فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

أظهرت الصدقة فجائز وان أسررتها فجائز والاسرار أفضل ).

ويمكن أن يقال : ان الأول معناه لا حرج عليه ، والثاني معناه لم يبق عليه اثم فقد غفر له جميع ذنوبه. فيكون جمعا للقولين المتقدمين.

وقوله ( لمن اتقى ) فيه قولان : أحدهما لما قال ( فلا اثم عليه ) دل على وعده بالثواب ، وعلقه بالتقوى لئلا يتوهم انه بالطاعة في النفر فقط. الثاني انه لا اثم عليه في تعجله إذا لم يعمل لضرب من ضروب الفساد ولكن لاتباع اذن الله فيه.

وقيل هو التحذير في الايكال على ما سلف من اعمال البر في الحج ، فبين ان عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة المعاصي.

وقد روى أصحابنا ان قوله ( لمن اتقى ) متعلق بالتعجل في يومين فلا اثم عليه لمن اتقى الصيد ان شاء نفر في النفر الأول وان شاء وقف إلى انقضاء النفر الأخير ، ومن لم يتق الصيد فلا يجوز له النفر في الأول ، وهو اختيار الفراء وهو قول ابن عباس (١).

وروي عن الصادق عليه‌السلام في قوله ( فمن تعجل في يومين ) أي من مات في هذين فقد كفر عنه كل ذنب ( ومن تأخر ) أي أنسئ أجله فلا اثم عليه بعدها إذا اتقى الكبائر (٢). والتقدير ذلك لمن اتقى ، أو جعلناه لمن اتقى ، وقيل العامل فلا اثم عليه.

قوله ( وإذا حللتم فاصطادوا ) (٣) أي إذا حللتم من احرامكم وخرجتم من الحرم فاصطادوا الصيد الذي نهيتم أن تحلوه ان شئتم ، فالسبب المحرم له زال. وهو إباحة ، اي لا حرج عليكم في صيده بعد ذلك.

__________________

(١) انظر مجمع البيان ١ / ٢٩٩.

(٢) تفسير البرهان ١ / ٢٠٤ بمناه.

(٣) سورة المائدة : ٢.

٣٠١

( باب ما يجب على المحرم اجتنابه )

قد تقدم القول في كثير من ذلك ، وقد عد مشائخنا التروك المفروضة والمكروهة في الحج والعمرة ، فمحظورات الاحرام ستة وثمانون (١) شيئا ، (٢) ومحظورات الطواف والسعي والذبح والرمي سبعة وأربعون شيئا ، ومكروهات الحج والعمرة ثلاثة وخمسون شيئا. وقد نطق القرآن ببعضها مفصلا ، وقوله ( وما نهاكم عنه فانتهوا ) يدل على جميع ذلك جملة.

وقوله ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال ) (٣) قد ذكرنا أن الرفث كناية عن الجماع ، فحكم المحرم إذا جامع له شرح طويل لا نطيل به الكتاب. والمراد بالفسوق الكذب ، فمن كذب مرة فعليه شاة ، ومن كذب مرتين فعليه بقرة ، ومن كذب ثلاثا فعليه بدنة. وقد أشرنا إلى الجدال أنه القسم بالله.

__________________

(١) وثلاثون ( خ ل ). وتعرف من التعليقة الآتية أنه الصحيح.

(٢) محظورات الاحرام : ان لا يلبس المخيط ، ولا يلامس بشهوة ، ولا يتزوج ، ولا يعقد نكاحا ، ولا يزوج ، ولا يشهد عقدا ، ولا يجامع ، ولا يستمني ، ولا يقبل بشهوة ، ولا يصطاد ، ولا يذبح صيدا ، ولا يدل عليه ، ولا يأكل لحم صيد ، ولا يغطى المحمل ، ولا رأسه ، ولا يكسر بيض صيد ، ولا يذبح فرخ الطير ، ولا يقلع شجر الحرم وحشيشه ، ولا يدهن بما فيه طيب ، ولا يأكل ما فيه ذلك ، ولا يقرب المسك أو الكافور أو العود أو الزعفران ، ولا يلبس ما يستر ظاهر القدم بالخف اختيارا ، ولا يتختم للزينة ، ولا يفسق بالكذب على الله والرسول ولا يجادل ، ولا يقص شيئا من شعره ، ولا يزيل القمل عن نفسه ، ولا يسد أنفه من النتن ، ولا يدمى جسده ولا فاه بحك ولا سواك ، ولا يدلك رأسه ولا وجهه في وضوء أو غسل لئلا يسقط شئ من شعره ، ولا يقص أظفاره ، وان مات لم يقرب الكافور ، ولا يقتل جرادا أو زنابير قصدا ، ولا يتسلخ الا لضرورة ، ولا يخرج حمام الحرم منه ، ولا يمسك الطير إذا دخل به في الحرم. فهذه ستة وثلاثون ( هـ ج ).

(٣) سورة البقرة : ١٩٧.

٣٠٢

وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ) (١) أي يا أيها الذين صدقوا الله فيما أوجب عليهم لا تحلوا حرمات الله ولا تعدوا حدوده ولا تحلوا معالم حدود الله وأمره ونهيه وفرائضه ولا تحلوا حرم الله وشعائر حرم الله ورسوله ومناسك الحج.

