فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

( فصل )

ولا بأس بأن يشرب المضطر من المياه النجسة ، ولا يجوز شربها مع الاختيار.

وليس الشرب منها مع الاضطرار كالتطهير ، لان التطهير قربة إلى الله ، والتقرب إليه تعالى لا يكون بالنجاسات. ولان المحدث يجد في اباحته للصلاة بدلا من الماء عند فقده ، قال تعالى ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا ) (١).

ولا يجد المضطر بالعطش بدلا من الماء غيره ، فإذا وجد الماء وكان نجسا رخص الله له في تناوله مقدار ما يمسك به رمقه.

ويدل على استباحة الماء النجس في حال الاضطرار أن الله أباح كل محرم عند ضرورة ، حيث قال ( انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ) (٢) ، فبين أنه لا اثم على متناول هذه المحظورات عند الضرورة.

( فصل )

والماء إذا خالطه من الطاهرات ما غير لونه أو طعمه أو رائحته ، فإنه يجوز التوضؤ به ما لم يسلبه اطلاق اسم الماء عليه ، لان الله أوجب التيمم عند فقد الماء بقوله ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا ) ، ومن وجد ماءا على تلك الصفة فهو واجد للماء قال الصادق عليه‌السلام : الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر (٣).

ولا خلاف أن الماء له حكم التطهير إذا كان على خلقته ، والخلاف في أنه إذا خالطه غيره أو استعمل.

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

(٢) سورة البقرة : ١٧٣.

(٣) وسائل الشيعة ١ / ١٠٠.

٦١

وقيل إذا اغتسل به جنب خرج عن بابه ، ومنهم من كره التطهير به بعد ذلك وقال المرتضى : يجوز إزالة النجاسات بالمايعات ، لان الغرض بإزالة النجاسة ان لا تكون ، وأسباب أن لا تكون النجاسة لا تختلف. قال : والدليل عليه أن لا تختلف بين أن لا تكون أصلا وبين ازالتها ، فإذا كان هكذا فمتى أزيلت مشى ما ذكرناه وقد سقط حكمها (١).

وقال الشيخ أبو جعفر : إن كان ذلك كذلك عقلا ، فانا متعبدون شرعا ان لا نزيل النجاسة الا بالماء المطلق.

( فصل )

ومن لا يجد ماءا ولا ترابا نظيفا ، قال أبو حنيفة لا يصلي ، وعندنا أنه يصلى ثم يعيد بالوضوء أو التيمم ، وبذلك نص عن آل محمد عليهم‌السلام (٢). ويؤيده.

قوله تعالى ( ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) (٣) وقوله ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) (٤) الآية.

والامر على الوجوب الا أن يدل دليل [ ولا دليل ] (٥) على ما يدعيه الخصم ، وقد بين النبي عليه‌السلام أحكام المياه وما ينجسها وما يزيل حكم نجاستها بالزيادة أو النقصان على ما أمر الله بعد أن علمه تعالى فقال ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس

__________________

(١) كلام المرتضى مضطرب في النسختين ، وقد صححناه على ما يفهم من المسائل الناصريات في المسألة الثانية والعشرين.

(٢) فقد روى عن زرارة عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال في حديث : ولا تدعالصلاة على حال ، فان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : الصلاة عماد دينكم – الوسائل ٢ / ٦٠٥.

(٣) سورة النساء : ١٠٣.

(٤) سورة الإسراء : ٧٨.

(٥) الزيادة من ج.

٦٢

ما نزل إليهم ) (١) ، أي أنزلنا إليك القرآن يا محمد لتبين للناس ما نزل من الاحكام على ما علمناك. وأمر جميع الأمة باتباعه والاخذ منه جملة وتفصيلا فقال ( ما آتاكم الرسول فخذوه ).

فان قيل : كيف لكم وجه الاحتجاج بالاخبار التي تروونها أنتم عن جعفر بن محمد وآبائه وأبنائه عليهم‌السلام على من خالفكم؟ قلنا : ان الله تعالى قال ( وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) (٢) ، وهذا على العموم ، وقد ثبت بالأدلة امامة الصادق عليه‌السلام وعصمته ، وان قوله وفعله حجة ، فجرى قوله من هذا الوجه مجرى قول الرسول ، على أنه عليه‌السلام صرح بذلك وقال : كلما أقوله فهو عن أبي عن جدي عن رسول الله عن جبرئيل عن الله (٣).

