فقه القرآن - ج ٢

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ٢

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٥٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

« الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام »

« على محمد وآله الطيبين الطاهرين ».

٣

٤

كتاب القضايا

قال الله تعالى « يا داود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق » (١).

أخبر الله بأنه نادى داود أن افصل بين المختلفين من الناس والمتنازعين بالحق بوضع الأشياء مواضعها على ما أمرك الله به.

والخليفة هو المدبر للأمور من قبل غيره بدلا من تدبيره.

وقيل : معناه جعلناك خليفة لمن كان قبلك من رسلنا ، ثم أمره (٢). فالآية تدل على أن القضاء جائز بين المسلمين وربما كان واجبا ، فإن لم يكن واجبا فربما كان مستحبا ، وتدل عليه آيات كثيرة.

(باب)

(الحث على الحكم بالعدل والمدح عليه)

(وذكر عقوبة من يكون بخلافه)

قال الله سبحانه « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » (٣) وقال تعالى « فان جاؤوك

__________________

١) سورة ص : ٢٦.

٢) أي بعد أن أثبت له مقام الخلافة للأنبياء عليهم‌السلام ، أمره بالحكم بين الناس.

٣) سورة المائدة : ٤٩.

٥

فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (١) وقال تعالى « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث » (٢) وقال تعالى « فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم » (٣).

وقد ذم الله من دعي إلى الحكم فأعرض عنه ، فقال « وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون » (٤).

ومدح قوما دعوا إليه فأجابوا فقال « انما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا » (٥) وقال تعالى « ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » (٦) وقال تعالى « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون » (٧) وفي موضع آخر « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون » (٨) وفي موضع آخر  « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون » (٩).

وقال الحسن : هي عامة في بني إسرائيل وغيرهم من المسلمين.

وروى البراء بن عازب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ان هذه الآيات الثلاث في الكفار خاصة.

وقال الشعبي : نزل الكافرون في هذه الأمة ، والظالمون في اليهود ، والفاسقون في النصارى.

__________________

١) سورة المائدة : ٤٢.

٢) سورة الأنبياء : ٧٨.

٣) سورة النساء : ٦٥.

٤) سورة النور : ٤٨.

٥) سورة النور : ٥١.

٦) سورة النساء : ٥٨.

٧) سورة المائدة : ٤٧.

٨) سورة المائدة : ٤٥.

٩) سورة المائدة : ٤٤.

٦

والأولى أن يقال هي عامة في من حكم بغير ما أنزل الله ، فإن كان مستحلا لذلك معتقدا أنه هو الحق فإنه يكون كافرا بلا خلاف ، فأما من لم يكن كذلك وهو يحكم بغير ما أنزل الله فإنه يدخل تحت الآيتين الأخريين (١).

(فصل)

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : الحكم [ حكمان ] حكم الله وحكم الجاهلية ، وقال الله عزوجل « ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون » (٢) ، وأشهد على زيد ابن ثابت لقد حكم في الفرائض بحكم الجاهلية (٣). ثم قال : قال النبي صلى الله عليه وآله : من حكم في الدرهمين بحكم جوز ثم أجبر عليه كان من أهل هذه الآية « ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ». قيل : كيف يجبر عليه؟ قال : يكون له سوط وسجن فيحكم عليه ، فان دخل بحكومته والا ضربه (٤) بسوطه وحبسه في سجنه (٥).

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ، ولكن أنظروا إلى رجل منكم يعمل شيئا من قضائنا فاجعلوه بينكم فاني جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (٦).

__________________

١) أنظر الأقوال حول الآيات الثلاث الدر المنثور ٢ / ٢٨٦.

٢) سورة المائدة : ٥٠.

٣) البرهان في تفسير القرآن ١ / ٤٧٨ ، والزيادة منه.

٤) في م « فان رضى بحكومته فان ضربه ». وفى المصدر قريب منه.

٥) وسائل الشيعة ١٨ / ١٨ وهو فيه ليس ذيلا للحديث السابق.

٦) وسائل الشيعة ١٨ / ٤.

٧

(فصل)

وعن أبي بصير قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام ، قول الله في كتابه « ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام » (١). قال : يا أبا بصير ان الله عزوجل قد علم أن في هذه الأمة حكاما يجورون ، أما انه لم يعن حكام العدل ولكنه عنى حكام الجور ، يا أبا محمد انه لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حاكم أهل العدل فأبى عليك الا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له كان ممن حاكم إلى الطاغوت ، وهو قول الله عزوجل « ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما انزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به » (٢) الآية (٣).

