ من ذلك؟ وما الذي يبطل؟ فوقّع عليه‌السلام : « الوقوف بحسب ما يوقفها أهلها » (١).

وهما وإن دلاّ ظاهراً على الصحّة وقفاً إلاّ أنّ حملهما على الصحّة حبساً متعيّن جدّاً ؛ جمعاً بينهما وبين ما دلّ على كون التأبيد شرطاً ، ورجوع مثل هذا الوقف بعد موت الموقوف عليه إرثاً ، فإنّه من لوازم الحبس ، كما يأتي إن شاء الله تعالى ، هذا.

مع أن القول بالصحّة وقفاً نادر جدّاً غير معروف أصلاً.

وذكر الطوسي رحمه‌الله بعد نقل الأوّل : أنّ المراد بالموقّت الذي حكم بصحّته فيه ليس هو الموقّت بالمدّة ، بل هو الموقّت بالمعنى المذكور في الرواية الثانية ، مستشهداً عليه بها (٢).

وفيه مناقشة ، فإنّ غاية ما يستفاد منها استعمال الموقّت في ذلك المعنى ، وهو أعمّ من الحقيقة ، والأصل يقتضي مجازيّته بعد معلوميّة حقيقته في الموقّت بالمدّة ، فلا يعدل عنه إليه إلاّ بقرينة صارفة هي في‌

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٣٢ / ٥٦٢ ، الإستبصار ٤ : ١٠٠ / ٣٨٤ ، الوسائل ١٩ : ١٩٢ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٧ ح ٢.

(٢) التهذيب ٩ / ١٣٢ ذيل الحديث ٥٦١.

١٠٦

الرواية مفقودة.

ثم لو سلّم هذا الجواب لم يكن فيه فائدة إثبات البطلان في مفروض المسألة على ما يظهر من سياق كلامه بعد دلالة الرواية الثانية بعمومها كما ترى على الصحّة مطلقا ولو هنا ، فالصحة أقوى وإن خرجت الاولى على تقدير التسليم عن كونها مستنداً للرواية الثانية.

مضافاً إلى التعليل المتقدّم إليه الإشارة في كلام الشهيدين ، وصرّح ثانيهما بعد ذكره : بأنّه إنّما يتمّ مع قصد الحبس ، فلو قصد الوقف الحقيقي وجب القطع بالبطلان ، لفقد الشرط (١).

وهو كذلك بناءً على المختار ، وأما على مختاره من التردّد في اشتراطه فلا وجه للقطع به ، ولعلّه على تقدير اشتراطه.

( ولو جعله لمن ينقرض غالباً ) ولم يذكر المصرف بعده ، واقتصر على بطن أو بطون ( صحّ ) حبساً ، وفاقاً لصريح ابن حمزة والفاضل في الإرشاد والقواعد (٢) ، وظاهر من تقدّم (٣) ، بناءً على اشتراطهم التأبيد ، وبنسبته إليهم صرّح الصيمري ، وإن كان ظاهر المختلف وجماعة نسبة الصحة وقفاً إليهم ، حيث جعلوه قولاً مقابلاً للأوّل (٤) ، وحكوا فيه تبعاً للمبسوط والخلاف (٥) ثالثاً ، وهو القول بالبطلان رأساً ولم يسمّوا له قائلاً.

والأقوى الصحة ؛ لما مرّ. دون ما ذكره الأكثر : من الأصل ، وعدم‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٣٥٥.

(٢) ابن حمزة في الوسيلة : ٣٧٠ ، الإرشاد ١ : ٤٥٢ ، القواعد ١ : ٢٦٧.

(٣) في ص ١٠٣.

(٤) المختلف : ٤٩٢ ، وانظر المهذّب البارع ٣ : ٥٠ ، والحدائق ٢٢ : ١٣٦.

(٥) المبسوط ٣ : ٢٩٢ ، الخلاف ٣ : ٥٤٣.

١٠٧

شرطية تمليك الأخير في تمليك الأوّل ، وإلاّ لجاء الدور ، والخبر (١).

