فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل (١) ) [ ودلوكها زوالها ، وبعدها العصر قال ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) (٢) ، ففرض في الآية الأولى بين دلوك الشمس وعسق الليل ] (٣) أربع صلوات الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة ، ثم قال ( وقرآن الفجر ) فأوجب صلاة الفجر أيضا ، وقال تعالى ( أقم الصلاة طرفي النهار ) (٤).

وقال في الموضعين ( أقم ) ، فالمراد به أمته معه.

( فصل )

والدلوك في آية الفرض المتقدمة اختلفوا فيه : فقال ابن عباس وابن مسعود وابن زيد هو الغروب ، والصلاة المأمور بها ههنا هي المغرب. وقال ابن عباس في رواية أخرى والحسن ومجاهد وقتادة دلوكها زوالها ، وهو المروى عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٥) ، وذلك أن الناظر إليها يدلك عينه لشدة شعاعها ، وأما عند غروبها فيدلك عينه ليتبينها ، والصلاة المأمور بها عند هؤلاء الظهر.

وغسق الليل ظهور ظلامه ، يقال ( غسقت القرحة ) اي انفجرت وظهر ما فيها ، وقال ابن عباس وقتادة هو بدء الليل ، وقال الجبائي غسق الليل انتصافه (٦).

وقوله تعالى ( وقرآن الفجر ) قال قوم يعنى به صلاة الفجر ، وذلك يدل على أن الصلاة لا تتم الا بالقراءة ، لأنه أمر بالقراءة وأراد بها الصلاة لأنها لا تتم الا بها مع التمكن.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٨.

(٢) سورة البقرة : ٢٣٤.

(٣) الزيادة من ج.

(٤) سورة هود : ١١٤.

(٥) تفسير البرهان ٢ / ٤٣٥.

(٦) وهو المروى عن الباقر عليه‌السلام ، انظر البرهان ٢ / ٤٣٥.

٨١

ومعنى ( ان قرآن الفجر كان مشهودا ) تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، فتكتب في صحيفة الليل وصحيفة النهار (١). وفيه حث للمسلمين على أن يحضروا هذه الصلاة ويشهدوها للجماعة. وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام انها الصلاة الوسطى (٢).

وقال الحسن ( لدلوك الشمس ) لزوالها صلاة الظهر والعصر ( إلى غسق الليل ) صلاة العشائين ، كأنه يقول من ذلك الوقت إلى هذا الوقت على ما بين أوقات الصلوات الأربع ، ثم أفرد صلاة الفجر بالذكر.

وقال الزجاج : سمي صلاة الفجر ( قرآن الفجر ) لتأكيد أمر القراءة في الصلاة كما ذكرنا.

( فصل )

واستدل قوم بهذه الآية على أن الوقت الأول موسع إلى آخر النهار في الأحوال ، لأنه أوجب إقامة الصلاة من وقت الدلوك إلى وقت غسق الليل ، وذلك يقتضي ان ما بينهما وقت.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي : هذا ليس بقوي ، لان من قال إن الدلوك هو الغروب [ لا دليل له فيها ، لان من قال ذلك يقول إنه يجب إقامة المغرب من عند الغروب ] (٣) إلى وقت اختلاط الظلام الذي هو غروب الشفق وما بين ذلك وقت المغرب ، ومن قال الدلوك هو الزوال يمكنه ان يقول المراد بالآية بيان وجوب

__________________

(١) هذا مضمون أحاديث رويت عن السجاد والصادق عليهما‌السلام ـ انظر البرهان ٤ / ٤٣٦ ـ ٤٣٧.

(٢) الدر المنثور ١ / ٣٠٠.

(٣) الزيادة من م والمصدر.

٨٢

الصلوات الخمس على ما ذكره الحسن لا بيان وقت صلاة واحدة ، فلا دلالة في الآية على ذلك (١).

والصلاة قي أول وقتها أفضل ، قال تعالى ( فاستبقوا الخيرات ) (٢) ، ففي عمومها دليل عليه.

( فصل )

وقوله ( أقم الصلاة طرفي النهار وزلقا من الليل ) (٣) أمر الله به نبيه وأمته بإقامة الصلاة والاتيان بأعمالها على وجه التمام في ركوعها وسجودها وسائر فروضها.

وقيل : اقامتها هو عملها على استواء ، كالقيام الذي هو الانتصاب في الاستواء.

وقوله ( طرفي النهار ) يريد بهما صلاة الفجر والمغرب ، وقال الزجاج يعني به الغداة والظهر والعصر (٤) ، ويحتمل أن يريد به صلاة الفجر والعصر ، لان طرف الشئ من الشئ ، وصلاة المغرب ليست من النهار.