ومن وجه آخر ، وهو أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ( انى مخلف فيكم الثقلين ما ان تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وعترتي ) الخبر (٤). فجعل عترته في باب الحجة مثل كتاب الله ، ولا شك أن هذا الخطاب انما يتناول علماء العترة الذين هم أولو الامر ، وهم الصادق وآباؤه وأبناؤه الاثنا عشر عليهم‌السلام ، وكلما يصدر عنهم من أحكام الشرع عن رسول الله عن الله تعالى يجب على من خالفنا العمل عليه ، سواء أسندوا أو أرسلوا. وكيف لا وهم يعملون على ما رواه مثل أبي هريرة وأنس من أخبار الآحاد.

وهذا السؤال يعتمده مخالفونا في جميع مسائل الشرع ، وهو غير قادح.

__________________

(١) سورة النحل : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ٥٩.

(٣) هذا المضمون في الكافي ١ / ٥٣.

(٤) البرهان ١ / ٩ ـ ١٤.

٦٣

( فصل )

وقوله تعالى ( انما المشركون نجس ) (١) يدل على أن سؤر اليهودي والنصراني وكل كافر أصلي أو مرتد أو ملي نجس.

وفي الآية شيئان تدل على المبالغة في نجاستهم :

أحدهما : قوله ( انما المشركون ) ، فهو أبلغ في الاخبار بنجاستهم من أن يقال ( المشركون نجس ) من غير انما ، فان قول القائل ( انما زيد خارج ) عند النحويين بمنزلة ( ما خارج الا زيد ).

والثاني : قوله ( نجس ) وهو مصدر ، ولذلك لم يجمع ، والتقدير انما المشركون ذو نجاسة. وجعلهم نجسا مبالغة في وصفهم بذلك ، كما يقال ( ما هو الأسير ) إذا وصف بكثرة السير ، وكقوله :

* فإنما هي اقبال وادبار (٣) *

وليس لاحد أن يقول المراد به نجاسة الحكم لا نجاسة العين ، لان حقيقة هذه اللفظة تقتضي نجاسة العين في الشرع ، وانما يحمل على الحكم تشبيها ومجازا ، والحقيقة أولى من المجاز باللفظ. على انا نحمله على الامرين ، لأنه لا مانع من ذلك.

فان قيل : فقد قال الله تعالى ( وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) (٣). وهذا عام في جميع ما شربوا وعالجوا بأيديهم.

قلنا : يجب تخصيص هذا الظاهر بالدلالة على نجاستهم ، وتحمل هذه الآية على أن المراد بها طعامهم الذي هو الحبوب ويملكونه دون ما هو سؤر أو عالجوه بأجسامهم.

__________________

(١) سورة التوبة : ٢٨.

(٢) من بيت للخنساء ـ انظر مجمع البحرين ٤ / ١١٠.

(٣) سورة المائدة : ٥.

٦٤

على أن ما في طعام أهل الكتاب ما يغلب على الظن أن فيه خمرا أو لحم خنزير ، فلابد من اخراجه من هذا الظاهر ، وإذا أخرجناه من الظاهر لأجل النجاسة وكان سؤرهم على ما بينا نجسا أخرجناه أيضا من الظاهر.

( فصل )

عن أبي بصير : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الجنب يدخل يده في الاناء. قال : ان كانت قذرة فليهرقه ، وإن كان لم يصبها قذر فليغتسل منه ، هذا مما قال الله تعالى ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (١).

وسئل أيضا عن الجنب يغتسل فينتضح من الماء في الاناء؟ فقال : لا بأس ، هذا مما قال الله ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (٢).

وإذا صافح المسلم الكافر أو من كان حكمه حكمه ويده مرطبة بالعرق أو غيره غسلها من مسه بالماء البتة ، وإذا لم يكن في يد أحدهما رطوبة مسحها بالحائط لأنه تعالى قال ( انما المشركون نجس ) ، فحكم عليهم بالنجاسة بظاهر اللفظ ، فيجب أن يكون ما يماسونه نجسا الا ما أباحته الشريعة.

فان قيل : هل يجوز الوضوء والغسل بما مستعمل.