عن ابن عباس المعنى لا تحلوا مناسك الحج فتضيعوها ، وقال مجاهد شعائر الله الصفا والمروة والهدي من البدن وغيرها. وقال الفراء كانت عامة العرب لا ترى الصفا والمروة من شعائر الله ولا يطوفون بهما فنهاهم الله عن ذلك ، وهو قول أبى جعفر عليه‌السلام. وقال قوم لا تحلوا ما حرم الله عليكم في احرامكم. وقيل الشعائر العلامات المنصوبة للفرق بين الحل والحرم ، نهاهم الله أن يتجاوزوا المواقيت إلى مكة بغير احرام. وقال الحسين بن علي المغربي : المعنى لا تحلوا الهدايا المشعرة هدايا للبيت. وقريب منه ما روي عن ابن عباس أيضا ان المشركين كانوا يحجون البيت ويهدون الهدايا ، فأراد بعض المسلمين أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عنه.

والعموم يتناول الكل.

ثم قال ( ولا الشهر الحرام ) أي لا تستحلوا الأشهر الحرم كلها بالقتال فيها أعداءكم هؤلاء من المشركين ولا تستحلوها بالنسئ ، انما النسئ زيادة في الكفر (٢).

وقوله تعالى ( ولا القلائد ) أي ولا تحلوا الهدي المقلد. وانما كرر لأنه أراد

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) في التبيان : قال أبو علي : كانوا يؤخرون الحج في كل سنة شهرا ، وكان الذي ينسئون بنى سليم وغطفان وهوازن ، وافق ذلك في الحجة ، فلما حج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في العام المقبل وافق ذلك في ذي الحجة ، فلذلك قال : لا ان الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق السماوات والأرض ـ في قول مجاهد. وكأن النسئ المنهى في الآية تأخير الأشهر الحرم عما وقتها الله تعالى ، وكانوا في الجاهلية يعملون ذلك ، وكان الحج يقع في غيره وفيه ، فبين الله ان ذلك زيادة في الكفر ( هـ ج ).

٣٠٣

المنع من حل الهدي الذي لا يقلد والهدي الذي قلد. وقيل هو نعل يقلد بها الإبل والبقر يجب التصدق بها إن كان لها قيمة.

وقوله ( ولا آمين البيت الحرام يبتغون فضلا من ربهم ) نهى أن يحل ويمنع من يلتمس أرباحا في تجاراتهم من الله وأن يرضى عنهم بنسكهم ، فأما من قصد البيت ظلما لأهله وجب منعه ودفعه.

( باب )

( نهي المحرم من الاخلال والتعدي والتقصير )

قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشئ من الصيد ) (١) هذا خطاب من الله للمؤمنين وقسم منه تعالى ، أي ليختبرن طاعتكم من معصيتكم بشئ من الصيد ، وأصله اظهار باطن الحال. والمعنى يعرضكم بأمره ونهيه لان يظهر ما في نفوسكم وهو خاف في الحال. وسمي ذلك اختبارا لأنه شبيه في الظاهر باختبار الناس ، وإن كان المختبر لا يعلم ما يكون من المختبر والله عالم بما يكون من المكلف بكل جلي وخفي ومضمر ومنوي ، والمعنى ليظهر طاعتكم من معصيتكم.

ومن في قوله ( من الصيد ) للتبعيض ، ويحتمل وجهين : أحدهما أن يكون عنى صيد البر دون صيد البحر ، والاخر أن يكون لما عنى الصيد ما داموا في الاحرام أو في الاحرام والحرم كان ذلك بعض الصيد. ويجوز أن يكون من لتبيين الجنس ، وأراد بالصيد المصيد ، بدلالة قوله تعالى ( تناله أيديكم ورماحكم ) ، ولو كان الصيد هنا مصدرا كان حدثا ، فلا يوصف بمثل اليد والرمح وانما يوصف به ما كان عينا.

وقال أصحاب المعاني : امتحن الله أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بصيد البر كما امتحن أمة موسى عليه‌السلام بصيد البحر.

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٤.

٣٠٤

ولما تقدم في أول السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا بين سبحانه ذلك ههنا فقال : ليختبرن الله تعالى طاعتكم من معصيتكم بشئ من الصيد ، أي بتحريم شئ من الصيد وبعض منه.

والذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض ، والذي تناله الرماح الكبار من الصيد ـ عن ابن عباس ، وهو المروي عن الصادق عليه‌السلام (١).

وقيل : المراد به صيد الحرم ينال بالأيدي والرماح ، لأنه يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل ، وذلك آية من آيات الله.

وقيل : المراد به ما قرب وما بعد من الصيد.

وجاء في التفسير أنه يعنى به حمام مكة ، وهي تفرخ في بيوت مكة في السقف وعلى الحيطان ، فربما كانت الفراخ بحيث تصل اليد إليها.

( فصل )

وبهذه الآية حرم الله صيد الحل على المحل وصيد الحرم على المحل والمحرم جميعا. وقال الزجاج : سن النبي عليه‌السلام تحريم صيد الحرم على المحرم وغيره ، وهذا صحيح. وصيد غير الحرم يحرم على المحرم دون المحل. وقال أبو علي صيد الحر هو المحرم بهذه الآية ، ونحوه قول بعض المفسرين : ان الله عنى به كل صيد الحرم لأنه جعل الصيد آمنا بالحرم ، فهو لا ينقر من الناس نفاره إذا خرج من مكة ، وإذا بمكة أمكن قتله بالرمح وأخذه باليد ، فأمر الله أن لا يقتلوا هذا الصيد ولا يأخذوه ولا يؤذوه.

