فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

لقوله تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) وقال ( ما آتاكم الرسول فخذوه ).

ولما حولت القبلة إلى الكعبة كانوا لا يعتبرون بطاعة الا بالصلاة إلى الكعبة قال تعالى ( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله ) (١) قال ابن عباس : ليس البر كله في التوجه إلى الصلاة نحو الكعبة ولكن البر من آمن بالله ، وان هذه تدعو إلى الصلاح وتصرف عن الفساد ، وان ذلك يختلف بحسب الأزمان.

( باب الصلاة على الموتى وأحكامهم )

يدل على أربعة أحكام مفروضة في حق المؤمن إذا مات ، قوله تعالى ( ما آتاكم الرسول فخذوه ) ، وقد بين رسول الله تغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه ، وفرضها على الكفاية ، وقد بينها بقوله ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ).

فإذا مات كافر أو منافق فلا يجب شئ من ذلك على الاحياء ، قال تعالى ( ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره ) (٢) [ وهذا نهي من الله لنبيه أن يصلي على منافق أو يقوم على قبره ] (٣) أي لا تتول دفنه ـ كما يقال قام فلان بكذا (٤).

وعن ابن عباس : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عبد الله بن أبي ابن سلول قبل أن نهي عن الصلاة على المنافقين.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٧.

(٢) سورة التوبة : ٨٤.

(٣) الزيادة من ج.

(٤) يمكن الاستدلال بهذه الآية على منع الصلاة على الكافر أيضا ، لأنه تعالى علل المنع بقوله ( انهم كفروا بالله ) والكفر حاصل في الكافر فوجب أن لا يصلى عليه ( هـ ج ).

١٦١

وكان الشيخ المفيد يستدل بفحوى هذه الآية على وجوب القيام بدفن المؤمنين والصلاة عليهم ، لأنه كان يقول بدليل الخطاب ويجعله دليلا. ومنع منه المرتضى ، وتوقف فيه أبو جعفر الطوسي. وكذا حالهم في استصحاب الحال.

والقيام في الآية يجوز أن يكون الذي هو مقابل الجلوس ، ويكون معناه لا تقف عند قبره ، ومن قولهم ( قام بكذا ) إذا ثبت على صلاحه. ويكون القبر مصدرا على هذا ، أي لا تتول دفن ميت منهم. والمفسرون كلهم على أن المراد بذلك الصلاة التي تصلى على الموتى. وكان صلاة أهل الجاهلية على موتاهم أن يتقدم رجل فيذكر محاسن الميت ويثني عليه ثم يقول عليك رحمة الله.

وقوله ( انهم كفروا بالله ) كسرت ان وفيها معنى العلة لتحقيق الاخبار بأنهم على هذه الصفة ، ويدل ذلك على أن الصلاة على الميت عبادة.

( فصل )

وقوله تعالى ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) (١) يدل بعمومه على أن أحق الناس بالصلاة على الميت وليه ، وهو أولى بها من غيره.

وقوله تعالى ( وان من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين ) (٢) الآية.

قال جابر وغيره : ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أتاه جبرئيل عليه‌السلام وأخبره بوفاة النجاشي ، ثم خرج من المدينة إلى الصحراء ورفع الله الحجاب بينه وبين جنازته فصلى عليه ودعا له واستغفر له ، وقال للمؤمنين صلوا عليه ، فقال المنافقون

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧٥.

(٢) سورة آل عمران ١٩١.

١٦٢

يصلي على علج بنجران ، فنزلت الآية (١). والصفات التي ذكرت في الآية هي صفات النجاشي.

وقال مجاهد : نزلت في كل من أسلم من اليهود والنصارى. ولا مانع من هذا أيضا ، لان الآية قد تنزل على سبب وتكون عامة في كل ما تتناوله.

ويجوز أن يصلى على الجنازة بالتيمم مع وجود الماء إذا خيف فوت الصلاة عليه ، وبذلك آثار عن أئمة الهدى عليهم‌السلام ، وكأنه استثناء من قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) الآية.