لضعف الأوّل : بالمعارضة بأصالة الفساد إن أُريد به أصالة الصحة.

والثاني : بأنّا لا ندّعي كون تمليك الأخير شرطاً ، وإنما الشرط بيان المصرف للأخير ليتحقّق معنى الوقف ، وهو هنا غير حاصل ، فلا يتم صحة الوقف.

والثالث : بقصور السند ، وضعف الدلالة من وجوه عديدة.

نعم ، الاستدلال بالأوّل حسن إن أُريد به العمومات الآمرة بالوفاء بالعقود وقلنا باشتراط الرضاء فيه والقبول.

وأمّا حجّة الثالث مع جهالته وندرته فهي ضعيفة كقوله ، فإنّ غايتها نفي الصحة وقفاً ، وهو أعمّ من انتفائها مطلقاً ، فقد يصحّ ويكون حبساً كما قلنا.

ثم إنّ هؤلاء الجماعة الذين جعلوا الأقوال في المسألة ثلاثة لم يذكروا إلاّ حجّتين ، إحداهما على البطلان مطلقاً ، والثانية على الصحة ، ولم يذكروا حجّة ثالثة تدل على تميز أحد القولين الأوّلين عن الآخر ، وهو أوضح شاهد على أن الأقوال في المسألة اثنان لا ثلاثة ، وأن فتوى من حكم بصحة الوقف المراد بها إثبات الصحة في مقابلة من يدّعي البطلان بالمرّة لا أن المراد إثباتها من حيث الوقفية دون الحبسية.

وأمّا تعبيرهم بصحة الوقف ففيه نوع مسامحة ، ولعلّها لندرة الثمرة في الفرق بين الصحة وقفاً وحبساً ، وعدم ظهورها إلاّ في نحو النذر والنية المصحّحة لمثل هذا الوقف إن كان متعلقها الحبس ، والمفسدة له إن كان‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٤٨ / ٥ ، الفقيه ٤ : ١٨٠ / ٦٣٢ ، التهذيب ٩ : ١٤٤ / ٦٠٣ ، الوسائل ١٩ : ١٩٨ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ١٠ ح ١.

١٠٨

الوقف ، كما مرّ إليه الإشارة ، هذا.

مع أنه صرّح أكثر القائلين بالصحة وقفاً على ما نسبه إليهم هؤلاء الجماعة بانتقاله بعد الانقراض إلى ورثة الواقف ، وهو من لوازم الحبس ، كما صرّح به في المسالك (١) ، وممن اختار القول بالرجوع إليهم بعده الطوسي والقاضي والديلمي وابن حمزة والفاضل في أكثر كتبه والمسالك والروضة والصيمري وأكثر المتأخرين (٢) ، بل في المسالك عزاه إلى الأكثر بقول مطلق ، وتبعهم الماتن في الشرائع (٣) وهنا ، فقال :

( ويرجع ) الوقف ( بعد موت الموقوف عليه إلى ورثة الواقف طلقاً ) أي ملكاً إن مات قبل الموقوف عليه ، وإلاّ فإليه ثم إليهم ، قالوا : لأنه لم يخرج عن ملكه بالكلية ، وإنما تناول أشخاصاً فلا يتعدّى إلى غيرهم ، والظاهر أن الوقف على حسب ما يوقفه أهله ، وإنما وقفوا هنا على من ذكر ، فلا يتعدّى ، ويبقى أصل الملك لهم كالحبس ، أو هو عينه.

وللخبر : عن رجل أوقف غلّة له على قرابة من أبيه وقرابة من امّه ، وأوصى لرجلٍ ولعقبه من تلك الغلّة ليس بينه وبينه قرابة بثلاثمائة درهم كلّ سنة ، ويقسّم الباقي على قرابته من أبيه وأُمّه؟ قال : « جائز للّذي أوصى له بذلك » .. قلت : أرأيت إن مات الذي اوصي له؟ قال : « إن مات كانت‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٣٥٣.