وقوله ( زلفا من الليل ) عن ابن عباس يريد به العشاء الآخرة. وقال الزجاج العشاء ان المغرب والعتمة ، والزلفة المنزلة.

ومن قال المراد بـ ( طرفي النهار ) الفجر والمغرب ، قال : ترك ذكر الظهر والعصر لظهورهما في أنهما صلاة النهار ، والتقدير أقم الصلاة طرفي النهار مع الصلاتين المفروضتين.

وقيل إنهما ذكرا على التبع للطرف الأخير ، لأنهما بعد الزوال ، فهما أقرب إليه ، وقد قال أقم لدلوك الشمس إلى غسق الليل ، ودلوكها زوالها ، ثم قال ( ان الحسنات يذهبن السيئات ) (٥) أي ان الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيئات

__________________

(١) التبيان ٦ / ٥١٠.

(٢) سورة المائدة : ٤٨.

(٣) سورة هود : ١١٤.

(٤) كأنه جعل ما بعد الزوال إلى الليل طرف النهار كما يسميه أصحابنا عشية ( هـ ج ).

(٥) سورة هود : ١١٤.

٨٣

فإذا دعا إلى تركها فكأنها ذهبت بها لقوله ( ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ) (١).

( فصل )

وقوله تعالى ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) (٢) هذه الآية أيضا تدل على الصلوات الخمس في اليوم والليلة ، لان قوله ( حين تمسون ) يقتضى المغرب والعشاء الآخرة ( وحين تصبحون ) يقتضي صلاة الفجر ( وعشيا ) يقتضي العصر ( وحين تظهرون ) يقتضي صلاة الظهر ـ ذكره ابن عباس ومجاهد.

وانما أخر الظهر عن العصر لازدواج الفواصل.

والامساء الدخول في المساء ، والمساء مجئ الظلام بالليل. والاصباح نقيضه ، وهو الدخول في الصباح ، والصباح مجيئ ضوء النهار.

و ( سبحان الله ) أي سبحوا الله في هذه الأوقات تنزيها لله عما لا يليق به ( وله الحمد ) يعني الثناء والمدح ( في السماوات والأرض وعشيا ) أي في العشي ( وتظهرون ) أي حين تدخلون في الظهر ، وهو نصف النهار.

وانما خص الله العشي والاظهار في الذكر بالحمد ـ وإن كان حمده واجبا في جميع الأوقات ـ لأنها أحوال تذكر باحسان الله ، وذلك أن انقضاء احسان أول يقتضي الحمد عند تمام الاحسان والاخذ في الاخر ، كما قال ( وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ) (٣).

( فصل )

وقوله ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل

__________________

(١) سورة العنكبوت : ٤٥.

(٢) سورة الروم : ١٧.

(٣) سورة يونس : ١٠.

٨٤

غروبها ) (١).

قال تعالى لنبيه عليه‌السلام ( فاصبر ) على أذاهم إياك ( وسبح بحمد ربك ) أي صل ، والسبحة الصلاة ، و ( بحمد ربك ) أي بثناء ربك ( قبل طلوع الشمس ) يعني سبحة الصبحة ، اي صلاة الفجر ، و ( قبل غروبها ) يعني صلاة العصر ، و ( من آناء الليل ) يعني صلاة المغرب والعشاء ، ( وأطراف النهار ) صلاة الظهر في قول قتادة.

فان قيل : لم جمع أطراف النهار؟.

قلنا : فيه ثلاثة أقوال : أحدها انه أراد أطراف كل نهار ، والنهار اسم جنس في معنى جمع. وثانيها أنه بمنزلة قوله ( فقد صغت قلوبكما ) (٢). وثالثها أراد طرف أول النصف الأول ، وطرف آخر النصف الأول ، وطرف أول النصف الأخير ، وطرف آخر النصف الأخير. فلذلك جمع.

وقوله ( لعلك ترضى ) أي افعل ما أمرتك به لكي ترضى بما يعطيك الله من الثواب على ذلك. وقيل أي لكي ترضى بما حملت على نفسك من المشقة في طاعة الله بأمره كما كنت تريد أن تكون في مثل ما كان الأنبياء عليه من قبلك.

( فصل )

وقوله ( فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب * ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) (٣) أي احتمل ذلك حتى يأتي الله بالفرج.

وصل ( قبل طلوع الشمس ) صلاة الفجر ( وقبل الغروب ) صلاة العصر ، وقيل صلاة الظهر والعصر ، ( ومن الليل ) يعني صلوات الليل ، ويدخل فيها صلاة

__________________

(١) سورة طه : ١٣٠.

(٢) سورة التحريم : ٤.

(٣) سورة ق : ٣٩ ـ ٤٠.