وقال : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور ـ الخبر (٤).

وقال : لما ولى أمير المؤمنين عليه‌السلام شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه (٥).

وقال له : قد جلست مجلسا لا يجلسه الا نبي أو وصي نبي أو شقي (٦).

ثم قال : ان عليا عليه‌السلام اشتكى عينه ، فعاده رسول الله صلى الله عليه وآله فإذا علي يصيح ، فقال له النبي : أجزعا أم وجعا يا علي؟ فقال : يا رسول الله ما وجعت وجعا قط أشد منه. قال : يا علي ان ملك الموت إذا نزل ليقبض

__________________

١) سورة البقرة : ١٨٨.

٢) سورة النساء : ٥٩.

٣) تهذيب الأحكام ٦ / ٢١٩.

٤) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٢.

٥) تهذيب الأحكام : ٦ / ٢١٧.

٦) تهذيب الأحكام ٦ / ٢١٧.

٨

روح الفاجر أنزل معه سفودا (١) من نار فينزع روحه به فتضج جهنم. فاستوى علي جالسا فقال : يا رسول الله أعد علي حديثك فقد أنساني وجعي ما قلت ، فهل يصيب ذلك أحد من أمتك؟ قال : نعم حكاما جائرون وآكل مال اليتيم وشاهد الزور (٢).

(باب)

(ما يجب أن يكون القاضي عليه)

قال الله تعالى « ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل » (٣).

أمر تعالى الحكام بين الناس أن يحكموا بالعدل لا بالجور ، ونعم الشئ شيئا الله به من أداء الأمانة.

وروي عن المعلى بن خنيس قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن هذه الآية ، فقال : على الامام أن يدفع ما عنده إلى الامام الذي بعده وأمرت الأئمة بالعدل وأمرت الناس أن يتبعوهم. (٤).

وقال تعالى « واذكر عبدنا داود » إلى قوله « وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب » (٥) أي أعطيناه إصابة الحكم بالحق. وفصل الخطاب هو قوله : البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه.

__________________

١) السفود .. بتشديد الفاء ـ الحديدة التي يشوى بها اللحم ـ صحاح اللغة (سفد).

٢) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٢٤.

٣) سورة النساء : ٥٨.

٤) من لا يحضره الفقيه

٣ / ٣ مع اختلاف يسير.

٥) سورة ص : ١٧ ـ ٢٠.

٩

ثم قال « وهل أتاك نبأ الخصم » هذا خطاب من الله لنبيه عليه‌السلام ، وصورته صورة الاستفهام ومعناه الاخبار بما كان من قصة داود من الحكومة بين الخصمين ، وتنبيهه على موضع تركه بعض ما يستحب له أن يفعله.

والنبأ الخبر بما يعظم حاله ، والخصم هو المدعي على غيره حقا من الحقوق المتنازع له فيه. ويعبر به عن الواحد والاثنين والجمع بلفظ واحد ، لان أصله المصدر. ولذلك قال « إذ تسوروا المحراب » لأنه أراد المدعي والمدعى عليه ومن معهما ، فلا يمكن أن يتعلق به في أن أقل الجمع اثنان لما قال « خصمان بغى بعضنا على بعض » ، لأنه أراد بذلك الفريقين ، أي نحن فريقان خصمان ، أي يقول ما يقول خصمان ، لأنهما كان ملكين ولم يكونا خصمين ولا بغى أحدهما على الاخر ، وانما هو على المثل.

« فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط » معناه ولا تجاوز الحق ولا تجر ولا تسرف في حكمك بالميل مع أحدنا على صاحبه ، وأرشدنا إلى قصد الطريق الذي هو طريق الحق ووسطه.

(فصل)

ثم حكى سبحانه ما قال أحد الخصمين لصاحبه ، فقال « ان هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها » (١) قال وهب : يعنى أخي في ديني ، وقال المفسرون : انه كنى بالنعاج عن تسع وتسعين امرأة كانت له وان الاخر له امرأة واحدة. وقال الحسن : لم يكن له تسع وتسعون نعجة وانما هو على وجه المثل. وقال أبو مسلم : أراد النعاج بأعيانها. وهو الظاهر ، غير أنه خلاف أقوال المفسرين.