(٢) الطوسي في الخلاف ٣ : ٥٤٣ ، القاضي في المهذب ٢ : ٩١ ، الديلمي في المراسم : ١٩٨ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٧٠ ، العلاّمة في المختلف : ٤٩٢ ، القواعد ١ : ٢٦٧ ، والتحرير ١ : ٢٨٥ ، والمسالك ١ : ٣٥٣ ، والروضة ٣ : ١٦٩ ، وانظر إيضاح الفوائد ٢ : ٣٧٩ ، والكفاية : ١٤٠ ، والحدائق ٢٢ : ١٤١.

(٣) الشرائع ٢ : ٢١٦.

١٠٩

الثلاثمائة درهم لورثته يتوارثونها ما بقي أحد منهم ، فإذا انقطع ورثته ولم يبق منهم أحد كانت الثلاثمائة درهم لقرابة الميت تردّ إلى ما يخرج من الوقف » (١) الخبر.

وفيه قصور من حيث السند والدلالة ، وإن أمكن جبر الأوّل بالحسن ابن محبوب الذي في سنده ، والشهرة.

نعم ، هو صالح للتأييد ، كما صرّح به في الغنية : من أن على مذهبهم رواية (٢) ، وفي الخلاف بأن عليه روايات (٣).

مع احتمال أخذه دليلاً ؛ لانجبار الإرسال بالشهرة ، وبُعد احتمال عدم الدلالة ، سيّما مع الكثرة ، كما هو مصرَّح الثاني ، مضافاً إلى كثرة النقلة.

وبمجموع ذلك يتعيّن المصير إلى هذا القول ، مع لزوم القطع به على القول بكونه حبساً ، وقد نفى الخلاف والإشكال عنه في المسالك على تقديره (٤).

( وقيل : ) كما عن المفيد والحلّي (٥) أنه ( ينتقل إلى ورثة الموقوف عليه ) لأن الوقف خرج عن ملكه فلا يعود إليه ؛ ولأن الموقوف عليه يملك الوقف فينتقل إلى ورثته.

وفي الانتقال والملك منع ؛ لأنه في الحقيقة أو في المعنى حبس وإنما‌

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٥ / ٢٩ ، التهذيب ٩ : ١٣٣ / ٥٦٥ ، الوسائل ١٩ : ١٩٠ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٦ ح ٨.

(٢) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٣.

(٣) لم نعثر عليه فيه ، راجع الخلاف ٣ : ٥٤٣.

(٤) المسالك ١ : ٣٥٥.

(٥) المفيد في المقنعة : ٦٥٥ ، الحلي في السرائر ٣ : ١٦٦.

١١٠

ينتقل إليه في صورة التأبيد.

وفي الغنية ينتقل في وجوه البرّ (١) ؛ لانتقال الوقف عن الواقف وزواله عن ملكه. وظاهره الحكم به لزوماً ، إلاّ أن المستفاد من كلامه أخيراً كونه مستحباً ، فقال بعد أن ذكر ما أشار إليه الماتن بقوله ( والأوّل مروي ) : والأوّل أحوط. وأراد بالأوّل ما ذكره.

وفي حكمه بكونه أحوط على إطلاقه نظر.

والعجب من المختلف (٢) ، حيث مال إليه معلّلاً له بانتقال الملك فلا يعود إليه من غير سبب ؛ لجوابه عن التعليل بعد أن احتجّ به للقول الثاني بالمنع فكيف يستند إليه لهذا القول؟ مع ما فيه زيادة على ما مرّ من كون الانتقال عن الوارث أعمّ من الانتقال إلى وجوه البرّ ، فقد ينتقل إلى ورثة الموقوف عليه ، بل لعلّه المعيّن على تقدير صحّته ؛ لدخوله في ملك الموقوف عليه أوّلاً قطعاً فيشمله عموم أدلة الإرث جدّاً.

ثم على المختار من العود إلى الواقف أو ورثته هل المراد بهم ورثته حين انقراض الموقوف عليه كالولاء ، أو الورثة عند موته ويسترسل فيه إلى أن يصادف الانقراض؟ قولان.

وتظهر الفائدة فيما لو مات الواقف عن ولدين ثم مات أحدهما عن ولد قبل الانقراض ، فعلى الأوّل يرجع إلى الولد الباقي خاصّة ، وعلى الثاني يشترك هو وابن أخيه بتلقّيه من أبيه كما لو كان حيّاً.