وقيل ( تناله أيديكم ) إشارة إلى صيد الحرم لأنه يكون آنس من غيره ، فيمكن تناوله باليد. وقوله ( ورماحكم ) إشارة إلى صيد غير الحرم للمحرم ، لأنه يمكنه اخذه بالرمح ، وهذا من الصيد الهام من الله بخلاف صيد آخر يكون في أرض أخرى

__________________

(١) تفسير البرهان ١ / ٥٠٢.

٣٠٥

( ليعلم الله من يخافه بالغيب ) أي ليعلم ملائكة الله من يخافه غائبا ، لأنه تعالى عالم فيما لم يزل. ومعنى ( ليعلموا ) اي ليعرفوا قوما يخافون صيد الحرم في العلانية فلا يعترضون له على حال.

ثم قال ( فمن اعتدى بعد ذلك ) أي من تجاوز حد الله بمخالفة أمره وارتكاب نهيه بالصيد في الحرم وفى حال الاحرام ، فله عذاب النار في القيامة. ويجوز أن يكون غير ذلك من الآلام والعقوبات في الدنيا ، فقد قال ( لأعذبنه عذابا شديدا ) حكاية عن سليمان في حق الهدهد ولم يرد عذاب النار.

( باب )

( تفصيل ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء )

قال الله تعالى عقيب ذلك ( يا أيها الذين آمنوا الا تقتلوا الصيد ) (٢). اختلف في المعني بالصيد : فقيل هو كل الوحش أكل أو لم يؤكل ، وهو قول أهل العراق ، واستدلوا بقول علي عليه‌السلام :

صيد الملوك أرانب وثعالب

وإذا ركبت فصيدي الابطال

وهو مذهبنا. وقيل هو كل ما يؤكل لحمه ، وهو قول الشافعي.

وقوله ( وأنتم حرم ) فيه ثلاثة أوجه : أحدها وأنتم محرمون بحج أو عمرة ، الثاني وأنتم في الحرم ، الثالث وأنتم في الشهر الحرام. ولا خلاف أن هذا ليس بمراد ، فالآية تدل على تحريم قتل الصيد في حال الاحرام بالحج أو العمرة سواء كان محرما بالعمرة أو بالحج أو لم يكن. وقال الرماني : تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بالحج أو العمرة. والأول أعم فائدة ، واختاره أكثر المفسرين.

__________________

(١) سورة النمل : ٢١.

(٢) سورة المائدة : ٩٥.

٣٠٦

وقال جماعة : الأولى أن تكون الآية الأولى حرم فيها الصيد بالحرم في جميع الأوقات والحالات ، وهذه الآية الثانية حرم فيها صيد البر كله في حال الاحرام.

وواحد الحرم حرام ، كسحاب وسحب.

( فصل )

ثم قال تعالى ( ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم ) (١).

فقوله تعالى من قتله فيه قولان : أحدهما أن يتعمد القتل وينشئ الاحرام ، الثاني الذاكر لاحرامه مع تعمد قتله. وقال أين جرير : وهو عام في الناسي والذاكر ، لان ظاهره عام ولا دليل على الخصوص.

وقوله ( منكم ) يعنى كل من يدين بدين الاسلام. ( معتمدا ) نصب على الحال ، أي قاصدا غير ساه ولا جاهل به.

والفتوى : ان قاتل الصيد إذا كان محرما لزمه الجزاء عامدا كان في القتل أو خاطئا أو ناسيا لاحرامه أو ذاكرا عالما كان أو جاهلا ، وعلى هذا أكثر الفقهاء والعلماء.

وقال جماعة : انه يلزمه إذا كان متعمدا لقتله ذكرا لاحرامه ، وهو أشبه بالظاهر.

والأول يشهد به روايات أصحابنا.

( فصل )

واختلفوا في مثل المقتول بقوله ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ). قال ابن عباس والحسن والسدي والضحاك ومجاهد وعطاء : هو أشبه الأشياء به من النعم ، ان قتل نعامة فعليه بدنة ، حكم النبي عليه‌السلام بذلك في البدنة ، وأن قتل اروى (٢)

__________________

(١) سورة المائدة : ٩٥.

(٢) اروى جمع أروية ، وهي التي يقال لها بالفارسية بزكوهى ( هـ ج ).

٣٠٧

فبقرة ، وان قتل غزالا أو أرنبا فشاة. وهذا هو الذي يدل عليه روايات أصحابنا (١).

وقال قوم : يقوم الصيد بقيمة عادلة ثم يشترى بثمنه مثله من النعم ثم يهدى إلى الكعبة ، فإن لم يبلغ ثمن هدي كفر أو صام ، وفيه خلاف بين الفقهاء.

وقد تواترت أخبارنا ورواياتنا بأن كلما يصيده المحل في الحرم يلزمه فيه القيمة ، وما يصيده المحرم في الحل من الصيد كان عليه الفداء ، وان اصابه المحرم في الحرم كان عليه الفداء والقيمة ، وما يجب فيه التضعيف هو ما لم يبلغ بدنة ، فإذا بلغها لم يجب عليه غيرها.