٨٥

المغرب والعتمة ونوافل الليل أيضا ( وأدبار السجود ) عن الحسن بن علي عليهما‌السلام أنهما الركعتان بعد المغرب تطوعا (١). وقيل التسبيحات المائة بعد الفرائض ـ عن ابن عباس ومجاهد. وعن ابن زيد هي النوافل كلها.

وأصل التسبيح التنزيه لله عن كل ما لا يجوز في صفته ، وسميت الصلاة تسبيحا لما فيها من التسبيح.

وروي انه تعالى أراد بـ ( أدبار السجود ) نوافل المغرب ، وأراد بقوله ( أدبار النجوم ) الركعتين قبل الفجر (٢).

فتلك الآيات الست تدل على المواقيت للصلوات الموقتة في اليوم والليلة.

( باب ذكر القبلة )

قال الله تعالى ( جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس ) (٣).

في بعض التفاسير : أي جعل الله الكعبة ليقوم الناس في متعبداتهم متوجهين إليها قياما وعزما عليها. وقيل : قواما لهم يقوم به معادهم ومعاشهم ، وقياما أي مراعاة للناس وحفظا لهم.

وعن ابن عباس والبراء بن عازب : ان الصلاة كانت إلى بيت المقدس إلى بعد مقدم النبي عليه‌السلام المدينة تسعة عشر شهرا.

وعن أنس كان ذلك بالمدينة تسعة أشهر أو عشرة أشهر ، ثم وجهه الله تعالى إلى الكعبة.

قال تعالى ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) (٤).

__________________

(١) الدر المنثور ٦ / ١١٠.

(٢) الدر المنثور ٦ / ١١٠.

(٣) سورة المائدة : ٩٧.

(٤) سورة البقرة : ١٤٢.

٨٦

اختلفوا في الذين عابوا النبي عليه‌السلام والمسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة على ثلاثة أقوال :

قال الحسن : هم مشركو العرب ، فان رسول الله لما تحول بأمر الله إلى الكعبة من بيت المقدس ، قالوا : يا محمد رغبت عن قبلة آبائك ثم رجعت إليها أيضا ، والله لترجعن إلى دينهم.

وقال ابن عباس : هم اليهود.

وقال السدي : هم المنافقون ، قالوا ذلك استهزاءا بالاسلام.

والعموم يتناول الكل.

واختلفوا في سبب عيبهم الصرف عن القبلة ، فقيل إنهم قالوا ذلك على وجه الانكار للنسخ. وقال ابن عباس : ان قوما من اليهود قالوا : يا محمد ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها ، ارجع إليها نتبعك ونؤمن بك. وأرادوا بذلك فتنته. الثالث ان مشركي العرب قالوا ذلك ليوهموا أن الحق ما هم عليه.

وانما صرفهم الله عن القبلة الأولى لما علم من تغيير المصلحة في ذلك. وقيل انما فعل ذلك لما قال تعالى ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها الا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) (١) ، لأنهم لما كانوا بمكة أمروا أن يتوجهوا إلى بيت المقدس ليتميزوا عن المشركين الذين كانوا بحضرتهم يتوجهون إلى الكعبة ، فلما انتقل الرسول عليه‌السلام إلى المدينة كانت اليهود الذين بالمدينة يتوجهون إلى بيت المقدس ، فنقلوا إلى الكعبة للمصالح الدينية الكثيرة ، من جملتها ليتميزوا من اليهود كما أراد في الأول أن يتميزوا من كفار مكة.

( فصل )

لا خلاف أن التوجه إلى بيت المقدس قبل النسخ كان فرضا واجبا ، ثم اختلفوا : فقال الربيع : كان ذلك على وجه التخيير ، خير الله نبيه عليه‌السلام بين أن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٣.

٨٧

يتوجه إلى بيت المقدس وبين أن يتوجه إلى الكعبة.

وقال ابن عباس وأكثر المفسرين : كان ذلك فرضا معينا. وهو الأقوى ، لقوله ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) ، فبين تعالى أنه جعلها قبلة ، وظاهر ذلك أنه معين ، لأنه لا دليل على التخيير.

ويمكن أن يقال : انه كان مخيرا بين أن يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس في توجهه إليه وبين أن لا ينتقل لما كان بمكة.

على أنه لو ثبت أنه كان مخيرا لما خرج عن كونه فرضا ، كما أن الفرض هو أن يصلي الصلاة في الوقت ثم هو مخير بين أوله وأوسطه وآخره.

وقوله ( الا لنعلم ) أي ليعلم ملائكتنا ، والا فالله كان عالما به. وقال المرتضى فيه وجها مليحا : أي يعلم هو تعالى وغيره ، ولا يحصل علمه مع علم غيره الا بعد حصول الاتباع ، فأما قبل حصوله فإنما يكون هو تعالى العالم وحده ، فصح حينئذ ظاهر الآية.