قلنا : يجوز ذلك فيما استعمل في الوضوء ولا يجوز فيما استعمل في غسل الجنابة والحيض وأشباههما مما يزال به كبار النجاسات ، وبذلك نصوص عن أئمة الهدى عليهم‌السلام.

وفي تأييد جواز ما استعمل في الوضوء قوله ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا ) (٣).

__________________

(١) الاستبصار ١ / ٢٠ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) الكافي ٢ / ١٤.

(٣) سورة المائدة : ٦.

٦٥

وهذا الضرب من الماء مستحق للاسم على الاطلاق ، وفى منع ما سواه نص ظاهر واحتياط للصلاة ـ قاله الشيخ مفيد.

وقال المرتضى : يجوز استعمال الماء المستعمل في الأغسال الواجبة أيضا إذا لم تكن نجاسة على البدن ، لعموم هذه الآية. وقد أشرنا في الباب الأول إلى هذا.

( فصل )

( فيما ينقض الطهارتين )

نواقضهما عشر باجماع الفرقة المحقة وبالكتاب والسنة جملة وتفصيلا.

أما النوم فان آية الطهارة تدل بظاهرها على أنه حدث ناقض للوضوء ، وانما يوجب اعادته على اختلاف حالات النائم إذا أراد الصلاة.

وقد نقل أهل التفسير وأجمعوا على أن المراد بقوله ( إذ قمتم إلى الصلاة ) إذا قمتم من النوم. وهذا الظاهر يوجب الوضوء من كل نوم.

وقال زيد الشحام : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن الخفقة والخفقتين.

فقال : ما أدري ما الخفقة والخفقتان ، ان الله يقول ( بل الانسان على نفسه بصيرة ) (١) ان عليا عليه‌السلام كان يقول : من وجد طعم النوم أوجب عليه الوضوء (٢).

وعن ابن بكير قلت للصادق عليه‌السلام : ما يعني بقوله ( إذا قمتم إلى الصلاة )؟ قال : إذا قمتم من النوم. قلت : ينقض النوم الوضوء؟ فقال : نعم إذا كان يغلب على السمع ولا يسمع الصوت.

والجنابة تنقض الوضوء على اي وجهيها حصلت وتوجب الغسل أيضا ، قال

__________________

(١) سورة القيامة : ١٤.

(٢) الاستبصار ١ / ٨٠ ، وفى الكافي ٣ / ٣٧ عن عبد الرحمن بن الحجاج.

(٣) الاستبصار ١ / ٨٠.

٦٦

تعالى ( وان كنتم جنبا فاطهروا ) (١) ، وكذا الحيض قال تعالى ( ويسألونك عن المحيض ) (٢) الآية ، والسكر المزيل للعقل ينقض الوضوء فقط ، وكذلك الغائط قال تعالى ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) إلى قوله ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) (٣).

وما سواها من النواقض يعلم بالتفصيل من السنة وانما يعلم من القرآن على الجملة.

وروي أن النبي عليه‌السلام قال لأهل قبا : ماذا تفعلون في طهركم ، فان الله أحسن عليكم الثناء. فقال : نغسل أثر الغائط. فقال : أنزل الله فيكم ( والله يحب المطهرين ) (٤).

فقوله ( رجال يحبون ان يتطهروا ) (٥) اي يتطهرون بالماء من الغائط والبول ، وهو المروي عن الباقر والصادق عليهما‌السلام (٦).

وري في تفسير قوله ( ويضع عنهم إصرهم ) (٧) أي بني إسرائيل إذا أصاب البول شيئا من جسدهم قطعوه بالسكين (٨).

( باب توابع الطهارة )

قد بينا أن من شرط الصلاة الذي لا تتم الا به الطهور ، وهو ينقسم على ثلاثة

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٣) سورة المائدة : ٦.

(٤) وسائل الشيعة ١ / ٢٥٠.

(٥) سورة التوبة : ١٠٨.

(٦) مجمع البيان ٥ / ٧٣.

(٧) سورة الأعراف : ١٥٧.

(٨) تفسير البرهان ٢ / ٤٠.

٦٧

أضرب : وضوء ، وغسل ، وتيمم بدلهما.