واختار الشهيدان الأوّل (٣) ، والفاضل المقداد (٤) الثاني. وهو أقوى ؛

__________________

(١) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٣.

(٢) المختلف : ٤٩٣.

(٣) الشهيد الأول في الدروس ٢ : ٢٦٥ ، الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٦٩.

(٤) التنقيح الرائع ٢ : ٣٠٤.

١١١

لما مر من عدم الانتقال ، وكونه باقياً على ملك الواقف فينتقل بالموت ، وإن لم يجز التصرف فيه قبل الانقراض عملاً بمقتضى الوقف.

واعلم أن هذا الوقف كسابقه يسمّى منقطع الآخر.

ثم إن ما ذكر مما يتفرّع على الشرط الأوّل من الشروط الثلاثة الأخيرة.

وأمّا ما يتفرّع على الثاني منها وسائر أحكامه فقد مرّ إليه الإشارة (١).

وأمّا ما يتفرع على الثالث وهو اشتراط إخراجه عن نفسه فهو أنه لو وقفه على نفسه بطل مطلقاً وإن عقّبه بما يصحّ الوقف عليه ، بلا خلاف في الظاهر ، وبه صرّح في المسالك وغيره (٢) ، بل عليه الإجماع في التنقيح وعن الحلّي (٣) ؛ وهو الحجة.

مضافاً إلى أن الوقف إزالة ملك وإدخاله على الموقوف عليه ، إجماعاً ، كما في التنقيح وغيره (٤) ، والملك هنا متحقق لا يعقل إدخاله عليه وتجديده.

ولأنّه تمليك منفعة وحدها أو مع الرقبة ، ولا يعقل شي‌ء منهما بالإضافة إلى مالكهما.

ويؤيّده مضافاً إلى الصحيحين الآتيين الخبران ، في أحدهما : رجل تصدّق بدار له وهو ساكن فيها ، فقال الحسين (٥) عليه‌السلام : « اخرج منها » (٦).

__________________

(١) راجع ص : ٩٦.

(٢) المسالك ١ : ٣٥٤ ؛ وانظر الروضة ٣ : ١٧١ ، والحدائق ٢٢ : ١٥٥.

(٣) التنقيح الرائع ٢ : ٣٠٥ ، الحلّي في السرائر ٣ : ١٥٥.

(٤) التنقيح الرائع ٢ : ٣١٠ ؛ وانظر الحدائق ٢٢ : ١٥٨.

(٥) في المصادر : الحين اخرج منها.

(٦) التهذيب ٩ : ١٣٨ / ٥٨٢ ، الإستبصار ٤ : ١٠٣ / ٣٩٤ ، الوسائل ١٩ : ١٧٨ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٣ ح ٤.

١١٢

وفي الثاني بعد أن سئل عليه‌السلام عن أكل الواقف عن الضيعة التي وقفها : « ليس لك أن تأكل منها من الصدقة ، فإن أنت أكلت منها لم ينفذ إن كان لك ورثة ، فبع وتصدّق ببعض ثمنها في حياتك ، فإن تصدّقت أمسك لنفسك ما يقوتك مثل ما صنع أمير المؤمنين عليه‌السلام » (١).

بل لا يبعد أخذه حجة ، كما فعله من متأخّري المتأخّرين جماعة (٢).

وليس المخالف في المسألة إلاّ بعض العامة (٣).

وأمّا صحته بالإضافة إلى عقبه إن ذكره ففيها قولان ، الأظهر العدم ، وعليه الأكثر ، ونسبه في المبسوط إلى مذهبنا (٤) ؛ للأصل ، وعدم دليل على الصحة عدا عموم الأمر بالوفاء بالعقود والشروط ، وخصوص عموم الصحيح المتقدم : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (٥).