على أن هذا قد ورد في الصلاة المطلقة ، والصلاة على الجنائز صلاة مقيدة ، فأما التيمم فيها فلا جماع الطائفة.

وأما التكفين فإنه يدل عليه من القرآن قوله ( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم ) (٢) الآية ، تعم الاحياء والأموات لأنه تعالى لم يفصل ، فدل على وجوب الكفن عمومها.

وأما الدفن فالدليل عليه من كتاب الله قوله ( ألم نجعل الأرض كفاتا * أحياء وأمواتا ) (٣) فالكفات الضمائم والوعاء (٤) ، أي تضمهم في الحالين ، فظهرها للاحياء وبطنها للأموات.

وقوله تعالى ( ثم أماته فأقبره ) (٥) فالمقبر الامر بالدفن والقابر الدافن.

__________________

(١) أسباب النزول ص ٩٣ مع اختلاف في بعض الألفاظ. والعلج : الرجل من كفار العجم ، والجمع علوج وأعلاج ومعلوجاء وعلجة ( صحاح اللغة ١ / ٣٣٠ ). ونجران بالفتح ثم السكون. في مخاليف اليمن من ناحية مكة.

(٢) سورة الأعراف : ٢٦.

(٣) سورة المرسلات : ٢٥ ـ ٢٦.

(٤) في الكشاف : الكفات من الكفت ، وهو الجمع ، وهي بمعنى كافته ، وبهذا نصبت احياء بالمفعولية ( هـ ج ).

(٥) سورة عبس : ٢١.

١٦٣

وقوله تعالى ( فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه ) (١) هو أول ميت كان من الناس ، فلذلك لم يدر أخوه كيف يواريه وكيف يدفنه حتى بعث الله غرابان أحدهما حي والاخر ميت ، فنقر في الأرض حتى جعل حفيرة ووضع الميت فيه وواراه بالتراب الهاما من الله.

( باب الزيادات )

( الصلاة الوسطى ) أي الفضلى ، من قولهم : الأفضل الأوسط. وانما أفردت وعطفت على الصلوات لانفرادها بالفضل.

وقال النبي عليه‌السلام يوم الأحزاب : شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملا الله بيوتهم نارا. ثم قال : انها الصلاة التي شغل عنها سليمان بن داود حتى توارت بالحجاب (٢).

وروي في قوله ( وقوموا لله قانتين ) أنهم كانوا إذا قام أحدهم إلى الصلاة هاب الرحمن أن يمد بصره أو يلتفت أو يقلب الحصى أو يحدث نفسه بشئ من أمور الدنيا (٣).

( مسألة )

دلكت الشمس زالت أو غربت ، فإذا كان الدلوك الزوالي فالآية جامعة للصلوات الخمس ، لان الغسق الظلمة ، وهو وقت صلاة العشائين. وقرآن الفجر صلاة الغداة. وإذا كان الدلوك الغروب خرجت منها صلاة الظهر والعصر.

__________________

(١) سورة المائدة : ٣١.

(٢) الدر المنثور ١ / ٣٠١.

(٣) الدر المنثور ١ / ٣٠٦.

١٦٤

وقوله تعالى ( وقرآن الفجر ) يجوز أن يكون حثا على طول القراءة فيها ، وكذلك كانت صلاة الفجر أطول الصلوات قراءة.

( ومن الليل فتهجد ) أي وعليك بعض الليل فتهجد به. والتهجد ترك الهجود ، وهو النوم للصلاة.

و ( نافلة ) أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس. ووضع نافلة موضع تهجد لان التهجد عبادة زائدة ، فنافلة مصدر من غير لفظ الفعل قبله.

( مسألة )

فان قيل : أي فائدة في اخبار الله بقول اليهود أو المنافقين أو المشركين قبل وقوعه ، فقال ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) (١).

قلنا : فائدته أن مفاجأة المكروه أشد والعلم به قبل وقوعه أبعد من الاضطراب إذا وقع لما يتقدمه من توطين النفس ، فان الجواب العتيد قبل الحاجة إليه أقطع للخصم وأرد لسعيه ، وقبل الرمي يراش السهم.