وكما لا يجوز الدخول في الصلاة مع عدم الطهارة في أكثر الحالات ، لا يجوز الدخول فيها مع نجاسة على البدن أو الثياب اختيارا ، قال تعالى ( وثيابك فطهر * والرجز فاهجر ) (١).

حمل هذه الآية أهل التفسير على الحقيقة والمجاز : أما الحقيقة فظاهر ، أي فطهر ثيابك من كل نجاسة للصلاة فيها ، قال ابن سيرين وابن زيد أغسلها بالماء ، وقيل معناه شمر ثيابك. ورأى علي عليه‌السلام من يجر ذيله لطوله ، فقال له : قصر منه فإنه أتقى وأنقى وأبقى.

وأما من حمله على المجاز فقال : كأنه تعالى قال وبدنك فطهر أو نفسك فطهر كما يقال ( فلان طاهر الثوب ) أي طاهر النفس ، كقول امرئ القيس :

* فسلي ثيابي من ثيابك تنسلي (٢) *

ولا مانع للحمل على الحقيقة والمجاز معا ، لفقد التنافي بينهما ، فيجب اجراؤه على العموم فيهما لفقد المخصص. والقرينة على أن الحقيقة أصل والمجاز فرع عليه ، والحمل على الأصل أولى ، والامر شرعا على الوجوب.

ويدل عليه أيضا قوله ( ويحرم عليهم الخبائث ) (٣) ، ولم يفرق بين الظاهر والخفي ولا بين القليل والكثير.

( فصل )

وقوله ( وإذا ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) (٤).

__________________

(١) سورة المدثر : ٤ ـ ٥.

(٢) أوله ( فان تك قد ساءتك منى خليقة ) ، وقوله ( تنسلي ) من ( نسل الثوب عن الرجل ) سقط ، والياء الاشباع ، والمعنى : خلصي قلبي من قلبك ( هـ ج ).

(٣) سورة الأعراف : ١٥٧.

(٤) سورة البقرة : ١٢٤.

٦٨

عن ابن عباس : ان الله أمر بعشر سنن خمس في الرأس وخمس في البدن ، أما التي في الرأس فالمضمضة والاستنشاق والفرق وقص الشوارب والسواك ، واما التي في الجسد فالختان وحلق العانة وتقليم الأظفار ونتف الإبطين والاستنجاء بالماء (١).

وبه قال قتادة وأبو الخلد.

وقال تعالى ( ملة أبيكم إبراهيم ) (٢) أي ابتغوا ملته ، فإنها داخلة في ملة نبينا مع زيادات.

( فصل )

وانما نتكلم في النجاسات التي خالفونا فيها احتجاجا عليهم : اعلم أن المني نجس لا يجزي فيه الا الغسل عندنا. والدليل عليه ـ بعد اجماع الطائفة ـ قوله ( وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان ) (٣) فان المفسرين قالوا : انه تعالى أراد به اثر الاحتلام ـ على ما قدمناه.

والآية دالة على نجاسة المني من وجهين :

أحدهما ـ أن الرجس والرجز والنجس بمعنى واحد ، لقوله ( والرجز فاهجر ) ولقوله ( واجتنبوا الرجس ).

والوجه الثاني ـ انه تعالى أطلق عليه اسم التطهير ، وهو في الشرع إزالة النجاسة.

ودم الحيض نجس قليله وكثيره ، لا يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه شئ قليل ، والدليل عليه آية المحيض ، فإنها على العموم.

__________________

(١) هذا أحد الأقوال المنقولة عن ابن عباس ـ انظر الدر المنثور ١ / ١١١.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) سورة الأنفال : ١١.

٦٩

والخمر وكل مسكر نجس ، يدل عليه آية تحريمه ، وهي على العموم أيضا.

وأما الغائط فيمكن ان يستدل على نجاسته بآية الطهارة.

والفقاع وغيره من النجاسات تدل على نجاستها السنة على سبيل التفصيل والقرآن على الاجمال ، قال تعالى ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) ، وقد نهى عنه.

( فصل )

والدم الذي ليس بدم حيض ونفاسة واستحاضة يجوز الصلاة في ثوب أو بدن أصابه منه ما ينقص مقداره عن سعة الدرهم الوافي ، وما زاد على ذلك لا يجوز الصلاة فيه.