قال الزهري : نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنة في الخطأ.

والفتوى : ان الصيد كلما تكرر من المحرم كان عليه كفارة إذا كان ذلك منه نسيانا ، فان فعله متعمدا مرة كان عليه الكفارة ، وان فعله مرتين فهو ممن ينتقم الله منه وليس عليه الجزاء.

فان قيل : بم يعلم المماثلة بين النعم وما يضاد.

قلنا : لهذا جوابان :

( أحدهما ) ـ ان الله بين على لسان نبيه عليه‌السلام في قتل النعامة بدنة من الإبل على كل حال في الحل إذا كان محرما وفى الحرم ، وجعل بدل حمار وحش أو بقر وحش بقرة إذا أصابه المحرم في الحل ، وبدل ظبية شاة هكذا ، وان أصاب قطاة فعليه حمل مفطوم ، وان أصاب ظبا فعليه جدي ، وان أصاب عصفورا فعليه مدمن طعام ، وان أصاب المحرم في الحل حمامة فعليه دم ، وان أصابها وهو محل في الحرم فعليه درهم ، وان أصابها وهو محرم في الحرم فعليه دم والقيمة ، وان قتل فرخا وهو محرم في الحل فعليه حمل ، وان قتله في الحرم وهو محل فعليه نصف درهم ، وان قتله وهو محرم في الحرم فعليه الجزاء والقيمة معا ، وان أصاب بيض حمام وهو محرم في الحل فعليه درهم ، وان أصاب وهو محل في الحرم فعليه ربع درهم ، وان اصابه وهر محرم في الحرم فعليه الجزاء والقيمة ، فإن كان حمام

__________________

(١) تفسر البرهان ١ / ٥٠٣.

٣٠٨

الحرم يشترى به العلف لحمام الحرم ، وإن كان حماما أهليا يتصدق به. فقد بين جميع ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لقوله ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ).

( والجواب الثاني ) ـ انه اختلف في المكان الذي يوم فيه الصيد : فقال أبو حنيفة وصاحباه يقوم بالمكان الذي أصاب فيه إن كان أصاب بخراسان أو غيره ، وقال عامر الشعبي يقوم بمكة أو منى.

وقوله ( يحكم به ذوا عدل منكم ) يعنى شاهدين عدلين فقيهين يحكمان بأنه جزاء مثل ما قتل من الصيد ، أي يحكم في الصيد بالجزاء رجلان صالحان منكم ، اي من أهل ملتكم ودينكم ، فينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به.

وقوله ( هديا ) أي يهديه هديا ، و ( بالغ الكعبة ) صفة.

والهدي يجب أن يكون صحيحا بالصفة التي تجري في الأضحية. وقال الشافعي : يجوز في الهدي ما لا يجوز في الأضحية.

وعندنا ان قتل طائرا أو نحوه ففيه دم في الحل على المحرم ، وعلى المحل في الحرم القيمة ، وعلى المحرم في الحرم دم والقيمة لما قدمنا. والدم لا يكون أقل من دم شاة.

وقد تقدم إن كان ذلك الصيد في احرام الحج أو العمرة التي يتمتع بها يذبح بمنى ، وإن كان في العمرة المبتولة فمكة. وعن ابن عباس إذا أتى مكة ذبحه كله وتصدق به.

( فصل )

من قرأ ( فجزاء مثل ما قتل ) قال أبو علي الفارسي رفع مثل لأنه صفة لجزاء ، والمعنى فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول ، وتقديره فعليه جزاء ، أي فاللازم له أو فالواجب عليه جزاء من النعم مماثل ما قتل من الصيد.

٣٠٩

وقوله تعالى ( من النعم ) في هذا القراءة صفة للنكرة التي هي جزاء وفيه ذكر له ، ولا ينبغي إضافة جزاء إلى مثل ، لان عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله ولا جزاء عليه لمثل المقتول الذي لم يقتله. ولا يجوز على هذه القراءة أن يكون قوله ( من النعم ) متعلقا بالمصدر كما جاز أن يكون الجار متعلقا به في قوله ( جزاء سيئة بمثلها ) لأنك قد وصفت الموصول ، وإذا وصفته لم يجز أن تعلق به بعد الوصف شيئا ، كما انك إذا عطفت عليه أو اكدته لم يجز أن تعلق به شيئا بعد العطف عليه والتأكيد له ، والمماثلة في القيمة أو الخلقة على اختلاف الفقهاء في ذلك.

وأما من قرأ ( فجزاء مثل ما قتل ) فأضاف الجزاء إلى المثل فقوله ( من النعم ) يكون صفة للجزاء ، كما كان في قول من نون [ ولم يضف صفة له (١). ويجوز فيه وجه آخر مما يجوز في قول من نون ] (٢) ، فيمتنع تعلقه به ، لان من أضاف الجزاء إلى مثل فهو كقولهم ( انا أكرم مثلك ) اي أنا أكرمك ، فالمراد فجزاء ما قتل. ولو قدرت الجزاء تقدير المصدر المضاف إلى المفعول به فالواجب عليه في الحقيقة جزاء المقتول لاجزاء مثل المقتول ، لان معناه مجازا مثل ما قتل.