ولا يصلح شي‌ء من ذلك للدلالة بعد فرض عروض البطلان للعقد في الجملة ، فإن المأمور به ليس إلاّ الوفاء بتمامه دون بعضه ، فما وقع عليه العقد لا يجب الوفاء به إجماعاً ، والعقد لا يكون متبعّضاً ، فكيف يستدل بذلك لوجوبه؟ بل هو فاسد جدّاً.

وكذلك الجواب عن عموم الصحيح ، فإن الوفاء بالبعض غير ما وقفه الواقف.

__________________

(١) الكافي ٧ : ٣٧ / ٣٣ ، الفقيه ٤ : ١٧٧ / ٦٢٣ ، التهذيب ٩ : ١٢٩ / ٥٥٤ ، الوسائل ١٩ : ١٧٦ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٣ ح ١.

(٢) منهم : السبزواري في الكفاية : ١٤٠ ، والمجلسي في ملاذ الأخيار ١٤ : ٣٩٦ ، وصاحب الحدائق ٢٢ : ١٥٦.

(٣) كابن قدامة في المغني ٦ : ٢١٥.

(٤) المبسوط ٣ : ٢٩٣.

(٥) راجع ص : ١٠٥.

١١٣

خلافاً للمبسوط والخلاف ، فالأوّل (١). وهو شاذّ ، ومستنده ضعيف.

وعليه ففي انتقال المنفعة زمان الانقطاع إلى الفقراء والمساكين ، أم إلى العقب الموقوف عليه وجهان للمبسوط (٢) ، ولا دليل على شي‌ء منهما ، مع سقوط أصلهما.

ويسمّى هذا الوقف بمنقطع الأوّل إن وقفه على نفسه ابتداءً ، ومنقطع الوسط إن وقفه أوّلاً على من يصحّ الوقف عليه ثم على نفسه ثم على غير ممن يصحّ الوقف عليه.

وفي حكم الوقف على نفسه الوقف على من لا يصحّ الوقف عليه ؛ لعدم قابليته للتمليك ، كالمعدوم والميت والمملوك. والمختار في الجميع بطلان ما بعد الانقطاع.

ولو وقف على نفسه وغيره جمعاً بالواو ففي صحة الوقف على الغير في النصف ، أو الجميع ، أو البطلان من أصله ، أوجه.

وكذا فيما لو وقف على نفسه والفقراء ففي صحة النصف ، أو الثلاثة الأرباع ، أو الجميع ، أو البطلان من الأصل ، أوجه ، أوجهها في المقامين البطلان ، لعين ما مرّ في توجيهه في السابق.

ووجه الصحة في الجملة عدم تحقق الانقطاع بالإضافة إلى تمام الوقف ، وإنما تحقق بالإضافة إلى البعض ، وهو مع وجود موقوف عليه آخر يصحّ عليه الوقف لا يتأتّى معه الانقطاع. ولا كذلك السابق ؛ لحصول الانقطاع فيه بالوقف على نفسه مثلاً قطعاً ثم بعده على غيره ، وهو فرق‌

__________________

(١) المبسوط ٣ : ٢٩٣ ، الخلاف ٣ : ٥٤٤.

(٢) المبسوط ٣ : ٢٩٤.

١١٤

واضح ، إلاّ أن ما قدّمناه من دليل البطلان عام ، وليس له وجه الصحة بمعارض.

ويتفرع على هذا الشرط أيضاً عدم صحة الوقف إذا شرط قضاء ديونه أو إدرار مئونته منه ، وبه قطع الأصحاب ، كما في المسالك (١) مؤذناً بدعوى الإجماع عليه ، وربما دلّ عليه إطلاق الخبرين المتقدمين (٢).

ولو شرط أكل أهله منه صحّ الشرط ، كما فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوقفه ، وكذلك فاطمة (٣) عليها‌السلام ، ولا يقدح كونهم واجبي النفقة ، فتسقط نفقتهم إن اكتفوا به.

( ولو ) وقف و ( شرط عوده ) إليه ( عند الحاجة ) إليه ( فقولان ، أشبههما : البطلان ) رأساً ، وفاقاً للمبسوط والإسكافي وابن حمزة والحلي (٤) مدّعياً عليه إجماع الإمامية.