( ما ولاهم عن قبلتهم ) وهي بيت المقدس.

( لله المشرق والمغرب ) أي الأرض كلها ( يهدي من يشاء ) وهو ما توجبه الحكمة والمصلحة من توجيههم تارة إلى بيت المقدس وأخرى إلى الكعبة.

( مسألة )

( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ). قال بعض المفسرين : قوله ( التي كنت عليها ) ليست بصفة القبلة ، انما هي ثاني مفعولي جعل ، يريد وما جعلنا

__________________

(١) سورة البقرة : ١٤٢.

١٦٥

القبلة الجهة التي كانت عليها ـ وهي الكعبة ـ لان رسول الله كان يصلي بمكة إلى الكعبة ، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود ، ثم تحول إلى الكعبة. فيقول : وما جعلنا القبلة التي يجب أن تستقبلها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة ، يعني وما رددناك إليها الا امتحانا للناس ، كقوله ( وما جعلنا عدتهم الا فتنة ) (١).

ويجوز أن يكون بيانا للحكمة في جعل بيت المقدس [ قبلته ، يعنى أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وان استقبالك بيت المقدس ] (٢) كان أمرا عارضا لغرض ، وانما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذا ـ وهي بيت المقدس ـ لنمتحن الناس.

وعن ابن عباس : كان قبلته بمكة بيت المقدس ، الا أنه كان يجعل القبلة بينه وبينه.

( مسألة )

( شطر المسجد الحرام ) نحوه. وقرأ أبى ( تلقاء المسجد الحرام ).

وشطر نصب على الظرف ، أي اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد الحرام ، أي في جهته وسمته ، لان استقبال عين الكعبة فيه حرج عظيم على البعيد.

وذكر المسجد الحرام دليل على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين ، فعلى هذا الكعبة قبله من كان في المسجد الحرام ، والمسجد قبلة من كان في الحرم ، والحرم قبلة من نأى من أي جانب كان ، وهو شطر المسجد وتلقاؤه. وقراءة أبي ( ولكل قبلة ) إشارة إلى ما ذكرنا.

وقوله تعالى ( هو موليها ) أي هو موليها وجهته ، فحذف أحد المفعولين.

__________________

(٢) سورة المدثر : ٣١.

(١) الزيادة ليست في ج.

١٦٦

وقيل هو لله ، أي الله موليها إياه. على أن القراءة العامة يجوز أن يراد بها ذلك أيضا ، ويكون المعنى ولكل منكم يا أمة محمد وجهة ، أي جهة تصلى إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية ، أينما تكونوا يجعل صلاتكم كأنها إلى جهة واحدة وكأنكم تصلون حاضري المسجد الحرام.

( مسألة )

وعن أبي حنيفة يجوز أن يصلى الفريضة في جوف الكعبة ، وعندنا لا يجوز ، وبذلك نصوص عن أئمة الهدى. ويؤيده قوله ( وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) وقد بينا أن المراد به نحوه ، ومن كان في جوف الكعبة لم يكن مصليا نحوها. على أنه قد ورد النص بأنه يصلى النوافل في الكعبة.

وقوله تعالى ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) يدل على أن البعيد من مكة يتوجه إلى المسجد ، فإنه لا يمكنه التوجه إلى عين الكعبة الا لمن يقربها.

( مسألة )

قوله تعالى ( خذوا زينتكم ) أي كلما صليتم خذوا لباس زينتكم. وقيل الزينة الطيب ، وأطيب الطيب الماء.

ثم قال ( قل من حرم زينة الله ) أي من الثياب وكل ما يتجمل به. ومعنى الاستفهام في ( من ) انكار تحريم ذلك ، فإنهم كانوا يقولون لا نعبد الله في ثياب أذنبنا فيها ويطوفون ويصلون عراة.

( قال هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ) ونبه تعالى بهذا على أنها خلقت للذين آمنوا على طريق الأصالة ، وان الكفرة تبع لهم في الحياة الدنيا خالصة للمؤمنين يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد.