__________________

١) سورة ص : ٢٣.

١٠

وقال : هما خصمان من ولد آدم ولم يكونا ملكين ، وانما فزع منهما لأنهما دخلا عليه في غير الوقت المعتاد. وهو الظاهر.

ومعنى « أكفلنيها » قال ابن عباس أنزل لي عنها ، وقال أبو عبيدة ضمها إلي ، وقال آخرون أي اجعلني كفيلا بها ، أي ضامنا لأمرها ، ومنه قوله « وكفلها زكريا » (١).

ثم قال « وعزني في الخطاب » أي غلبني في المخاطبة وقهرني ، وقال أبو عبيدة صار أعز مني.

فقال له داود « لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض » ، ومعناه إن كان الامر على تدعيه لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، فأضاف السؤال إلى المفعول به.

وقال أصحابنا : موضع الخطيئة أنه قال للخصم « لقد ظلمك » من غير أن يسأل خصمه عن دعواه. وفي أدب القضاء أن لا يحكم بشئ ولا يقول حتى يسأل خصمه من دعوى خصمه فما أجاب به حكم بذلك ، وهذا ترك الندب.

والشرط الذي ذكرناه لابد منه ، لأنه لا يجوز أن يخبر النبي عليه‌السلام أن الخصم ظلم صاحبه قبل العلم بذلك على وجه القطع ، وانما يجوز مع تقدير وبالشرط الذي ذكرناه ، فروي أن الملكين غابا من بين يديه فظن داود أن الله تعالى اختبره بهذه الحكومة. ومعنى « الظن » هنا العلم ، كأنه قال وعلم داود.

وقيل انما ظن ظنا قويا ، وهو الظاهر.

و « فتناه » أي بحق أضافه الله إلى نفسه ، أي اختبرناه. وقرئ « فتناه » بالتخفيف ، أي الملكين فتناه بهما.

وقيل : انه كان خطب امرأة كان أوريا بن حنان خطبها ولم يعلم ذلك ، فكان دخل في سومه فاختاروه عليه ، فعاتبه الله على ذلك.

__________________

١) سورة آل عمران : ٣٧.

١١

وأولى الوجوه أنه ترك الندب فيما يتعلق بأدب القضاء.

وقرأ ابن مسعود « ولي نعجة أنثى واحدة » ، ووصفها بأنثى اشعارا بأنها ضعيفة مهينة.

يسأل فيقال في قوله « لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه » كيف يكون السائل ظالما؟

[ الجواب ، انه لم يسأله سؤال خضوع انما غالبه ، فمعنى السؤال ههنا حمل على سؤال مطالبة ، ولو سأله التفضل ما عازه عليها. وقد بينا أن الحكمة في قوله « وآتيناه الحكمة » اسم تقع على العلم والعقل وصواب الرأي وصحة العزم والحزم ] (١).

« وفصل الخطاب » قطع الأمور بين المتخاصمين. والخطاب نزاع في الخطوب ، وهو يفصل ذلك لحكمته.

وقيل : انما كان كناية عن قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لان بذلك يقع الفصل بين الخصوم.

(فصل)

وقوله تعالى « وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان » (٢) فقد قال الجبائي : ان الله أوحى إلى سليمان بما نسخ به حكم داود الذي كان يحكم به قبل ذلك ، ولم يكن ذلك عن اجتهاد.

وهذا هو الصحيح عندنا ، ويقوي ذلك قوله « ففهمناها سليمان » يعني علمنا الحكومة في ذلك ـ التي هي مصلحة الوقت ـ سليمان.

__________________

١) بين المعقوفين مشوش في نسخة م ونقل كما في ج.

٢) سورة الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩.

١٢

وقوله « إذ يحكمان » أي طلبا الحكم في ذلك ولم يبتدئا بعد.

وقصته : أن زرعا أو كرما وقعت فيه الغنم ليلا فأكلته ، فحكم داود بالغنم لصاحب الكرم ، لان الشرع كان ورد لذلك إليه من قبل ولم يثبت الحكم ، فقال سليمان لأبيه : ان الله أوحى إلي الان بغير هذا يا نبي الله. قال : وما ذاك؟ قال : يدلع الكرم إلى صاحب الغنم فيقوم عليه حتى يعود كما كان ويدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا عاد الكرم كما كان دفع كل واحد إلى صاحبه حقه.