قيل : لأنّه شرط ينافي عقد الوقف فيبطل ؛ لتضمنه شرطاً فاسداً (٥).

ويضعّف بمنع المنافاة ، فإنّها حيث لا يقبل العقد هذا الشرط وهو عين المتنازع وفيه نظر ؛ لمنافاته الدوام المشترط فيه بلا خلاف ، كما مر (٦) ، ولظاهر الموثقين كالصحيحين ، أحدهما : عن الرجل يتصدّق ببعض ماله في حياته في كلّ وجه من وجوه الخير وقال : إن احتجت إلى شي‌ء من‌

__________________

(١) المسالك ١ : ٣٥٤.

(٢) في ص : ١١١.

(٣) انظر الوسائل ١٩ : ١٩٨ أبواب أحكام الوقف والصدقات ب ١٠.

(٤) المبسوط ٣ : ٣٠٠ ، وحكاه عن الإسكافي في المختلف : ٤٩٠ ، ابن حمزة في الوسيلة : ٣٧٠ ، الحلي في السرائر ٣ : ١٥٦.

(٥) قال به في المختلف : ٤٩٠ ، والمسالك ١ : ٣٥٤.

(٦) راجع : ١٠٢.

١١٥

المال فأنا أحقّ به ، ترى ذلك له وقد جعله لله تعالى يكون له في حياته ، فإذا هلك الرجل يرجع ميراثاً أو يمضي صدقة؟ قال : « يرجع ميراثاً إلى أهله » (١).

وفي الثاني : « من أوقف أرضاً ثم قال : إن احتجت إليها فأنا أحقّ بها ، ثم مات الرجل فإنّها ترجع إلى الميراث » (٢).

مضافاً إلى التأيّد بما يستفاد من النصوص : من أن الوقف صدقة فلا يجوز الرجوع فيها بمقتضى كلمة الأصحاب وجملة من الأخبار (٣) ، ويشير إليه السؤال في الأوّل ، حيث استبعد فيه الصحة وقد جعله لله سبحانه ، وهو ظاهر في منافاة الجعل له تعالى الرجوع فيه.

والقول الثاني للمفيد والنهاية والقاضي والديلمي والسيد (٤) مدّعياً عليه إجماع الإمامية ، وذهب إليه الماتن في الشرائع والفاضل في المختلف وغيره والشهيد الثاني في المسالك وغيره (٥) ، ونسبه كغيره إلى الأكثر ؛ لعموم الأمر بالوفاء بالعقود والشروط ، وخصوص عموم الصحيح السابق : « الوقوف على حسب ما يوقفها أهلها » (٦).

__________________

(١) التهذيب ٩ : ١٣٥ / ٥٦٨ ، الوسائل ١٩ : ١٧٧ أبواب أحكام الوقوف والصدقات ب ٣ ح ٣.

(٢) التهذيب ٩ : ١٥٠ / ٦١٢.

(٣) انظر الوسائل ١٩ : ١٧٩ ، ١٨٠ أبواب الوقوف والصدقات ب ٤ ح ٢ ، ٥.

(٤) المفيد في المقنعة : ٦٥٢ ، النهاية : ٥٩٥ ، القاضي في المهذب ٢ : ٩٣ ، الديلمي في المراسم : ١٩٧ ، السيد في الانتصار : ٢٢٦.

(٥) الشرائع ٢ : ٢١٧ ، المختلف : ٤٩٠ ، والقواعد ١ : ٢٦٧ ، والتحرير ١ : ٢٨٥ ، الشهيد الثاني في المسالك ١ : ٣٥٥ ، والروضة ٣ : ١٧٢.

(٦) المتقدم في ص : ١٠٥.

١١٦

واستدلّوا عليه أيضاً بالصحيحين المتقدمين ، بناءً على فهمهم من لفظ يرجع ميراثاً الصحة ؛ إذ البطلان ليس فيه رجوع حقيقة ، بل الشي‌ء الموقوف باقٍ على الملكيّة.