واحتجاجنا عليه من الكتاب ـ مضافا إلى الاجماع ـ قوله ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) (١) ، فجعل تطهير الأعضاء الأربعة مبيحا للصلاة ، فلو تعلقت الإباحة بغسل نجاسة لكان زيادة لا يدل عليها الظاهر لأنه بخلافها. ولا يلزم على هذا ما زاد على الدرهم.

وما عدا الدم من سائر النجاسات من بول أو عذرة ومني وغيرها إذا كان قليلا يجب ازالته ، لأن الظاهر ـ وان لم يوجب ذلك ـ فقد عرفناه بدليل أوجب الزيادة على الظاهر ، وليس في ذلك يسير الدم.

وتلك الدماء الثلاثة للنساء تختص في الأكثر بأوقات معينة يمكن التحرز منها ، وباقي الدماء بخلاف ذلك.

وانما فرقنا بين الدم وبين البول والمني وسائر النجاسات في اعتبار الدرهم لاجماع الطائفة وأخبارهم. ويمكن أن يكون الوجه فيه أن الدم لا يوجب خروجه

__________________

(١) سورة المائدة : ٦٠.

٧٠

من الجسد ـ على اختلاف مواضعه ـ وضوءا الا ما ذكرناه ، والبول والعذرة والمني يوجب خروج كل واحد منها الطهارة ، فغلظت أحكامها من هذا الوجه على حكم الدم.

( فصل )

فأما من كان به بثور (١) يرشح منها الدم دائما لم يكن عليه حرج في الصلاة به ، وكذا إن كان به جراح يرشح دما وقيحا فله ان يصلي فيها وان كثر ذلك ، يدل عليه قوله ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (٢) ، ونحن نعلم لو ألزم المكلف إزالة ذلك لحرج به ، وربما تفوته الصلاة مع ذلك ، فأباحه الله رأفة بعباده.

والآية دالة أيضا على أن حكم الثوب إذا أصابه دم البق والبراغيث فلا حرج أن يصلى فيه وإن كان كثيرا ، لأنه مما لا يمكن التحرز منه وانه تعالى رفع الحرج عن المكلفين.

وقد قدمنا ان الخمر ونبيذ التمر الذي نش (٣) وكل مسكر لا يجوز الصلاة فيه وإن كان قليلا حتى يغسل بالماء ، ويدل عليه قوله ( انما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس ) (٤) ، وإذا ثبت انه نجس يجب ازالته ، ثم قال ( فاجتنبوه ) ، أمر باجتناب ذلك على كل حال. وظاهر أمر الله شرعا على الايجاب ، فيجب اجتناب ما يتناول اللفظ على كل وجه.

__________________

(١) البثور : خراج صغار ، وهو مثل الجدري يقبح على الوجه وغيره من بدن الانسان لسان العرب ( بثر ).

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) الخمر تنش : إذا أخذت تغلى ـ أساس البلاغة ٢ / ٤٤٣.

(٤) سورة المائدة : ٩٠.

٧١

( باب الزيادات في الخبر )

إذا سمعت الله تعالى يقول ( يا أيها الذين آمنوا ) فارع لها سمعك ، فإنها لأمر يؤمر به أو لنهي ينهى عنه. وقال الصادق عليه‌السلام : لذة ما في النداء أزالت تعب العبادة والعناء.

وقوله ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (١) يدل على أنه يكره أن يستعين الانسان في الوضوء أو الغسل بمن يصب الماء عليه ، بل ينبغي أن يتولاه بنفسه.

ومن وضأه غيره وهو يتمكن منه لم يجزه ، وكذلك في الغسل إذا تولاه غيره مع تمكنه لا يكون مجزيا ، لقوله ( فاغسلوا وجوهكم ) (٢) و ( ان كنتم جنبا فاطهروا ) (٣) فإنه إذا لا يكون متطهرا.

فإن كان عاجزا عن الوضوء أو الغسل لمرض أو ما يقوم مقامه بحيث لا يتمكن منه لم يكن به بأس ، لقوله ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (٤).

( مسألة )

ان قيل : لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل في قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة ).

قلنا : لان الفعل يوجد بقدرة الفاعل عليه ويقع بوجه دون وجه بإرادته له ، فكما يعبر عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم ( الانسان لا يطيروا الأعمى لا يبصر ) أي لا يقدران على الطيران والابصار ، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل ، فأقيم ما هو كالمسبب مقام ما هو كالسبب للملابسة بينهما ، ولا مجاز في الكلام.