وقوله ( ممن ينقلب على عقبيه ) قيل فيه قولان : أحدهما أن قوما ارتدوا عن الاسلام لما حولت القبلة جهلا منهم بما فيها من وجوه الحكمة. والاخر أن المراد به كل مقيم على كفره ، لان جهة الاستقامة اقبال وخلافها ادبار ، ولذلك وصف الكافر بأنه أدبر واستكبر وقال ( لا يصلاها الا الأشقى * الذي كذب وتولى ) (١) عن الحق.

( فصل )

ثم قال ( وان كانت لكبيرة ) فالضمير يحتمل رجوعه إلى ثلاثة أشياء : القبلة على قول أبي العالية. والتحويلة على قول ابن عباس ، وهو الأقوى لان القوم انما ثقل عليهم التحول لانفس القبلة. وعلى قول ابن زيد الصلاة.

و ( ما كان الله ليضيع ايمانكم ) في معناه أقوال : قال ابن عباس : لما

__________________

(١) سورة الليل : ١٥ ـ ١٦.

٨٨

حولت القبلة قال ناس كيف أعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى وكيف بمن مات من إخواننا قبل ذلك فأنزله الله. وقال الحسن انه لما ذكر ما عليهم من المشقة في التحويلة أتبعه بذكر مالهم من المثوبة ، وانه لا يضيع ما عملوه من الكلفة فيه ، لان التذكير به يبعث على ملازمة الحق والرضا به. الثالث قال البلخي انه لما ذكر انعامه عليهم بالتولية إلى الكعبة ذكر السبب الذي استحقوه به ، وهو ايمانهم بما حملوه أولا فقال ( وما كان الله ليضيع ايمانكم ) الذي استحققتم به تبليغ محبتكم في التوجه إلى الكعبة (١).

فان قيل : كيف جاز عليهم الشك فيمن مضى من إخوانهم فلم يدروا أنهم كانوا على حق في صلاتهم إلى بيت المقدس.

قلنا : الوجه فيه أنهم تمنوا وقالوا كيف لإخواننا لو أدركوا الفضل بالتوجه إلى الكعبة معنا ، فإنهم أحبوا لهم ما أحبوا لأنفسهم وكان الماضون في حسرة ذلك أو يكون قال ذلك منافق فخاطب الله المؤمنين بما فيه الرد على المنافقين.

وانما جاز أن يضيف الايمان إلى الاحياء على التغليب ، لان من عادتهم أن يغلبوا المخاطب على الغائب كما يغلبون المذكر على المؤنث فيقولون ( فعلنا بكما وبلغناكما ) وإن كان أحدهما حاضرا والاخر غائبا.

( فصل )

ثم قال تعالى ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ) (٢). قال قوم : ان هذه الآية نزلت قبل التي تقدمتها ، وهي قوله ( سيقول السفهاء ).

__________________

(١) أضاف المصدر إلى مفعوله الثاني ، أي استوجبتم بايمانكم أن يبلغكم الله تعالى إلى ما تحبونه من التوجه إلى الكعبة ( هـ ج ).

(٢) سورة البقرة : ١٤٤.

٨٩

فان قيل : لم قلب النبي عليه‌السلام وجهه في السماء؟

قلنا : عنه جوابان :

أحدهما : انه كان وعد بالتحويل عن بيت المقدس ، فكان يفعل ذلك انتظارا وتوقعا لما وعد به.

والثاني : انه كان يحبه محبة طباع ، ولم يكن يدعو به حتى أذن له فيه ، لان الأنبياء عليهم‌السلام لا يدعون الا بإذن الله ، لئلا يكون في ردهم تنفير عن قبول قولهم ان كانت المصلحة في خلاف ما سألوه. وهذا الجواب مروي عن ابن عباس.

وقيل في سبب محبة النبي عليه‌السلام التوجه إلى الكعبة ثلاثة أقوال : أحدها أنه أراد مخالفة اليهود والتميز منهم. والثاني انه أراد ذلك استدعاءا للعرب إلى الايمان.

والثالث أنه أحب ذلك لأنها كانت قبلة إبراهيم.

ولو قلنا إنه أحب جميع ذلك لكان صوابا.

( فصل )

و ( شطر المسجد الحرام ) نحوه وتلقاه ، وعليه المفسرون وأهل اللغة.

وعن الجبائي أراد بالشطر النصف ، فأمره أن يولي وجهه نصف المسجد حتى يكون مقابل الكعبة.

والأول أولى ، لان اللفظ إذا كان مشتركا بين النصف والنحو ينبغي أن لا يحمل على أحدهما الا بدليل ، وعلى الأول اجماع المفسرين.