ذكره ابن مسعود ، وهو المروي عنهما عليهما‌السلام (١).

فعلى هذا ينبغي أن يكون الحاكم حكيما عالما بالناسخ والمنسوخ ، عارفا بالكتاب والسنة ، عاقلا بصيرا بوجوه الاعراب ، يثق من نفسه ، يتولى القضاء والفصل بين الناس.

(باب)

(كيفية الحكم بين أهل الكتاب)

قد ذكرنا من قبل كثيرا مما يتعلق بهذا الباب ، وههنا نذكر ما يكون تفصيلا لتلك الجملة أو جملة لذلك التفصيل :

اعلم أن الله تعالى خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال « وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله » (٢). التقدير وأنزلنا إليك يا محمد أن احكم بينهم ، وانما كرر الامر بالحكم بينهم لامرين :

__________________

١) وسائل الشيعة ١٩ / ٢٠٨.

٢) سورة المائدة : ٤٨.

١٣

أحدهما : انهما حكمان أمر بهما جميعا ، لان اليهود احتكموا إليه في زنا المحصن ثم احتكموا إليه في قتيل كان منهم ـ ذكره أبو علي ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (١).

الثاني : أن الأمر الأول مطلق والثاني دل على أنه منزل.

قال ابن عباس والحسن : تدل الآية على أن أهل الكتاب إذا ترافعوا إلى الحكام المسلمين يجب أن يحكموا بينهم بحكم القرآن وشريعة الاسلام ، لأنه أمر من الله بالحكم بينهم ، والامر يقتضي الايجاب.

وقال أبو علي : نسخ ذلك التخيير بالحكم بين أهل الكتاب أو الاعراض عنهم والترك ، قال تعالى « فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (٢).

والكتاب في قوله « وأنزلنا الكتاب » المراد به القرآن ، « مصدقا » نصب على الحال ، مصدق ما بين يديه من الكتاب ، يعني التوراة والإنجيل وما فيهما من التوحيد لله وعدله والدلالة على نبوتك والحكم بالرجم والقود وغيرهما.

وفيه دلالة على أن ما حكى الله انه كتبه عليهم في التوراة حكم يلزمنا العمل به ، لأنه جعل القرآن مصدقا لذلك وشاهدا.

وقال مجاهد : « مهيمنا » صفة للنبي عليه‌السلام ، والأول أقوى لأجل حرف العطف ، ولو قال بلا واو لجاز.

و « لا تتبع أهواءهم » عادلا عما جاءك من الحق ، ولا يدل ذلك على أنه عليه‌السلام اتبع أهواءهم ، لأنه مثل قوله تعالى « لئن أشركت ليحبطن عملك » (٣) ولا يدل ذلك على أن الشرك كان وقع منه.

__________________

١) أنظر القصة في تفسير البرهان ١ / ٤٧٢ عن الباقر عليه‌السلام.

٢) سورة المائدة : ٤٢.

٣) سورة الزمر : ٦٥.

١٤

« لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا » قال مجاهد شريعة القرآن لجميع الناس لو آمنوا به ، وقال آخرون انه شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن ، والمعني بقوله « منكم » أمة نبينا وأمم الأنبياء قبله على تغليب المخاطب على الغائب ، فبين تعالى ان لكل أمة شريعة غير شريعة الآخرين لأنها تابعة للمصالح ، فلا يمكن حمل الناس على شريعة واحدة مع اختلاف المصالح ، قال تعالى « ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة » (١).

(فصل)

ثم قال تعالى « أفحكم الجاهلية يبغون » (٢). قال مجاهد : انها كناية عن اليهود ، لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه وإذا وجب على أقويائهم لم يأخذوهم به.

« ومن أحسن من الله حكما » أي فصلا بين الحق والباطل من غير محاباة ، لأنه لا يجوز للحاكم أن يحابى في الحكم ، بأن يعمل على ما يهواه بدلا مما يوجبه العدل ، وقد يكون حكم أحسن من حكم ـ بأن يكون أولى منه وأفضل ـ وكذا لو حكم بحق يوافق هواه أحسن مما يوافقه.

وقال تعالى في وصف اليهود « سماعون للكذب أكالون للسحت فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (٣) أي هؤلاء يقبلون الكذب ويكثر أكلهم السحت ـ وهو الحرام.

فخير الله نبيه عليه‌السلام في الحكم بين اليهود في زنا المحصن وفي قتيل قتل من اليهود.