__________________

(١) سورة الكهف : ١١٠.

(٢) سورة المائدة : ٦.

(٣) سورة المائدة : ٦.

(٤) سورة الحج : ٧٨.

٧٢

( مسألة )

فان قيل : ظاهر الامر يوجب الوضوء على كل قائم إلى الصلاة محدث وغير محدث.

قلنا : يحتمل ان يكون الامر للوجوب ، فيكون الخطاب للمحدثين خاصة.

فان قيل : هل يجوز أن يكون الامر شاملا للمحدثين وغيرهم ، لهؤلاء على وجه الايجاب ولهؤلاء على وجه الاستحباب.

قلنا : نعم هذا من الصواب ، لأنه لا مانع من أن تتناول الكلمة الواحدة معنيين مختلفين.

( مسألة )

أما ما روي أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا فدعا نفرا من الصحابة حين كانت الخمر مباحة ، فأكلوا وشربوا فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم ليصلي بهم ، فقرأ ( أعبد ما تعبدون أنتم عابدون ما أعبد ) فنزل ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ) (١) ، فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة ، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون الا وقد ذهب عنهم السكر ويعلموا ما يقولون ، ثم نزل تحريمها (٢).

فهذه الرواية غير صحيحة ، فالخمر كانت محرمة في كل ملة على ما نذكره في بابه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

(٢) أسباب النزول للواحدي : ١٠١.

٧٣

( مسألة )

فان قيل : ما محل قوله ( الا عابري سبيل ) من الاعراب؟ قلنا : من فسر الصلاة في الآية بمواضع الصلاة ـ وهي المساجد ـ فحذف المضاف فهو في موضع الحال ، أي لا تقربوا المسجد جنبا الا مجتازين منه إذا كان فيه الطريق إلى الماء أو كان الماء منه أو احتلمتم فيه. وكان النبي صلى الله عليه وآله لم يأذن لاحد يمر في مسجده وهو جنب الا لعلي عليه‌السلام حتى سد الأبواب كلها الا بابه (١).

وأما من حمل الآية على ظاهرها ـ وهو بعيد ـ فقال : معناه لا تقربوا الصلاة في حال الجنابة الا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر ، وعبور السبيل عبارة عن السفر. فقد ترك مجازا ووقع في مجازين.

وان زعم أنه صفة لقوله ( جنبا ) أي ولا تقربوا الصلاة في حال الجنابة الا ولعلم حال أخرى تعذرون معها وهي حال السفر ، وعبور السبيل عنده عبارة عن السفر. فقد ترك مجازا ووقع في مجازين (٢).

وان زعم أنه صفة لقوله ( جنبا ) أي ولا تقربوا الصلاة جنبا غير عابري سبيل ، فإنهم لا تصح صلاتهم على الجنابة لعذر السفر ، حتى يغتسلوا ويتيمموا عند العذر.

وهذا يستوي فيه المقيم والمسافر.

( مسألة )

فان قيل : ان الله تعالى أدخل في حكم الشرط أربعة ، وهم المرضى والمسافرون

__________________

(١) وسائل الشيعة

(٢) أحدهما استعمال القرب الذي هو من صفات الأجسام في الصلاة ، والاخر حمل عبور السبيل على السفر ( هـ ج ).

٧٤

والمحدثون وأهل الجنابة ، فبمن تعلق الجزاء ـ الذي هو الامر بالتيمم عند عدم الماء منهم؟

قلنا : الظاهر أنه يتعلق بهم جميعا ، وان المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه أو مع وجدانهم الماء لا يمكنهم استعمال الماء لجرح أو قرح بهم فلهم أن يتيمموا ، وكذلك السفر إذا عدموه لبعدهم منه أو لبعض الأسباب التي هي في الشرع عذر ، والمحدثون وأهل الجنابة كذلك إذا لم يجدوه لبعض الأسباب.

( مسألة )

فان قيل : كيف نظم في سلك واحد بين المرضى والمسافرين وبين المحدثين والمجنبين ، والمرض والسفر سببان من أسباب الرخصة ، والاحداث سبب لوجوب الوضوء والغسل.