١٦٧

( مسألة )

قوله تعالى ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر ) يجوز أن ذكر ثاني مفعول منع ، ويجوز أن يكون مفعولا له.

( ولله المشرق والمغرب ) أي بلادهما ، ففي أي مكان فعلتم التولية ـ يعني تولية وجوهكم شطر القبلة بدليل قوله ( فول وجهك شطر المسجد الحرام ) ـ ( فثم وجه الله ) أي جهته التي أمر بها ورضيها. والمعنى انكم إذا منعتم أن تصلوا في المسجد الحرام قد جعلت لكم الأرض مسجدا فصلوا في أي بقعة شئتم من بقاعها وافعلوا التولية منها فإنها ممكنة في كل مكان.

( مسألة )

قال الباقر عليه‌السلام : الصلاة عشرة أوجه : صلاة السفر ، وصلاة الحضر ، وصلاة الخوف على ثلاثة أوجه ، وصلاة كسوف الشمس والقمر ، وصلاة العيدين ، وصلاة الاستسقاء ، والصلاة على الميت (١).

( مسألة )

وقوله ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) (٢) تفصيل هذه الجملة ما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لعمران بن حصين : صل قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب تومي ايماءا (٣).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ / ٣.

(٢) سورة آل عمران : ١٩١.

(٣) الدر المنثور ٢ / ١١٠.

١٦٨

( مسألة )

وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة ) المراد بالنداء الاذان ههنا. ومن في قوله ( من يوم الجمعة ) بيان لاذا وتفسير له.

وقيل : ان الأنصار قالوا : ان لليهود يوما يجتمعون فيه في كل سبعة أيام ، والنصارى كذلك ، فاجتمعوا يوم العروبة إلى سعد بن زرارة ، فأنزل الله آية الجمعة.

وأول جمعة جمعها رسول الله هي أنه لما قدم المدينة مهاجرا نزل قبا على بنى عمرو بن عوف وأقام بها يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة عامدا المدينة ، فأدركته صلاة الجمعة في بنى سالم بن عوف في بطن واديهم ، فخطب وصلى الجمعة.

وقد أبطل الله قول اليهود حين افتخروا بالسبت وأنه ليس للمسلمين مثله ، فشرع الله لهم الجمعة.

( مسألة )

[ قال أبو حنيفة ] (١) لا تجب الجمعة الا على أهل الأمصار ، فأما من كان موضعه منفصلا عن البلد فإنه لا يجب عليه وان سمع النداء.

وعندنا وعند الشافعي تجب على الكل إذا بلغوا العدد الذي تنعقد به الجمعة مع الشرائط الأخر ، يؤيده قوله ( إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله ) يعم الامر بذلك كل متمكن من سماع النداء الا من خصه الدليل.

وكذا قول النبي عليه‌السلام ( الجمعة واجبة على كل من آواه الليل ) (٢) ثم استثنى أشياء وبقى هذا على العموم.

__________________

(١) ليست في ج.

(٢) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ١ / ٣٦٨ ، وليس فيه لفظة ( واجبة ).

١٦٩

( مسألة )

وقوله ( وإذا ضربتم في الأرض ) (١) الضرب في الأرض السفر ، وقال الفقهاء القصر ثابت بالكتاب مع الخوف وبالسنة في حال الامن.

فان قيل : كيف جمع بين الحذر والأسلحة في قوله ( وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) (٢).

قلنا : جعل الحذر ـ وهو التحرز والتيقظ ـ آلة يستعملها الغازي ، فلذلك جمع بينه وبين الأسلحة في الاخذ وجعلا مأخوذين ، ونحوه قوله ( والذين تبوأوا الدار والايمان ) (٣) جعل الايمان مستقرا لهم ومتبوءا لتمكنهم فيه.

( مسألة )

وقوله تعالى ( يا أيها المزمل ) (٤) ليس بتهجين بل هو ثناء عليه وتحسين لحاله التي كان عليها. ثم أمره بأن يختار على الهجود التهجد وعلى التزمل التشمر ، لا جرم ان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله اقبل على احياء الليالي مع اصباحه حتى ظهرت السماء في وجوههم.