ونحن نعمل بظاهر القراءتين ، فان المحرم إذا قتل الصيد الذي له مثل فهو مخير بين أن يخرج مثله من النعم وهو أن يقوم مثله دراهم ويشتري به طعاما ويتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، ولا يجوز اخراج القيمة جملة. وإن كان الصيد لا مثل له كان مخيرا بين أن يقوم الصيد ويشترى به طعاما ويتصدق به وبين أن يصوم عن كل مد يوما.

والقراءتان إذا كانتا مجمعا على صحتهما كانتا كالآيتين يجب العمل بهما ، وقد تخلصنا أن يتعسف في النحو والاعراب.

__________________

(١) أي قولهم ( من النعم ) صفة للجزاء كما كان صفة له في قول من نون ولم يصنف ، وهو قراءة من قرأ ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) ( هـ ج ).

(٢) الزيادة من ج.

٣١٠

( فصل )

وعن أبي الصباح : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل في الصيد ( من قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم )؟ قال : في الظبي شاة [ وفي الحمامة وأشباهها وإن كان فراخا فعدتها من الحملان ] وفى حمار وحش بقرة ، وفى النعامة جزور (١).

وعن حريز عن الصادق عليه‌السلام في قول الله ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) في النعامة بدنة ، وفى حمار وحش بقرة ، وفى الظبي شاة ، وفي البقرة بقرة (٢).

وعن محمد بن مسلم سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن قوله ( أو عدل ذلك صياما ).

قال : عدل الهدي ما بلغ ثم يتصدق به ، فإن لم يكن عنده فليصم بقدر ما بلغ لكل طعام مسكين يوما (٣).

وعن أبي عبيدة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إذا أصاب المحرم الصيد ولم يجد ما يكفر من موضعه الذي أصاب فيه الصيد قوم جزاءه من النعم دراهم ثم قومت الدراهم طعاما لكل مسكين نصف صاع ، فإن لم يقدر على الطعام صام لكل نصف صاع يوما (٤).

وعن الزهري في قوله تعالى ( أو عدل ذلك صياما ) قال لي علي بن الحسين عليهما‌السلام : أو تدري كيف يكون عدل ذلك صياما؟ قلت : لا. قال : يقوم الصيد قيمة ، ثم يفض تلك القيمة على البر ، ثم يكال ذلك البر أصواعا فيصوم لكل نصف صاع يوما (٥).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٩ / ١٨٢ والزيادة منه.

(٢) وسائل الشيعة ٩ / ١٨١.

(٣) وسائل الشيعة ٩ / ١٨٥.

(٤) وسائل الشيعة ٩ / ١٨١.

(٥) تفسير البرهان ١ / ٥٠٤.

٣١١

وإذا قتل صيدا فهو مخير بين ثلاثة أشياء ، بين أن يخرج مثله من النعم وبين ان يقوم مثله دراهم ويشتري به طعاما ويتصدق به ، وبين أن يصوم عن كل مد يوما.

[ وإن كان الصيد لا مثل له فهو مخير بين شيئين : أن يقوم الصيد ويشتري به طعاما يتصدق به ، أو يصوم عن كل يوما مدا ]. (١) ولا يجوز اخراج القيمة بحال ، وبه قال الشافعي ، ووافق مالك في جميع ذلك الا ان عندنا انه إذا أراد شراء الطعام قوم المثل ، وعنده قوم الصيد ويشتري به طعاما. وفي أصحابنا من قال على الترتيب. دليلنا عليه قوله ( فجزاء مثل ما قتل من النعم ) فأوجب في الصيد مثلا موصوفا من النعم وجزاء الصيد على التخيير بين اخراج المثل أو بيعه وشراء الطعام والتصدق به وبين الصوم عن كل مد يوما ، وبه قال جميع الفقهاء.

وعن ابن عباس وابن سيرين ان وجوب الجزاء على الترتيب ، وعليه قوم من أصحابنا.

دليلنا قوله تعالى ( فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم ) إلى قوله ( أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) وأو للتخيير بلا خلاف بين أهل اللسان ، فمن ادعى الترتيب فعليه الدلالة.

والمثل الذي يقوم هو الجزاء ، وبه قال الشافعي ، وعند مالك يقوم الصيد المقتول. ودليلنا الآية.

وماله مثل يلزم قيمته وقت الاخراج دون حال الاتلاف ، وما لا مثل له يلزمه قيمته حال الاتلاف دون حال الاخراج.

وقال المرتضى : إذا قتل المحرم صيدا متعمدا فعليه جزاءان ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. قال : ويمكن أن يقال قد ثبت أن من قتل الصيد ناسيا يحب عليه الجزاء ، والعمد أغلظ من النسيان في الشريعة ، فيجب أن يتضاعف الجزاء عليه مع العمد (٢).

__________________

(١) الزيادة من م.

(٢) الانتصار ص ٩٩ مع اختصار.

٣١٢

( فصل )

( أو كفارة طعام مساكين ) قال أبو علي الفارسي : من رفع طعام مساكين جعله عطفا على الكفارة عطف بيان ، لان الطعام هو الكفارة ، ولم يضف الكفارة إلى الطعام ، ومن أضاف الكفارة إلى الطعام فلانه لما خير المكفر بين ثلاثة أشياء ـ الهدى والطعام والصيام ـ استجاز الإضافة لذلك ، فكأنه قال : كفارة طعام لا كفارة هدي أو صيام ، فاستقامت الإضافة.