وقوله ( ان الذين أوتوا الكتاب ) (١) هم اليهود عن السدي ، وقيل هم أحبار اليهود وعلماء النصارى غير أنهم جماعة قليلة يجوز عليهم اظهار خلاف ما يبطنون ، لان الجمع الكثير لا يتأتى ذلك منهم لما يرجع إلى العادة ، فإنها لم يجز ذلك مع اختلاف الدواعي وانما يجوز العناد على النفر القليل.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٤.

٩٠

وهذه الآية ناسخة لفرض التوجه إلى بيت المقدس قبل ذلك. وعن ابن عباس أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا شأن القبلة. وقال قتادة نسخت هذه الآية ما قبلها.

وهذا مما نسخ من السنة بالقرآن ، لأنه ليس في القرآن ما يدل على تعبده بالتوجه إلى بيت المقدس ظاهرا.

ومن قال : انها نسخت قوله ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) (١). فنقول له : ليست هذه منسوخة ، بل هي مختصة بالنوافل في حال السفر على ما نذكره بعد.

فأما من قال : يجب على الناس أن يتوجهوا إلى الميزاب الذي على الكعبة ويقصدوه. فقوله باطل على الاطلاق ، لأنه خلاف ظاهر القرآن.

وقال ابن عباس : البيت كله قبلة ، وقبلته بابه. وهذا يجوز ، فأما أن يجب على جميع الخلق التوجه إليه فهو خلاف الاجماع.

( فصل )

وقوله تعالى ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ). روي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام ان ذلك في الفرض. وقوله ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) قالا هو في النافلة (٢).

وعن الباقر عليه‌السلام : لما حولت القبلة إلى الكعبة أتى رجل من عبد الأشهل من الأنصار وهم قيام يصلون الظهر قد صلوا ركعتين نحو بيت المقدس ، فقال : ان الله قد صرف رسوله نحو البيت الحرام ، فصرفوا وجوههم نحوه في بقية صلاتهم (٣).

( وانه للحق من ربك ) الهاء يعود إلى التحويل ، وقيل التوجه إلى الكعبة لأنه قبلة إبراهيم وجميع الأنبياء.

__________________

(١) سورة البقرة : ١١٥.

(٢) تفسير البرهان ١ / ١٤٥.

(٣) وسائل الشيعة ٣ / ٢١٤.

٩١

وعن عطا في قوله ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) الحرم كله مسجد.

وهذا مثل قول أصحابنا : ان الحرم قبلة من كان نائيا عن الحرم من الآفاق.

واختلف الناس في صلاة النبي عليه‌السلام إلى بيت المقدس (١) : [ فقال قوم كان يصلي بمكة إلى الكعبة فلما صار بالمدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس ] (٢) سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة. [ وقال قوم كان يصلى بمكة إلى البيت المقدس الا أنه كان يجعل الكعبة بينه وبينه ، ثم أمره الله بالتوجه إلى الكعبة ] (٣).

فان قيل : كيف قال ( ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ) (٤) وقد آمن منهم خلق كثير؟

قلنا : عن ذلك جوابان : أحدهما قال الحسن ان المعنى ان جميعهم لا يؤمن ، والثاني انه مخصوص بمن كان معاندا من أهل الكتاب دون جميعهم الذين وصفهم الله تعالى ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) (٥).

وقوله ( ولئن اتبعت أهواءهم ) معناه الدلالة على فساد مذاهبم وتبكيتهم بها.

وقوله ( وما أنت بتابع قبلتهم ) أي ليس يمكنك استصلاحهم باتباع قبلتهم لاختلاف وجهتهم ، لان النصارى يتوجهون إلى المشرق واليهود إلى المغرب ، فبين الله أن ارضاء الفريقين محال.

وقيل : انه لما كان النسخ مجوزا قبل نزول هذه الآية في القبلة أنزل الله الآية ليرتفع ذلك التجويز ، وكذلك ينحسم طمع أهل الكتاب من اليهود ، إذ كانوا طمعوا في ذلك وظنوا أنه يرجع النبي إلى الصلاة إلى بيت المقدس.

وقوله ( وما بعضهم بتابع قبلة بعض ) أي لا يصير النصارى كلهم يهودا ولا

__________________

(١) انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل ٣ / ٢١٦ ـ ٢٢٠.

(٢) الزيادتان من م.

(٣) الزيادتان من م.

(٤) سورة البقرة : ١٤٥.

(٥) سورة البقرة : ١٤٦.

٩٢

اليهود كلهم نصارى ابدا ، كما لا يتبع جميعهم الاسلام.

( فصل )

ثم قال تعالى ( وان فريقا منهم ليكتمون الحق ) كتموا أمر القبلة وهم يعلمون صحة ما كتموه ، وما لمن دفع الحق من العذاب.