وترتيل القرآن قراءته على تؤدة بتبيين الحروف واشباع الحركات حتى يجئ المتلو كالثغر المرتل. و ( ترتيلا ) تأكيد لقوله ( ورتل القرآن ) في ايجاب الامر به وانما مما لابد منه للقارئ.

( مسألة )

وعن زين العابدين عليه‌السلام كان يصلى بين العشائين ويقول : اما سمعتم

__________________

(١) سورة النساء : ١٠١.

(٢) سورة النساء : ١٠٢.

(٣) سورة الحشر : ٩.

(٤) سورة المزمل : ١.

١٧٠

قول الله ( ان ناشئة الليل ) هذه ناشئة الليل.

وقال النبي عليه‌السلام : تنفلوا في ساعة الغفلة ولو بركعتين خفيفتين ، فإنهما يورثان دار الكرامة ودار السلام وهي الجنة ، وساعة الغفلة بن المغرب والعشاء (١).

( مسألة )

وقوله ( قد أفلح المؤمنون ) أخبر تعالى بثبات الفلاح لهم.

والخشوع في الصلاة خشية القلب والزام البصر موضع السجود ، ومن الخشوع أن يستعمل الآداب ، فيتوقى لف الثياب والعبث بالجسد والثياب والالتفات والتمطي والتثاؤب والتغميض والفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى وكل ما لا يكون من الصلاة.

وإضافة الصلاة إليهم لأنهم ينتفعون بها وهي ذخيرة لهم ، والله متعال عن الحاجة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٣ / ٢٤٩.

١٧١

كتاب الصوم

قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ) (١).

فقوله ( كتب عليكم ) يقتضي الوجوب من وجهين : أحدهما ( كتب ) ، وهو في الشرع يفيد الايجاب ، كما قيل المكتوبة في فريضة الصلوات. والثاني ( عليكم ) لأنه يبنى على الايجاب أيضا ، كقوله ( ولله على الناس حج البيت ) (٢).

وإذا جمع بينهما فالدلالة على الايجاب أوكد.

ومعنى ( كتب ) فرض وأوجب ، وعبر عن الفرض بالكتب لان المكتوب أبقى وأثبت. ويجوز أن يكون معناه كتب في اللوح المحفوظ أنكم تتعبدون بذلك.

والمراد فرض عليكم الصوم أياما معدودة كما فرض على من كان قبلكم أياما معدودة

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٣.

(٢) سورة آل عمران : ٩٧.

١٧٢

وان زاد ونقص واختلفت الأيام ، فالتشبيه واقع على جملة أمر الصوم لا على جميع أوقاته وأحكامه.

( لتتقوا النار التي أعدت للكافرين ) (١) أي توقوا أنفسكم عذاب النار ، فالصوم جنة. فأوجب الله فرض الصيام على جميع المؤمنين بعموم اللفظ المنتظم للجميع ، وعم به جميع المؤمنات لمعرفة تغليب المذكر على المؤنث إذا اجتمعوا وبقرينة الاجماع الا من خصه من الجميع في الآية التي تعقب ما تلوناه وما يتبعها من السنة على لسان رسول الله عليه‌السلام.

ثم قال مفسرا ما أجمله ضربا من التفسير ( أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) (٢) الآية. فبين أن الفرض متعلق بأزمان مخصوصة ، وكشف عما يختص بالخروج عن فرضه في الحال من المرضى والمسافرين وإن كان ألزمهم إياه بعد الحال.

( فصل )

ثم قال ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) رخص في صدر الاسلام للمشاهدين له من أهل السلامة والصحة من الأمراض افطاره على التعمد على شرط قيامهم بفدية الافطار من الاطعام ، ودل على أن الصوم له مع ذلك أفضل عنده وأولى من الفدية للافطار.

ثم نسخ تعالى ذلك بما أردفه من الذكر من القرآن ، فقال ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم

__________________

(١) الآية في سورة آل عمران ١٣١ هكذا ( واتقوا النار التي أعدت للكافرين ). وهي ليست في موضوع الصوم خاصة ـ فلاحظ.