وفيه نظر ؛ فإن إطلاق الرجوع ميراثاً وإرادة حقيقته غير ممكن هنا قطعاً ، فإن المرجوع إليه إنما هو كونه ميراثاً حقيقةً ، وهو شي‌ء لم يكن في حال حياة الواقف أصلاً إلاّ مجازاً ، فإذا لم يمكن إرادة الحقيقة تعيّن المجاز ، فيحمل الرجوع على ما يجتمع مع البطلان بقرينة السؤال في الأوّل ، حيث سئل عن صحة هذا الوقف مع ما هو عليه من كونه صدقة ، فلو لم يحمل الجواب على هذا لما طابق للسؤال وما كان جواباً عنه ، فلم يبق إلاّ الأدلّة الأوّلة من الإجماع ، وهو معارض بمثله من إجماع الحلّي المتقدم ، والعمومات ، وهي مخصّصة بظاهر الصحيحين وغيرهما مما قدّمناه.

إلاّ أن الشهرة المحكية في كلام جماعة (١) ، والظاهرة من فتاوى الجماعة عاضدت أدلّة الصحّة ورجّحتها على الأدلّة الأوّلة ، سيّما مع ما في بعضها كالصحيحين : من ضعف الدلالة ، وعدم النصّية التي هي المناط في تخصيص الأدلّة القطعية من عمومات الكتاب والسنة ، مع ظهور ثانيهما في اشتراط الموت في أصل الرجوع ، وهو ظاهر في عدمه قبله ، وهو عين مقتضى الصحة ، فالقول بالصحة لا يخلو عن قوّة ، مع أنّه أحوط في الجملة ، وعليه فلا ريب في الرجوع مع الحاجة.

__________________

(١) منهم : الشهيد الثاني في الروضة ٣ : ١٧٢ ، والفيض في مفاتيح الشرائع ٣ : ٢١١ ، وصاحب الحدائق ٢٢ : ١٦٤.

١١٧

ولو مات ولم يحتج فهل يرجع إلى ورثة الواقف فيكون حبساً ، كما عن النهاية والقاضي (١) ، أم لا يرجع ويكون وقفاً ، كما عن الباقين؟

وجهان ، للثاني عمومات الأمر بالوفاء بالعقود والشروط ، وللأوّل صريح الصحيحين ، وهو أظهر.

وهل يعود بالاحتياج ، أو يقف معه على اختياره؟ وجهان ، ظاهر العقد والشرط الأوّل.

والمرجع في الحاجة إليه إلى العرف ؛ لأنه المحكم فيما لم يرد الشرع بتعيينه.

وذكر جماعة أن مستحق الزكاة محتاج (٢). وفي إطلاقه نظر.

ونحوه تفسيرها بقصور المال عن قوت يومه أو ليلة ، وبسؤاله لغيره (٣) ، وببُعده صرّح جماعة (٤) ، ولكنه ليس بذلك البعيد ، ومع ذلك هو أحوط.

( الثاني : في ) ما يتعلق بـ ( الموقوف ).

( ويشترط ) فيه ( أن يكون عيناً ) معلومة ، فلا يصحّ وقف المنفعة ولا الدين ولا المبهم ، بلا خلاف ، بل عليه الإجماع في الغنية (٥) ؛ وهو الحجة ؛ مضافاً إلى الأصل واختصاص الأدلّة كتاباً وسنة بما اجتمع فيه الشرائط الثلاثة بحكم الصراحة في بعض ، والتبادر في آخر ، والشك في‌

__________________

(١) النهاية : ٥٩٦ ، القاضي في المهذب ٢ : ٩٣.

(٢) كما في المسالك ١ : ٣٥٥ ، وجامع المقاصد ٩ : ٣٠.

(٣) كما في الدروس ٢ : ٢٦٧ ، والتنقيح ٢ : ٣٠٦.

(٤) منهم السبزواري في الكفاية : ١٤٠.

(٥) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٢.