والهاء في ( يعرفونه ) عائدة على أمر القبلة في قول ابن عباس. وقال الزجاج هي عائدة على أنهم يعرفون حق النبي عليه‌السلام وصحة أمره.

وانما قال ( وان فريقا منهم ليكتمون الحق ) وفي أول الآية قال ( يعرفونه ) على العموم ، لان أهل الكتاب منهم من أسلم وأقر بما عرف فلم يدخل في جملة الكاتمين كعبد الله بن سلام وكعب الأحبار وغيرهما ممن دخل الاسلام.

فان قيل : كيف قال ( يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ) وهم لا يعرفون في الحقيقة أن أبناءهم أبناؤهم ويعرفون أن محمدا هو النبي المبعوث المبشر به في الحقيقة.

قلنا : التشبيه وقع بين المعرفة بالابن في الحكم ، وهي معرفة تميزه بها من غيره ، وبين المعرفة بأنه هو النبي المبشر به في الحقيقة ، فوقع التشبيه بين معرفتين إحداهما أظهر من الأخرى ، فكل من ربي ولدا كثيرا ورآهم سنين وسمى هذا أحمدا وذا محمدا وذا عليا وذا حسنا وذا حسينا فإنه يميز بينهم بحيث لا يلتبس عليه ذلك بحال.

( فصل )

وقوله ( ولكل وجهة هو موليها ).

فيه أقوال : أحدها ان لكل أهل ملة من اليهود والنصارى وجهة. وثانيها ان لكل نبي وجهة واحدة وهي الاسلام وان اختلفت الاحكام كما قال ( لكل جعلنا منكم

٩٣

شرعة ومنهاجا (١) ) أي شرائع الأنبياء. وثالثها هو صلاتهم إلى بيت المقدس وصلاتهم إلى الكعبة. ورابعها ان لكل قوم من المسلمين وجهة وراء الكعبة أو قدامها أو عن يمينها أو عن شمالها.

والوجهة : القبلة. و ( موليها ) في قول مجاهد مستقبلها.

وقيل في تكرار قوله ( فول وجهك ) انه لما كان فرضا نسخ ما قبله كان من مواضع التأكيد لينصرف الناس إلى الحالة الثانية بعد الحالة الأولى ويثبتون عليه على يقين.

وقيل في تكرير قوله ( ومن حيث خرجت ) [ ان الاختلاف لاختلاف المعنى وان اتفق اللفظ ، لان المراد بالأول من حيث خرجت ] (٢) منصرفا عن التوجه إلى بيت المقدس فول وجهك شطر المسجد الحرام ، والمراد بالثاني أين كنت من البلاد فتوجه نحو المسجد الحرام مستقبلا كنت لظهر القبلة أو وجهها أو يمينها أو شمالها.

وفي قوله ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) محذوف ، واجتزئ بدلالة الحال عن دلالة الكلام. قال الزجاج : عرفتكم ذلكم كيلا لا يكون لأهل الكتاب حجة لو جاء على خلاف ما تقدمت به البشارة في الكتب السالفة من أن المؤمنين سيوجهون إلى الكعبة.

( الا الذين ظلموا ) استثناء منقطع ، أي لكن الظالمين منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة ، فلذلك حسن الاستثناء ، وهو كقوله ( ما لهم به من علم الا اتباع الظن ) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٨.

(٢) الزيادة من م.

(٣) سورة النساء : ١٥٧.

٩٤

( باب ستر العورة )

( وذكر المكان واللباس مما يجوز الصلاة عليه وفيه )

( وذكر الأذان والإقامة )

ستر السوأتين (١) على الرجال مفروض ، وما عدا ذلك مسنون. وعلى النساء الحرائر يجب ستر جميع البدن ، قال تعالى ( خذوا زينتكم عند كل مسجد ) (٢) يعني البسوا لباسا مأمورا به عند كل صلاة مع التمكن.

والزينة ههنا ـ باتفاق المفسرين ـ ما يوارى به العورة ، قالوا : أمر الله بأخذ الزينة ، ولا خلاف أن التزين ليس بواجب والامر في الشريعة على الوجوب ، فلابد من حمله على ستر العورة.

ويدل عليه أيضا قوله ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ) (٣). قال علي بن موسى القمي : دل ذلك على وجوب ستر العورة.

وقال غيره : انما يدل ذلك على أنه أنعم عليهم بما يقيهم الحر والبرد وما يتجملون به. ويصح اجتماع القولين.

وانما قال ( أنزلنا عليكم لباسا ) لان ما يتخذ هو منه ينبت بالمطر الذي ينزل من السماء ، وهو القطن والكتان وجميع ما ينبت من الحشيش والرياش الذي يتجمل به.