قلنا : أراد سبحانه أن يرخص للذين وجب عليهم التطهير وهم عادمون للماء في التيمم ، فخص من بينهم مرضاهم وسفرهم ، لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة لغرضه ، ثم عم من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف عدو أو سبع أو عدم آلة استقاء أو غير ذلك مما لا يكثر كثرة المرض والسفر.

( مسألة )

الدلك في غسل الجنابة غير واجب بدلالة قوله ( ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) (١) ، واسم الاغتسال ثابت مع عدم الدلك للجوارح واليدين ، فبطل

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

٧٥

قول من أوجبه ، إذ ليس بعد امتثال الامر بالغسل أمر آخر ، ودلك البدن أمر زائد على الغسل ، وايجاب ما زاد على المأمور به لا يكون من جهة الشرع ، الا أن يريد به احتياط المغتسل في ايصال الماء إلى أصل كل شعر من رأسه وبدنه.

( مسألة )

فان قيل : مم اشتقاق الجنابة.

قلنا : من البعد (١) ، فكأنه سمي به لتباعده عن المساجد إلى أن يغتسل ، ولذلك قيل ( أجنب ).

وقال ابن عباس : الانسان لا يجنب والثوب لا يجنب. فإنه أراد به أن الانسان لا يجنب بمماسة الجنب ، وكذا الثوب إذا لبسه الجنب.

( مسألة )

الصعيد وجه الأرض ترابا كان أو غيره ، وإن كان صخرا لا تراب عليه لو ضرب المتيمم يده عليه لكان ذلك طهوره ، وهو مذهب أبي حنيفة أيضا.

فان قيل : فما يصنع بقوله في المائدة ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) (٢) أي بعضه ، وهذا لا يتأتى في الصخر الذي لا تراب عليه؟ قلنا : قالوا إن ( من ) لابتداء الغاية. على أنه لو كان للتبعيض لا يلزم ما ذكر لان التيمم بالتراب عند وجوده أولى منه بالصخر ، وكون الغبرة على الكفين لا اعتبار بها.

__________________

(١) قال ابن فارس : الجيم والنون والباء أصلان متقاربان ، أحدهما الناحية والاخر البعد. واما البعد فالجنابة. ويقال ان الجنب الذي يجامع أهله مشتق من هذا ، لأنه يبعد عما يقرب منه غيره من الصلاة والمسجد وغير ذلك ـ معجم مقاييس اللغة ١ / ٤٨٣.

(٢) سورة المائدة : ٤٣.

٧٦

( مسألة )

المحيض مصدر مثل المجئ ، وكانت الجاهلية إذا حاضت المرأة لم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس ، وأخرجوهن من بيوتهن في صدر الاسلام أيضا بظاهر قوله ( فاعتزلوا النساء ) (١) ، فقال عليه‌السلام : انما أمرتم ان تعتزلوا مجامعهتن إذا حضن ولم يأمركم باخراجهن من البيوت كفعل الأعاجم (٢).

( مسألة )

وقد قال بعض المفسرين في قوله تعالى ( قد أفلح من تزكى ) (٣) ، معناه أفلح من تطهر للصلاة وتوجه بذكر الله فصلى الصلوات الخمس.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٢) تفسير البرهان ١ / ٢١٥.

(٣) سورة الاعلى : ١٤.

٧٧

كتاب الصلاة

وقد ورد في القرآن آي كثيرة على طريق الجملة تدل على وجوب الصلاة ، نحو قوله ( أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ) (١) وقوله ( وأقيموا الصلاة ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) (٢) وقوله ( حافظوا على الصلوات ) (٣).

ويمكن الاستدلال بهذه الآيات على [ وجوب جميع الصلوات ، وعلى صلاة

الجنائز وصلاة العيدين ، وعلى ] (٤) وجوب الصلاة على النبي وآله في التشهد ، لأنه عام في جميع ذلك.

وقوله ( حافظوا ) أبلغ من احفظوا ، لان هذا البناء أصله لتكرر الفعل بوقوعه من اثنين ، فإذا استعمل فيما يكون من واحد ضمن مبالغة وتطاولا في ذلك الفعل ، كقوله ( عافاك الله ) لا يقصد به سؤال هذا الفعل مرة واحدة. فكأن الله تعالى كرر الامر بحفظ الصلوات الخمس ، وتحفظ الصلوات بأن يؤتى بها في أوقاتها بحدودها وحقوقها.