(٢) سورة البقرة : ١٨٤.

١٧٣

الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (١) الآية.

فأوضح بها عن بقية تفسير الاجمال فيما أنزله أولا من فرض الصيام وبين أنه في أيام معدودات يجب فعله في شهر على التمام بما ذكر في العدة من فرض الكمال ، وحظر ما كان أباحه من قبل من الافطار للفدية مع طاقة الصيام ، بالزامه الفرض للشاهد في الزمان مع السلامة من العلل والأمراض ، واكد خروج المرضى والمسافرين من فرضه في الحال بتكرار ذكرهم للبصيرة والبيان ، وأبان عن علة خروجهم بما وصف من أرادتهم به تعالى لهم اليسر وكراهة العسر عليهم زيادة منه في البرهان.

وجاء في التفسير أن ما جاء في القرآن ( يا أيها الذين آمنوا ) [ فإنها مدنية وما فيه ( يا أيها الناس ) ] (٢) مكية.

والصوم شرعا امساك مخصوص عن أشياء مخصوصة ، ومن شرط انعقاده النية ، ولان تفسير الصوم بالصبر أولى ، لقوله تعالى ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) (٣) ، فقد قال المفسرون ان الصبر في الآية هو الصوم ، ولا يوهم أنه ترك.

( باب في تفصيل ما أجملناه )

قوله تعالى ( كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم ).

وفيه ثلاثة أقوال : أحسنها أنه كتب عليكم صيام أيام ، وكما محله نصب صفة مصدر محذوف ، أي فرض عليكم فرضا مثلما فرض على الذين من قبلكم.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٥.

(٢) الزيادة من ج.

(٣) سورة البقرة : ٤٥.

١٧٤

ويحتمل أن يكون أيضا من الحال للصيام ، وتقديره كتب عليكم الصيام مفروضا في هذه الحال.

والثاني ما قاله الحسن انه فرض علينا شهر رمضان كما كان فرض شهر رمضان على النصارى ، وانما زادوا فيه وحولوه إلى زمان الربيع.

والثالث ما قاله جماعة انه كان الصوم من العتمة إلى العتمة ، لا يحل بعد النوم مأكل ولا مشرب ولا منكح ثم نسخ. والأول هو المعتمد.

وقال مجاهد : المعني بالذين من قبلكم أهل الكتاب ، وقوله ( لعلكم تتقون ) أي لكي تتقوا المعاصي بفعل الصوم. وقال السدي : لتتقوا ما حرم عليكم من المأكل والمشرب. وقال قوم : معناه لتكونوا أتقياء مما لطف بكم في الصيام ، لأنه لو لم يلطف بكم لم تكونوا أتقياء.

وانما قلنا إن الأول أصح ، لأنه يصح ذلك في اللغة إذا فرض عليهم صيام أيام كما فرض علينا صيام أيام وان اختلف ذلك بالزيادة والنقصان.

وقوله ( أياما معدودات ) قال الفراء انه مفعول كقولك ( أعطى زيد المال ) وقال الزجاج هو ظرف ، كأنه قيل الصيام في أيام معدودات ، وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام فلا يجوز ما قاله الفراء الا على سعة الكلام.

وقال عطاء وابن عباس : ( أياما معدودات ) ثلاثة أيام من كل شهر ثم نسخ.

وقال ابن أبي ليلى : المعني به شهر رمضان وانما كان صيام ثلاثة أيام تطوعا.

وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام : ان شهر رمضان كان واجبا صومه على كل نبي دون أمته ، وانما أوجب على أمة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله فحسب (١).

__________________

(١) الوسائل ٧ / ١٧٢ مع اختلاف في الألفاظ.

١٧٥

( فصل )

وقوله تعالى ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ) تقديره فعليه عدة من أيام أخر.

وهذه الآية فيها دلالة على أن المسافر والمريض يجب عليهما الافطار ، لأنه تعالى أوجب القضاء عليهما مطلقا ، وكل من أوجب القضاء بنفس السفر والمرض أوجب الافطار. وأوجب داود القضاء وخير في الافطار ، فان قدروا في الآية فأفطر على تقدير فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر كان ذلك خلاف ظاهر الآية وخروجا عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل.