و ( لباس التقوى ) هو الذي يقتصر عليه من أراد التواضع والنسك في العبادة من لبس الصوف والشعر والوبر والخشن من الثياب ، وقيل هو ما يكون مما ينبت من الأرض وشعر وصوف ما يؤكل لحمه من الحيوان ، وقيل التقدير :

__________________

(١) السوءتان القبل والدبر ، ويقال لهما السوءتان لأنه يسوء الانسان عند الكشف عنهما ، كما سيذكر بعد هذا.

(٢) سورة الأعراف : ٣١.

(٣) سورة الأعراف : ٢٦.

٩٥

ولباس التقوى خير لكم إذا أخذتم من الريش وأقرب لكم إلى الله منه ، والريش ما فيه الجمال كالخز الخالص ونحوه مما أباحه الله ومنه ريش الطائر.

والحمل على جميع ذلك أولى ، لفقد الاختصاص ، فالحرير الخالص غير محرم على النساء على حال ، وإذا كان خلطا بالقطن ونحوه فللرجال أيضا حلال.

( فصل )

وهذه الآية خطاب من الله تعالى لأهل كل زمان من المكلفين على ما يصح ويجوز من وصول ذلك إليهم ، كما يوصي الانسان ولولده ولد ولده وان نزلوا بتقوى الله وايثار طاعته.

ويجوز خطاب المعدوم ، بمعنى أن يراد بالخطاب إذا كان المعلوم انه سيوجد وتتكامل فيه شرائط التكليف ، ولا يجوز ان يراد من لا يوجد ، لان ذلك عبث لا فائدة فيه.

على أن الآية كانت خطابا للمكلفين الموجودين في ذلك الزمان ولكل من يكون حكمهم حكمه.

وقوله تعالى ( يوارى سوآتكم ) أي يستر ما يسوؤكم انكشافه من الجسد ، لان السوءة ما إذا انكشف عن البدن يسوء ، والعورة ترجع إلى النقيصة في البدن.

وقوله ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد ) أي تناولوا زينتكم ، وهي اللبسة الحسنة ، ويسمى ما يتزين به زينة من الثياب الجميلة ونحو ذلك.

قال الزجاج : هو أمر بالاستتار في الصلاة. قال أبو علي : ولهذا صار التزيين للجمع والأعياد سنة. وقال مجاهد : هو ما وارى العورة ولو عباءة.

وقوله ( عند كل مسجد ) عن أبي جعفر عليه‌السلام في الجمعات والأعياد (١) ، وعن ابن عباس كانوا يطوفون بالبيت عراة فنهاهم الله عن ذلك.

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ / ٨.

٩٦

وقالوا : لما أباح الله تناول الزينة وحث عليه وندب إليه ـ وهناك قوم يحرمون كثيرا من الأشياء من هذا الجنس ـ قال الله تعالى منكرا لذلك : ( قل ) يا محمد ( من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ).

( فصل )

وجلد ما يؤكل لحمه يجوز فيه الصلاة إذا كان مذكى مشروعا.

وجلود الميتة لا تطهر بالدباغ ، وكذا جلود ما يذكيه أهل الخلاف. والدليل على ذلك ـ مضافا إلى اجماع الطائفة ـ قوله ( حرمت عليكم الميتة ) (١) ، وهذا تحريم مطلق يتناول أجزاء الميتة في كل حال.

وجلد الميتة يتناوله اسم الموت لان الحياة تحله ، وليس بجار مجرى العظم والشعر ، وهو بعد الدباغ يسمى جلد ميتة كما يسمى قبل الدباغ ، فينبغي أن يكون حظر التصرف لاحقا به.

فأما دلالته على أن الشعر والصوف والريش منها والناب والعظم كلها محرم فلا يدل عليه ، لان ما لم تحله الحياة لا يسمى ميتة.

وكذلك جلد ذبائح أهل الكتاب وكل من خالف الاسلام أو من أظهره ودان بالتجسم والصورة وقال بالجبر والتشبيه أو خالف الحق ، فعندنا لا يجوز الانتفاع به على وجه ولا يصح الصلاة فيه لعموم الآية ، قال تعالى ( وانه لفسق ) (٢).

( فصل )

وقوله تعالى ( لكم فيها دفء ومنافع ) (٣).

__________________

(١) سورة المائدة : ٣.

(٢) سورة الأنعام : ١٢١.

(٣) سورة النحل : ٥.

٩٧

قال ابن عباس : الدفء لباس من الأكسية وغيرها ، كأنه سمي بالمصدر ، من دفئ يومنا دفاءا ، ونظيره الكن. وقال الحسن : يريد ما استدفئ به من أوبارها وأصوافها واشعارها ، والدفء خلاف البرد ، ومنه رجل دفآن (١).