وأورد ابن جنى في المستحب : ان قراءة أبى عبد الرحمن ( فجزاء ) منون ( مثل ما ) بالنصب ، معناها أي مجازي مثل ما قتل. وقراءة الباقر والصادق عليهما السلام ( يحكم به ذو عدل ) قال : وانه لم يوجد ( ذو ) ، لان الواحد يكفي ، لكنه أراد معنى ( من ) ، أي يحكم به من يعدل ، ومن يكون للاثنين كما يكون للواحد ، كقوله :

* فكن مثل من يا ذئب يصطحبان (١) *

وروي عنهما عليهما‌السلام : ان المراد بذي العدل رسول الله وأولى الامر من بعده (٢). وكفى بصاحب القراءة خبرا بمعنى قراءته.

وقيل في معناه قولان : أحدهما ان يقرم عدله من النعم يجعل قيمته طعاما وليتصدق به عن عطاء والاخر أن يقوم الصيد المقتول حيا ثم يجعل طعاما عن قتادة.

( أو عدل ذلك صياما ) قيل فيه قولان : أحدهما ان يصوم عن كل مد يقوم من الطعام يوما عن عطاء ، وهو مذهب الشافعي. والاخر أن يصوم عن كل مدين يوما وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام ، وهو مذهب أبي حنيفة.

__________________

(١) انظر هذا الكلام بطوله في مجمع البيان ٢ / ٢٤٣.

(٢) تفسير البرهان ١ / ٥٠٤.

٣١٣

( فصل )

[ واختلفوا في هذه الكفارات الثلاث : فقيل إنها مرتبة ، عن ابن عباس والشعبي والسدي ، قالوا وانما دخلت ( أو ) لأنه لا يخرج حكمه عن إحدى الثلاث.

وقيل إنها على التخيير ، وهو مذهب الفقهاء ، واختاره الشيخ أبو جعفر على ما تقدم.

وكلا القولين رواه أصحابنا.

قال المرتضى : الأظهر انه ليس على التخيير لكن على الترتيب ، ودخلت ( أو ) لأنه لا يخرج حكمه عن أحد الثلاثة ، على أنه ان لم يجد الجزاء فالاطعام ، فإن لم يجد الاطعام فالصيام. وليس في الآية دليل على العمل بالقياس ، لان الرجوع إلى ذوي عدل في تقويم الجزاء مثل الرجوع إلى المقومين في قيم المتلفات ، ولا تعلق لذلك بالقياس.

وقوله ( ليذوق وبال أمره ) أي عقوبة ما فعله في الآخرة ان لم يتب ، وقيل معناه ليذوق وخامة عاقبة أمره وثقله بما يلزمه من الجزاء.

فان قيل : كيف يسمى الجزاء وبالا وانما هي عبادة ، وإذا كان عبادة فهي نعمة ومصلحة.

فالجواب : ان الله شدد عليه بالتكليف بعد أن عصاه فيثقل ذلك عليه ، كما حرم الشحم على بني إسرائيل لما اعتدوا في السبت فثقل ذلك عليهم وإن كان مصلحة لهم.

قوله ( ومن عاد فينتقم الله منه ) أي من عاد إلى قتل الصيد محرما فالله تعالى يكافيه عقوبة بما صنع.

واختلف في لزوم الجزاء بالمعاودة : فقيل إنه لا جزاء عليه ، عن ابن عباس والحسن ، وهو الظاهر في رواياتنا. وقيل إنه يلزمه الجزاء عن جماعة ، وبه قال بعض أصحابنا.

والجمع بين الروايتين ان في معاودة قتل الصيد عمدا لا جزاء عليه وفي النسيان يكرر.

٣١٤

فان قيل : ظاهر القرآن يخالف مذهبكم ، لأنه تعالى قال ( فجزاء مثل ما قتل من النعم أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ) ولفظة ( أو ) يقتضي التخيير ، ومذهبكم أن القاتل للصيد عليه الهدي ، فإن لم يقدر عليه فالاطعام ، فان عجز عنهما فالصيام.

فالجواب : قلنا ندع الظاهر للدلالة ، كما تركنا ظاهر ايجاب الواو للجمع وحملناها على التخيير في قوله ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) ويكون كذا إذا لم يجد الأول ] (١).

( فصل )

ثم قال ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) (٢).

وظاهره يقتضى تحريم الصيد في حال الاحرام وتحريم كل ما صاده غيره ، وبه قال جماعة. وقال الحسن لحم الصيد لا يحرم على المحرم إذا صاده غيره. ومنهم من فرق ما بين صيد وهو محرم وبين ما صيد قبل احرامه. وعندنا لا فرق بينهما ، فالكل محرم على المحرم.

والصيد يعبر به عن الاصطياد فيكون مصدرا ، ويعبر به عن الصيد فيكون اسما صريحا. ويجب أن تحمل الآية على الامرين وتحريم الجميع.