__________________

(١) سورة البقرة : ٤٣.

(٢) سورة النساء : ١٠٣.

(٣) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٤) الزيادة من م.

٧٨

والصلاة أفضل العبادات ، ولهذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ( لكل شئ وجه ووجه دينكم الصلاة ) (١) وقال عليه‌السلام ( الصلاة أول ما ينظر فيه من أعمال العبد ، فان صحت لم ينظر في عمل من أعماله ، وان لم تصح نظر فيها وفي جميع أفعاله ) (٢).

( فصل )

فان قيل : كيف أمروا بالصلاة وهم لا يعرفون حقيقتها في الشريعة.

قيل : انما أمروا بذلك لأنهم أحيلوا فيه على بيان الرسول عليه‌السلام ، ووجه الحكمة فيه ظاهر ، لان المكلفين إذا أمروا بشئ على الاجمال كان أسهل عليهم في أول الوهلة وأدعى لهم في قبولها من أن يفصل. ثم كون المجمل المأمور به يدعوهم إلى استفسار ذلك ، فيكون قبول تفصيله ألزم لهم.

ومثاله في العقليات : قول أصحاب المعارف لنا : لو كنا مكلفين بالمعرفة لوجب أن نكون عالمين بصفة المعرفة ، لئلا يكون تكليفا بما لا يطاق.

فنقول لهم : الواحد منا ـ وان لم يكن عالما بصفة المعرفة ـ فإنه عالم بسبب المعرفة ، وهو النظر. فالعلم به يقوم مقام العلم بمسببه الذي هو المعرفة وصفتها ، والمكلف انما يجب ان يكون عالما بصفة ما كلف لتمكنه الاتيان به على الوجه الذي كلف ، فإذا أمكنه من دونه فلا معنى لاشتراطه.

( فصل )

وإقامة الصلاة أداؤها بحدودها وفرائضها كما فرضت عليهم ، يقال ( أقام القوم سوقهم ) إذا لم يعطلوها من المبايعة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ / ١٦.

(٢) وسائل الشيعة : ٣ / ٢٣ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٧٩

وقيل أقامتها إدامة فرائضها ، يقال للشئ الراتب قائم.

وقيل : هو من تقويم الشئ ، يقال ( قام بالامر ) إذا أحكمه وحافظ عليه.

وقيل : انه مشتق مما فيها من القيام ، ولذلك يقال ( قد قامت الصلاة ).

واما ( الصلاة ) فهي الدعاء في الأصل. والصلاة اشتقاقها من اللزوم ، يقال ( اصطلى بالنار ) أي لزمها (١). وقال تعالى ( تصلى نارا ) (٢).

وتخصصت في الشرع بالدعاء والذكر في موضع مخصوص. وقيل : هي عبارة عن الركوع والسجود على وجه مخصوص وأذكار مخصوصة.

وقال أصحاب المعاني : ان معنى ( صلى ) أزال الصلاء منه وهو النار ، كما يقال مرض.

وفرضها على ثلاثة أقسام متعلقة بثلاثة أحوال : الحضر ، والسفر ، والضرورة.

وانما اختلفت أحكامها لاختلاف أحوالها ، وبينها رسول الله صلى الله عليه وآله وفصلها ، ونص القرآن عليها جملة ، قال ( ما آتاكم الرسول فخذوه ) (٣) وقال ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (٤).

( باب ذكر المواقيت )

فأولها الظهر ، وهي أول صلاة فرضها الله تعالى على نبيه عليه‌السلام ، وقال

__________________

(١) قال ابن فارس : الصاد واللام والحرف المعتل أصلان : أحدهما النار وما أشبهها من الحمى ، والاخر جنس من العبادة. فأما الأول فقولهم ( صليت العود بالنار ) ، والصلي صلي النار ، واصطليت بالنار ، والصلاء ما يصطلى به وما يذكى به النار ويوقد .. واما الثاني فالصلاة وهي الدعاء ـ معجم مقاييس اللغة ٣ / ٣٠٠.

(٢) سورة الغاشية : ٤.

(٣) سورة الحشر : ٧.

(٤) سورة النحل : ٤٤.

٨٠