وقال تعالى ( وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر ) (٢) يعني قمصا من الكتان والقطن (٣) ، وخص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لامرين : أحدهما ان الذين خوطبوا به أهل حر في بلادهم ، والثاني انه ترك ذلك لأنه معلوم.

( فصل )

وقال تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) (٤).

قيل المراد بالمساجد في الآية بقاع الأرض كلها ، لقوله عليه‌السلام ( ان الله جعل الأرض لي مسجدا ) (٥) ، فالأرض كلها مسجد يجوز الصلاة فيه الا ما كان مغصوبا أو نجسا ، فإذا زال الغصب والنجاسة منه فحكمه حكمها. وروى ذلك زيد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام.

__________________

(١) قال ابن فارس : الدال والفاء والهمزة أصل واحد يدل على خلاف البرد ، فالدفء خلاف البرد ، يقال دفؤ يومنا وهو دفئ. قال الأموي : الدفء عند العرب نتاج الإبل ، وهو قوله جل ثناؤه ( لكم فيها دفء ومنافع ) ـ معجم مقاييس اللغة ٢ / ٢٨٧.

(٢) سورة النحل : ٨١.

(٣) السرابيل جمع السربال ، وهو ما يلبس من قميص أو درع ـ معجم ألفاظ القرآن الكريم ١ / ٥٨١.

(٤) سورة البقرة : ١١٤.

(٥) مستدرك الوسائل : ١ / ١٥٦.

٩٨

( فصل )

وقال تعالى ( وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ) (١).

النداء في الآية الدعاء بمد الصوت في الاذان ونحوه.

أخبر الله عن صفة الكفار الذين نهى المؤمنون عن اتخاذهم أولياء ، بأنهم إذا نادى المؤمنون للصلاة ودعوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا.

وفي معنى ذلك قولان :

أحدهما : قال قوم انهم كانوا إذا اذن المؤذن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم وتغامزوا على طريق السخف والمجون تجهيلا لأهلها وتنفيرا للناس عنها وعن الداعي إليها.

والثاني : انهم كانوا يرون المنادى إليه بمنزلة اللاعب الهادي بفعلها جهلا منهم بمنزلتها ، وقال أبو ذهيل الجمحي :

وأبرزتها من بطن مكة بعدما

أصاب المنادى بالصلاة واعتما

فالاستدلال بهذه الآية يمكن على الاذان ، وكذا بقوله ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ) (٢).

والاذان للمنفرد سنة على كل حال ، وكذا الإقامة. وواجبان في صلاة الجمعة إذا اجتمعت شرائطها ، لان تلك الجماعة واجبة ولا تنعقد الا بهما. ويقال على الاطلاق انهما واجبان في الجماعة لخمس صلوات ، وقيل يتأكد ندبهما.

وقد بين رسول الله أحكامها كما أمره الله بقوله ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، وقد علمه الله.

__________________

(١) سورة المائدة : ٥٨.

(٢) سورة الجمعة : ٩.

٩٩

والاذان في اللغة اسم للاعلام (١) قائم مقام الايذان ، كما أن العطاء اسم للاعطاء وهو في الأصل علم سمعي ، قال تعالى ( واذن في الناس ) (٢).

والاذان في الشرع اعلام الناس بحلول وقت الصلاة. وقال السدي : كان رجل من النصارى بالمدينة يسمع المؤذن ينادي ( أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ) قال حرق الكاذب ، والقائل كان منافقا ، فدخلت خادمة له بعد ذلك ليلة بنار فسقطت شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله.

وقد بينا ان المؤذن في اللغة كل من تكلم بشئ نداءا ، وأذنته وآذنته ، ويستعمل ذلك في العلم الذي يتوصل إليه بالسماع ، كقوله ( فأذنوا بحرب من الله ) (٣).

( باب ما يقارن حال الصلاة )

قال الله تعالى ( وقوموا لله قانتين ) (٤).

قال زيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت هذه الآية.

وقد دلت على أن القيام مع القدرة والاختيار واجب في الصلاة.

وقال تعالى ( وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ) (٥).

تدل هذه الآية على أن النية للصلاة ولسائر العبادات واجبة ، وذلك أن الاخلاص

__________________

(١) قال ابن فارس : الهمزة والذال والنون أصلان متقاربان في المعنى متباعدان في اللفظ : أحدهما اذن كل ذي اذن ، والاخر العلم. تقول العرب ( قد أذنت بهذا الامر ) أي علمت ، وآذنني فلان اعلمني. ومن الباب الاذان ، وهو اسم التأذين ـ معجم مقاييس اللغة ١ / ٧٧.

(٢) سورة الحج : ٢٧.

(٣) سورة البقرة : ٢٧٩.

(٤) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٥) سورة البينة : ٥.

١٠٠