بين الله تعالى ما يحل من الصيد وما لا يحل فقال ( أحل لكم صيد البحر ) أي أبيح لكم صيد الماء. وانما أحل بهذه الآية الطبري من صيد البحر لان العتيق لا خلاف في كونه حلالا ـ عن ابن عباس وجماعة.

__________________

(١) هذا الفصل كله لا يوجد في ج.

(٢) سورة المائدة : ٩٦.

٣١٥

وقوله ( وطعامه ) يعنى طعام البحر ، يريد به المملوح عن جماعة. وهو الذي يليق بمذهبنا. وانما سمي طعاما لأنه يدخر ليطعم.

( باب )

( المحصور والمصدود )

الحصر عندنا لا يكون الا بالمرض ، والصد انما يكون من جهة العدو. وعند الفقهاء كلاهما من جهة العدو ، والمذهب هو الأول.

فإذا أحرم المكلف بحجة أو عمرة فحصره عدو من المشركين ومنعوه من الوصول إلى البيت كان له أن يتحلل ، لعموم الآية. هذا في الحصر العام وأما الحصر الخاص ـ وهو أن يحبس بدين عليه أو غيره ـ فلا يخلو أن يحبس بحق أو بغير حق ، فان حبس بحق ـ بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه فلم يقضه ـ لم يكن له أن يتحلل ، لأنه متمكن من الخلاص ، فهو حابس نفسه باختياره. وان حبس بظلم أو دين لا يقدر على أدائه كان له أن يتحلل لعموم الآية والاخبار بأنه مصدود.

وكل من له التحلل فلا يتحلل الا بهدي ، ولا يجوز له قبل ذلك.

وإذا لم يجد المحصر الهدي أو لا يقدر على ثمنه لا يجوز له أن يتحلل حتى يهدي ، ولا يجوز له أن ينتقل إلى بدل من الصوم أو الاطعام لأنه لا دليل على ذلك.

وأيضا قوله ( فان أحصرتم فما استيسر من الهدي ) و ( لا تحلقوا رؤسكم حتى يبلغ الهدي محله ) يمنع كلاهما من التحلل إلى أن يهدى فيبلغ الهدى محله  ـ وهو يوم النحر ـ ولم يذكر البدل.

وإذا أراد التحلل من حصر العدو فلابد من نية التحلل قبل الدخول فيه ، وكذلك إذا حصر بالمرض.

ومتى شرط في حال الاحرام ان يحله حيث حبسه صح ذلك ويجوز له التحلل.

٣١٦

ولابد ان يكون للشرط فائدة ، مثل ان يقول : ان مرضت أو فني نفقتي أو فاتني الوقت أو ضاق علي أو منعني عدو أو غيره. فأما ان يقول إن خلى حيث شئت ، فليس له ذلك. فإذا حصل ما شرط فلابد له من الهدي ، لعموم الآية ـ هذا كلام الشيخ أبى جعفر.

وقال المرتضى : إذا اشترط المحرم فقال عند دخوله في الاحرام ( فان عرض لي عارض يحبسني فحلني حيث حبستني ) جاز له ان يتحلل عند العوائق من مرض وغيره بغير دم. وهذا أحد قولي الشافعي ، وذهب باقي الفقهاء إلى أن وجود هذا الشرط كعدمه. فان احتجوا بعموم قوله ( وأتموا الحج والعمرة الله فان أحصرتم فما استيسر من الهدي ) قلنا نحمل ذلك على من لم يشترط (١).

( فصل )

وقوله تعالى ( فان أحصرتم ) فيه خلاف : قال قوم ان منعكم حابس قاهر ، وقال آخرون ان منعكم خوف أو عدو أو مرض أو هلاك بوجه من الوجوه فامتنعتم لذلك ، وهذا قول جماعة ، وهو المروي عن ابن عباس. وهذا أقوى ، وهو في اخبارنا ، ولان الاحصار هو ان يجعل غيره بحيث يمتنع من الشئ ، وحصره منعه.

وقوله ( فما استيسر من الهدي ) اي فليهد ما استيسر من الهدي ، أو فعليكم ما سهل وتيسر من الهدي إذا أردتم الاحلال.

وفى معنى ( ما استيسر ) خلاف ، فروى عن علي عليه‌السلام انها شاة ، وعن ابن عمر وعائشة انه ما كان الإبل والبقر دون غيرهما ، ووجهها التيسر على ناقة دون ناقة وبقرة دون بقرة. فالأول هو المعمول عليه عندنا وإن كان الأفضل هو الثاني.

وقال الفراء احصر وحصر بمعنى. وقال المبرد والزجاج حصره حبسه وأوقع

__________________

(١) الانتصار ص ١٠٤.

٣١٧

به الحصر ، واحصره عرضه للحصر ، ونظيره حبسه أي جعله في الحبس ، واحبسه اي عرضه للحبس ، واقتله عرضه للقتل ، وقتله فعل به ، وقبره واقبره.

وفى أصل الهدى قولان : أحدهما انه من الهدية ، فعلى هذا انما يكون هديا لأجل التقرب به إلى الله باخلاص الطاعة فيه على ما أمر به ، وواحده هدية كتمرة وتمر ، وجمع الهدي هدي على فعيل ، كما يقال عبد وعبيد. والقول الاخر انه من هداه إذا ساقه إلى الرشاد ، فسمي هديا لأنه يساق إلى الحرم الذي هو موضع الرشاد (١).