١١٨

دخول ما لا يجتمع فيه في الوقف ، بناءً على أن المفهوم منه عرفاً ولغة وشرعاً هو تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة ، فلا يشمل وقف نحو الثمرة وكذا الدين والمبهم ؛ لأنّ مقتضاه وجود الموقوف في الخارج حين العقد يحكم عليه بذلك ، وهما ليسا كذلك ، فيكون وقفهما في الخارج من قبيل وقف المعدوم الغير الجائز إجماعاً ، فلا يشملهما عمومات الأمر بالوفاء بالعقود في الكتاب والسنة ؛ لأن وقف مثلهما ليس بوقف فكيف يؤمر بالوفاء به ، ومجرّد تسميته وقفاً لا يدخله في حيّز الأمر بالوفاء به.

وأن يكون ( مملوكة ) إن أُريد بالمملوكية صلاحيتها له بالنظر إلى الواقف ليحترز به عن وقف نحو الخمر والخنزير من المسلم فهو شرط الصحة بلا خلاف ؛ لما مرّ من الأدلّة.

وإن أُريد به الملك الفعلي ليحترز به عن وقف ما لا يملك وإن صلح له فهو شرط اللزوم ، على قولٍ ذهب إليه الماتن في الشرائع ، والفاضل في الإرشاد والقواعد والتحرير ، والشهيد الثاني في المسالك (١) ؛ لأنّه عقد صدر من أهله صحيح العبارة في محلّه قابل للنقل وقد أجازه المالك ، فيصحّ كغيره من العقود.

وقيل : هو كالأوّل شرط الصحة (٢) ، واحتمله الفاضل في التحرير (٣) ، واختاره فخر الإسلام وشيخنا في الروضة (٤) على تقدير اعتبار القربة.

__________________

(١) الإرشاد ١ : ٤٥١ ، ٤٥٢ ، القواعد ١ : ٢٦٩ ، التحرير ١ : ٢٨٩ ، المسالك ١ : ٣٤٦.

(٢) الحدائق ٢٢ : ١٧٨.

(٣) التحرير ١ : ٢٨٩.

(٤) فخر الإسلام في إيضاح الفوائد ٢ : ٣٨٩ ، الروضة ٣ : ١٧٦.

١١٩

ولعلّه أظهر. لا لما قيل من أن عبارة الفضولي لا أثر لها ، وتأثير الإجازة فيما عدا محل النص المختص بالبيع والنكاح غير معلوم (١) ، لأن الوقف فكّ ملك في كثير من موارده ولا أثر لعبارة الغير فيه ؛ لاندفاعه بأن اختصاص النص بالمورد غير قادح بعد شموله للغير بالأولوية ، كما تقدّم إليه الإشارة غير مرّة.

بل لاشتراط الصحة هنا بما يزيد على نفس العقد ، وهو القربة ، وهي بملك الغير غير حاصلة ، ونية المجيز لها حين الإجازة غير نافعة ، إمّا لاشتراط المقارنة بالصيغة وهي في الفرض مفقودة ، أو لأن تأثير نيته لها بعدها وإفادتها الصحة حينئذٍ غير معلومة ، فالأصل بقاء الملكية إلى أن يعلم الناقل ، وهو بما قرّرناه غير معلوم.

نعم ، لو قلنا بعدم اشتراطها في الصحة كان الأوّل قويّاً غاية القوة ، لكن فيه ما مرّ إليه الإشارة.

وتوقف في الدروس والتذكرة (٢). ولا وجه له.

وأن يكون العين ممّا يمكن أن ( ينتفع بها مع بقائها انتفاعاً محلّلاً ) بلا خلاف ؛ للحجج السابقة ، حتى الإجماع في الغنية (٣) ، وتزيد عليها بالإضافة إلى اشتراط كون المنفعة محلّلة ما تقدم من الأدلّة على اشتراط القربة في الصحة (٤) ، ولا تحصل في المنفعة المحرمة.

مضافاً إلى أن الوقف لأجلها إعانة على الإثم ، محرمة بالكتاب‌

__________________

(١) الروضة ٣ : ١٧٦.

(٢) الدروس ٢ : ٢٦٤ ، التذكرة ٢ : ٤٣١.

(٣) الغنية ( الجوامع الفقهية ) : ٦٠٢.

(٤) راجع ص ٩٣.

١٢٠