وبوجوب الافطار في السفر قال عمر بن عبد العزيز وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وأبو هريرة وعروة بن الزبير ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وروي عن عمر ان رجلا صام في السفر فأمره أن يعيد صومه.

وروى يوسف بن الحكم : سألت ابن عمر عن الصوم في السفر؟ قال : أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك الا تغضب ، فإنها صدقة من الله تصدق بها عليكم.

وقال ابن عباس : الافطار في السفر عزيمة.

وروى ابن عوف عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر.

وروى عطا عن المحرز بن أبي هريرة قال : كنت مع أبي في سفر في شهر رمضان فكنت أصوم ويفطر ، فقال أبى : ما انك إذا أقمت فصليت وصام رجل في السفر فأمره عروة أن يقضى.

١٧٦

وقال الباقر عليه‌السلام : كان أبى عليه‌السلام لا يصوم في السفر وينهى عنه.

وقال الطبري انه لم ينقطع العذر برواية صحيحة أنه كان ههنا صوم متعبد فنسخه الله بشهر رمضان.

( فصل )

وقوله تعالى ( وعلى الذين يطيقونه ) الهاء عائدة على الصوم ، وقيل عائدة على الفداء لأنه معلوم وان لم يجر له ذكر. والأول أقوى.

وقال الحسن وأكثر أهل التأويل : ان هذا الحكم كان في المراضع والحوامل والشيخ الكبير ، فنسخ من الآية المراضع والحوامل وبقي الشيخ الكبير.

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : ذلك في الشيخ الكبير يطعم لكل يوم مسكينا منهم من مال نصف صاع وهم أهل العراق.

وقال الشافعي مد عن كل يوم ، وعندنا مدان إن كان قادرا ، وان لم يقدر الا على مد أجزأه.

وعن الصادق عليه‌السلام : معناه على الذين يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر أو عطاش وشبه ذلك فعليهم كل يوم مد (١).

قال السدي : لم تنسخ ، انه كان فيمن يطيقه فصار إلى حال العجز عنه ، وانما المعنى وعلى الذين يطيقونه ثم صاروا بحيث لا يطيقونه.

وقوله ( ومن تطوع خيرا ) أي ومن جمع بين الصوم والصدقة ، وقيل من أعطى أكثر من مسكين.

والمعني بقوله ( وعلى الذين يطيقونه ) انه سائر الناس ، كان في أول الاسلام من شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم طعام مسكين [ حتى نسخ ذلك.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٧ / ١٥١ مع بعض الاختلاف.

١٧٧

و ( من تطوع ) من للجزاء أو بمعنى الذي.

وقوله ( فدية طعام مسكين ) ] (١) أي لكل يوم يفطر طعام مسكين. ومن أضاف وجمع المساكين فمعنى قراءته يؤول إليه أيضا ، لأنه إذا قيل اطعام مساكين للأيام بمعنى لكل يوم اطعام مسكين صار المعنى واحدا.

( وأن تصوموا خير لكم ) أي وصومه خير لكم من الافطار والفدية ، وكان هذا مع جواز الفدية ، فأما بعد النسخ فلا يجوز أن يقال الصوم خير من الفدية مع أن الافطار لا يجوز له أصلا.

( فصل )

وقوله ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (٢).

قيل في معناه قولان : أحدهما من شاهد منكم الشهر مقيما فليصمه ، وثانيهما من شهده بأن حضره ولم يغب ، لأنه يقال شاهد بمعنى حاضر ويقال بمعنى مشاهد.

وعندنا ان من دخل عليه الشهر كره له أن يسافر حتى يمضى ثلاث وعشرون من الشهر الا أن يكون سفرا واجبا كالحج (٣) أو تطوعا كالزيارة ، فإن لم يفعل وخرج قبل ذلك في مباح أيضا كان عليه الافطار ولم يجزه الصوم.