والهدي يكون من ثلاثة الأنواع : جزور ، أو بقرة ، أو شاة. وايسرها شاة ، وبينا انه هو الصحيح.

( فصل )

وقوله تعالى ( ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ) (٢) أي وهم يصدون ، فالمعنى ومن شأنهم الصد ، أي ان الذين كفروا فيما مضى وهم الان يصدون عن الحج والعمرة وعن طاعة الله والمسجد الحرم الذي جعلناه للناس منسكا ومتعبدا لم يخص به بعضا دون بعض ( سواء العاكف فيه والباد ) فالمعتمر فيه والذي ينتابه من غير أهله مستويان في سكناه والنزول به ، فليس أحدهما أحق بالنزول فيه من الاخر ، غير أنه لا يخرج أحد من بيته. وقيل إن كراء دور مكة وبيعها حرام.

والمراد بالمسجد الحرام الحرم كله ، لقوله تعالى ( أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام ) (٣) ، والظاهر أنه غير المسجد ، وكان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة

__________________

(١) انظر تفصيل ذلك في معجم مقاييس اللغة ٦ / ٤٢.

(٢) سورة الحج : ٢٥.

(٣) سورة الإسراء : ١.

٣١٨

في المسجد الحرام والطواف به ويدعون أنهم ولاته.

وقيل نزلت الآية في الذين صدوا عن مكة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عام الحديبية من أبي سفيان وأصحابه (١).

( ومن يرد فيه بالحاد بظلم ) أي من يرد فيه ميلا عن الحق بأن يدخل مكة بغير احرام الا الحطابة والرعاة في وقت دون وقت. وقيل هو احتكار الطعام بمكة.

وقيل هو كل شئ نهي عنه حتى شتم الخادم ، لان الذنوب هناك أعظم. وقيل الباء في قوله تعالى ( بالحاد ) زائدة ، أي ومن يرد فيه الحادا ، والباء في ( بظلم ) للتعدية وقال الزجاج الباء ليست بملغاة ، واليه يذهب أصحابنا. والمعنى : ومن ارادته فيه بأن يلحد بظلم ، كقوله ( أريد لانسى ذكرها ) أي أريد وأرادني لهذا.

( فصل )

اعلم أن مجموع فوائد قوله تعالى ( فان أحصرتم ) وقوله ( ان الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ) أن يقال : ان المحرم الممنوع على ضربين : محصور ، ومصدود.

فالمحصور هو الذي لحقه المرض ، فإن كان معه هدي فليبعث إلى منى إن كان حاجا أو معتمرا للتمتع والى مكة إن كان معتمرا لا للتمتع ، ويجتنب جميع ما يجتنبه المحرم إلى أن يبلغ الهدي محله ثم قصر وقد أحل. ويجب عليه الحج من قابل إن كان حجة الاسلام ، ولا تحل له النساء إلى أن يحج في العام القابل. وان لم يكن ساق الهدي فليبعث ثمنه مع أصحابه ليذبحوا عنه في وقته ، ويجتنب هو ما يجب اجتنابه على المحرم ، فإذا دخل الوقت المعين فقد أحل.

وأما المصدود ـ وهو الذي يصده العدو وقد أحرم ـ فإن كان معه هدي فليبعثه

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ / ٨٣.

٣١٩

إلى مكة أو إلى منى على ما ذكرناه ليذبح هناك عنه ، فإن لم يقدر على ذلك ذبح هناك وقصر وأحل من كل شئ من النساء وغيرها ، فإن لم يكن معه هدي وجب أن يقصر في مكانه ويحل مما أحرم منه.

والاشتراط في الاحرام ليس لسقوط فرض الحج ، فان من حج حجة الاسلام وأحصر لزمه الحج من قابل ، فإن كان تطوعا فإنه يستحب.

( باب العمرة المفردة )

قال الله تعالى ( وأتموا الحج والعمرة لله ) (١) فالعمرة واجبة مثل الحج الا أنه من تمتع بها إليه سقط فرضها عنه مفردا ، ومن حج قارنا أو مفردا يعتمر بعد انقضاء الحج.

وأقل ما بين العمرتين عشرة أيام من آخر انقضاء العمرة الأولى ، وقيل شهر.

فيجوز أن يعتمر في كل عشرة أيام سنة.

فأما المعتمر إذا حصر فعليه العمرة فرضا في الشهر الداخل إذا كانت واجبة.

وقوله ( وأتموا الحج والعمرة لله ) عام يتناول بعمومه الرجال والنساء ، وغلب بالذكر الذكران.

وقوله ( لله ) اي اقصدوا بالحج والعمرة التقرب لله. ولا يوحشنك ما لا ينفتح من حمل التنزيل من الكتاب الا بتفصيل التأويل من السنة ، فان معاني القرآن على ثلاثة أوجه :

أحدها ـ المحكم ، وهو ما طابق لفظه معناه ، وأكثر القرآن من هذا الجنس.

والثاني ـ هو المجمل ، وهو ما لا يعلم بظاهره مراد الله كله ، كقوله ( ولله على الناس حج البيت ) (٢) فان تفصيله وكيفيته وأحكامه لا يعلم الا ببيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٦.

(٢) سورة آل عمران : ٩٧.

٣٢٠