__________________

١) سورة النحل : ٩٣.

٢) سورة المائدة : ٥٠.

٣) سورة المائدة : ٤٢.

١٥

وفي اختيار الحكام والأئمة الحكم بين أهل الذمة إذا احتكموا إليهم قولان : أحدهما انه حكم ثابت والتخيير حاصل ، ذهب إليه جماعة ، وهو المروي عندهم عن علي عليه‌السلام ، والظاهر في رواياتنا (١). وقال الحسن انه منسوخ بقوله  « وأن احكم بينهم بما أنزل الله » (٢) ، فنسخ الاختيار وأوجب الحكم بينهم بالقسط.

« وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله » (٣) أي الحكم بالرجم والقود.

ثم قال تعالى : « انا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما » (٤). نهى الله نبيه عليه‌السلام أن يكون خصيما لمن كان مسلما أو معاهدا في نفسه أو ماله ، أي لا تخاصم عنه.

والخطاب وان توجه إلى النبي فالمراد به أمته.

(باب نوادر من الاحكام)

قال محمد بن حكيم : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن شئ. فقال لي : كل مجهول ففيه القرعة [ فقلت له : ان القرعة ] (٥) تخطئ وتصيب. فقال : كل ما حكم الله به فليس بمخطئ (٦).

قال تعالى « فساهم فكان من المدحضين » (٧).

__________________

١) انظر وسائل الشيعة ١٨ / ٣٣٨ فما بعد.

٢) سورة المائدة : ٤٩.

٣) سورة المائدة : ٤٣.

٤) سورة النساء : ١٠٥.

٥) الزيادة من المصدر و ج.

٦) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٤٠.

٧) سورة الصافات : ١٤١.

١٦

وعن عبد الله بن الحجاج قال : دخل الحكم بن عيينة (١) وسلمة بن كهيل على أبي جعفر عليه‌السلام فسألاه عن شاهد ويمين. قال : قضى به رسول الله صلى الله عليه وآله وقضى به علي عليه‌السلام عندكم بالكوفة. فقالا : هذا خلاف القرآن.

قال وأين وجدتموه خلاف القرآن؟. فقالا : ان الله تعالى قول « وأشهدوا ذوي عدل منكم » (٢). فقال لهما أبو جعفر عليه‌السلام : فقوله « وأشهدوا ذوي عدل منكم » وهو أن لا تقلبوا شهادة واحد ويمينا. [ قالا : لا ] (٣).

وقال الرضا عليه‌السلام : ان أبا حنيفة قال لجعفر بن محمد عليه‌السلام : كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد ـ وهو يضحك؟ فقال جعفر : أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة. قال : لا نفعل. قال : بلى يشهد مائة لا يعرف فترسلون واحدا يسأل عنهم ثم تجيزون شهادتهم بقوله (٤). ثم قال أبو حنيفة : القتل أشد من الزنا فكيف يجوز في القتل شاهدان والزنا لا يجوز فيه الا أربعة شهود؟ فقال الصادق : لان القتل فعل واحد والزنا فعلان ، فمن ثم لا نجوز الا أربعة شهود على الرجل شاهدان وعلى المرأة شاهدان.

وسئل عليه‌السلام عن البينة إذا أقيمت على الحق [ أيحل للقاضي ] أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم. قال : خمسة أشياء يجب على الناس الاخذ بها بظاهر الحكم الولايات والتناكح والمواريث والذبائح والشهادات ، فإذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته ولا يسأل عن باطنه (٥) ، فقد اختصم

__________________

١) كذا في الأصل. وفى المصدر « عبد الرحمن بن الحجاج » و « بن عتيبة ».

٢) سورة الطلاق : ٢.

٣) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٧٣ والزيادة ليست فيه. وللحديث ذيل يراجع المصدر بشأنه.

٤) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٩٦ مع اختلاف في بعض الألفاظ وليس فيه بقية الحديث.

٥) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٨٨ والزيادة منه.