وقال أكثر المفسرين : فمن شهد الشهر ـ بأن دخل عليه شهر رمضان وهو حاضر ـ فعليه أن يصوم كله.

وشهر رمضان خبر مبتدأ ، أي هي شهر رمضان ، يدل عليه أياما معدودات.

وقيل بدل من قوله ( الصيام ) ، وتقديره كتب عليكم شهر رمضان أو صوم شهر رمضان على حذف المضاف.

__________________

(١) الزيادة ليست في ج.

(٢) سورة البقرة : ١٨٥.

(٣) الواجب بالنذر وشبهه.

١٧٨

وقوله ( أنزل فيه القرآن ) قال الصادق عليه‌السلام : ان الله أنزل جميع القرآن في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ، ثم أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك نجوما (١).

وقيل ابتدئ انزاله في ليلة القدر من شهر رمضان (١).

فان قيل : كيف يجوز أن يقال أنزل في ليلة واحدة وفى الآية اخبار عما كان ، ولا يصلح ذلك قبل أن يكون.

قلنا : يجوز ذلك كما قال تعالى ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار ) (٢) ، أي إذا كان يوم القيامة نادى أصحاب الجنة أصحاب النار. ومثله ( لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة ) (٣) و ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ) (٤) ، على أنه إذا كان وقت كذا أنزل لقد نصركم الله. والحكمة في أثنائه على اللوح المحفوظ ليكون لطفا للملائكة.

وعلى هذا مسألة ، وهي أن بيان الأحكام الشرعية انما يكون بالمواضعة وبما يتبع ذلك ، فالأول مثاله الكلام والكتابة [ والثاني هو الإشارة والافعال ، فالنبي عليه‌السلام يصح أن يبين الاحكام بالوجوه الأربعة ولا يصح البيان من الله الا بالكلام والكتابة ] (٥) ، فان الإشارة لا تجوز عليه ، والافعال التي تكون بيانا يقتضي مشاهدة فاعلها على بعض الوجوه ، وذلك يقتضي مشاهدته. أما الكتابة فقد بين الله تعالى للملائكة بها في اللوح المحفوظ.

وقوله ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) ناسخ للفدية على قول من قال بالتخيير على ما تقدم ، وناسخ للفدية أيضا في المراضيع والحوامل عند من ذهب

__________________

(١) انظر تفسير البرهان ١ / ١٨٢.

(٢) سورة الأعراف : ٤٤.

(٣) سورة آل عمران : ١٢٣.

(٤) سورة التوبة : ٢٥.

(٥) الزيادة ليست في ج.

١٧٩

إليه ، وبقي الشيخ له أن يطعم ولم ينسخ.

وعندنا ان المرضعة والحامل إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وكفرتا وكان عليهما القضاء فيما بعد إذا زال العذر ، وبه قال جماعة من المفسرين كالطبري وغيره.

( فصل )

وقوله ( فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر ) قد بينا أنه يدل على وجوب الافطار في السفر ، لأنه أوجب القضاء بنفس السفر والمرض ، وكل من قال ذلك أوجب الافطار ، ومن قدر في الآية فأفطر فعدة من أيام أخر زاد في الظاهر ما ليس منه.

فان قيل : هذا كقوله ( فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام ) (١) فمعناه فحلق ففدية من صيام.

قلنا : انما قدرنا هناك فحلق للاجماع على ذلك وليس هنا اجماع ، فيجب أن لا يترك الظاهر ولا نزيد فيه ما ليس منه.

وسئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن حد المرض الذي على صاحبه فيه الافطار ، فقال : هو مؤتمن عليه مفوض إليه ، فان وجد ضعفا فليفطر ، وان وجد قوة فليصم ، كان المريض على من كان ٢ ، بل الانسان على نفسه بصيرة.

وروي ان ذلك كل مرض لا يقدر معه على القيام بمقدار زمان صلاة : (٣).

وقيل : ما يخاف الانسان معه الزيادة المفرطة في مرضه.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٦.

(٢) مستدرك الوسائل ١ / ٥٦٨.

(٣) وسائل الشيعة ٧ / ١٥٧.

١٨٠