١٧

رجلان إلى داود عليه‌السلام في بقرة ، فجاء هذا بينة على أنها له وجاء هذا ببينة على أنها له. قال : فدخل داود المحراب فقال : يا رب انه قد أعياني أن أحكم بين هذين فكن أنت الذي تحكم. فأوحى الله إليه : أخرج فخذ البقرة من الذي في يده فادفعها إلى الاخر واضرب عنقه. قال : فضجت بنو إسرائيل [ من ذلك وقالوا جاء هذا بينة وجاء هذا ببينة وكان أحقهما باعطائه الذي في يديه. فأخذها منه وضرب عنقه فأعطاه هذا ] (١) ، فقال داود : يا رب ان بني إسرائيل ضجوا مما حكمت. فأوحى الله إليه : ان الذي كانت البقرة في يده لقي أبا الاخر فقتله وأخذ البقرة منه ، فإذا جاءك مثل هذا فاحكم بينهم بما ترى ولا تسألني أن أحكم حتى يوم الحساب (٢).

(فصل)

وعن داود بن الحصين قال لي أبو عبد الله عليه‌السلام : ما يقول في النكاح فقهاؤكم؟ قلت : يقولون لا يجوز الا بشهادة رجلين عدلين. فقال : كذبوا لعنهم الله هونوا واستخفوا بعزائم الله وفرائضه وشددوا وعظموا ما هون الله ، ان الله أمر في الطلاق بشهادة رجلين عدلين فأجازوا الطلاق بلا شاهد ، والشهادة في النكاح لم يجئ عن الله في عزيمة ، فقد ندب في عقدة النكاح ويستحل الفرج وان لم يشهدوا ، وانما سن رسول الله في ذلك الشاهدين تأديبا ونظرا لئلا ينكر الولد والميراث.

« ولا يأب الشهداء » قبل الشهادة « ومن يكتمها فإنه آثم قلبه » بعد الشهادة (٣)

__________________

١) الزيادة من المصدر.

٢) تهذيب الأحكام ٦ / ٢٨٨ والذيل واصل الحديث هنا جاء في التهذيب في حديثين.

٣) من لا يحضره الفقيه ٣ / ٥٧.

١٨

(باب الزيادات)

ذكر ابن عباس ان أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم [ فكل فرقة زعمت أنهم أولى بدينه ، فقال عليه‌السلام : كلا الفريقين برئ من دين إبراهيم ] (١) ، فغضبوا وقالوا ما نرضى لقضائك ، فأنزل الله « أفغير دين الله يبغون » أي أفبعد هذه الآيات والحجج تطلبون دينا غير دين الله « وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها » (٢).

فالطوع لأهل السماوات خاصة ، وأما أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا ومنهم من استسلم كرها ، أي فرقا (٣) من السيف.

(مسألة)

وقال ابن عباس : ان الله خير نبيه عليه‌السلام بقوله تعالى « فان جاؤوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم » (٤) ، وهذا التخيير ثابت في الشرع للأئمة والحكام.

وقول من قال إنه منسوخ بقوله تعالى « وان احكم بينهم » (٥). لا يصح ، لان المعنى « وان تعرض » عن الحكم بينهم « فلن يضروك شيئا » ، فدع النظر بينهم ان شئت. « وان حكمت » أي وان اخترت أن تحكم بينهم فاحكم بينهم  « بالقسط » بما في القرآن وشريعة الاسلام.

ثم قرع اليهود بقوله « وكيف يحكمونك » ويرضون بك حكما وهم

__________________

١) الزيادة من ج.

٢) سورة آل عمران : ٨٣.

٣) أي خوفا وخشية.

٤) سورة المائدة : ٤٢.

٥) سورة المائدة : ٤٩.

١٩

تركوا الحكم بالتوراة جرأة على الله ، وانما طلبوا بذلك الرخصة ، وما هم بمؤمنين بحكمك انه من عند الله.

(مسألة)

وقوله تعالى « انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون » (١) لا يدل على أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله كان متعبدا بشرع موسى عليه‌السلام ، لان الله هو الذي أوجب ذلك بوحي أنزله عليه لا بالرجوع إلى التوراة ، فصار ذلك شرعا له وان وافق ما في التوراة.

ونبه بذلك اليهود على صحة نبوته ، من حيث أخبر عليه‌السلام عما في التوراة من غوامض العلم ما التبس على كثير منهم ، وقد عرفوا أنه لم يقرأ كتابهم.

وقوله تعالى « للذين هادوا » أي تابوا من الكفر ، وقيل لليهود ، واللام فيه يتعلق بيحكم ، أي يقضي بإقامة التوراة النبيون الذين كانوا من وقت موسى إلى وقت عيسى عليهما‌السلام لهم وفيما بينهم.

__________________

١) سورة المائدة : ٤٤.

٢٠