فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

والثالث ـ هو المتشابه ، وهو ما يشترك لفظه بين معنيين وأكثر ، وكل واحد منهما يجوز أن يكون مرادا ، فحكمه أن يحمل على جميع محتملاته في اللغة ، الا أن يمنع دليل من حمله على وجه منها ، ولا نقطع على مراد الله فيه الا بنص من رسوله.

وأفعال عمرة الاسلام الواجبة ثمانية : النية ، والاحرام ، والتلبية ، والطواف والسعي ، وطواف النساء ، وركعتا طواف له (١). هذا إذا كانت العمرة غير التي يتمتع بها إلى الحج ، فان كانت مما يتمتع بها فليس فيها طواف النساء ولا ركعتاه ويجب بعد السعي فيه التقصير.

( فصل )

واعلم أن عندنا وعند الشافعي العمرة واجبة كوجوب حجة الاسلام ، لان الله قال ( وأتموا الحج والعمرة لله ) ، فكأنه قال : وأتموا الحج وأتموا العمرة.

واختلفوا في معنى اتمامها ، فقال مجاهد والمبرد والجبائي انه يجب اجراء أعمالهما بعد الدخول فيهما ، وقال ابن جبير وعطاء والسدي ان معناه إقامتهما إلى آخر ما فيهما لأنهما واجبان ، وقال طاوس اتمامهما افرادهما.

وقال أهل الكوفة : العمرة مسنونة. فمن قال إنها غير واجبة قال لان الله أمر باتمام الحج ، واتمام الحج وجوب اتمامه لا يدل على أنه واجب قبل ذلك ، كما أن الحج المتطوع به يجب اتمامه وان لم يجب أولا الدخول فيه. قالوا : وانما علمنا وجوب الحج بقوله ( ولله على الناس حج البيت ) الآية.

واجماع الفرقة المحقة على أن عمرة الاسلام واجبة كحجة الاسلام ، وقد

__________________

(١) المذكور هنا من الافعال سبعة أشياء ، وفى التبصرة ص ٧٧ : وأفعالها : النية ، والاحرام ، والطواف ، وركعتاه ، والسعي ، وطواف النساء ، وركعتاه ، والتقصير أو الحلق.

٣٢١

بينا أن معنى ( أتموا الحج والعمرة ) أقيموهما ، وهو الذي رووه عن علي وزين العابدين عليهما‌السلام ، وبه قال مسروق والسدي.

وللمفسرين في التمتع أقوال :

روى أنس بن مالك ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أهل بالعمرة وحجه وسماه قارنا ، وانكره ابن عمر.

والثاني روي عن أبن عباس وابن عمر وابن المسيب وعطاء والجبائي هو أن يعتمر في أشهر الحج ثم يدخل مكة فيطوف ويسعى ويقصر ثم يقيم حلالا إلى يوم التروية فيهل فيه بالحج من مكة ثم يحج. وهذا كما قلناه سواء. وقال البلخي هذا الضرب كرهه عمر (١) ونهى عنه.

والثالث هو الناسخ للحج بالعمرة ، روى جابر وأبو سعيد الخدري أن النبي عليه‌السلام أمرهم ـ وقد أهلوا بالحج ـ لا ينوون غيره ان يعتمروا وينقلوا نياتهم إلى العمرة التي يتمتع بها إلى الحج ثم يحلوا إلى وقت الحج. وهذا عندنا جائز أن يفعل.

وقوله تعالى : ( واذان من الله رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر ) (٢) قال جماعة هو الحج الذي فيه الوقوف بعرفة المشعر والنسك بمنى ، والحج الأصغر العمرة.

وعن الصادق عليه‌السلام : ان يوم الحج الأكبر انه يوم النحر. قال : وسمي الحج الأكبر لأنه حج فيه المشركون والمسلمون ولم يحج بعدها مشرك (٣). وروى ذلك عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن علي عليه‌السلام أيضا.

__________________

(١) في م ( عثمان ).

(٢) سورة التوبة : ٣.

(٣) تفسير البرهان ٢ / ١٠٢ وهو مأخوذ من حديثين وردا في ذلك.

٣٢٢

وقال الحسن : هو ثلاثة أيام اجتمعت فيها أعياد المسلمين وأعياد اليهود والنصارى.

( باب الزيادات )

سأل عبد الله بن سنان الصادق عليه‌السلام عن قوله تعالى ( ومن دخله كان آمنا ) البيت أو الحرم؟ قال : من دخل الحرم مستجيرا به فهو آمن [ ومن دخل البيت من المؤمنين مستجيرا به فهو آمن ] من سخط الله ، وما دخل من الوحش والطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم (١) ، ومن ألحد في الحرم أخذ به في الحرم لأنه لم ير للحرم حرمة.

( مسألة )

ومن أدخل مكة أو الحرم من الصيد طيرا يجب عليه أن يخلى سبيله ، لان الله يقول ( ومن دخله كان آمنا ) أي أمنوه. هذا إذا كان الطير مالكا لجناحه ، فإن كان مقصوص الجناح يراعيه حتى يصح ثم يخليه ولا يخرجه من الحرم.

( مسألة )

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام في قوله تعالى ( ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) (٢) قال : كل ظلم يظلمه الرجل نفسه بمكة من سرقة أو ظلم أحد أو شئ من الظلم فانى أراه الحادا (٣).

__________________

(١) تفسير البرهان ١ / ٣٠١ مع بعض الاختلاف في الألفاظ والزيادة منه.

(٢) سورة الحج.

(٣) تفسير البرهان ٣ / ٨٤ وفى ذيل الرواية : ولذلك كان يتقى أن يسكن الحرم.

٣٢٣

ولذلك كان يتقى الفقهاء أن يسكنوا مكة.

( مسألة )

وروى محمد بن مسلم والحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنه قال : ان الله تعالى اشترط على الناس شرطا وشرط لهم شرطا ، فمن وفى لله وفى الله له ، فقال ( الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (١) ، وأما ما شرط لهم فقال ( فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ) (٢) قال : يرجع ولا ذنب له. فقالا له : أرأيت من ابتلى بالفسوق ما عليه؟ قال : لم يجعل الله له حدا ، يستغفر الله ويلبى. فقالا : فمن ابتلي بالجدال ما عليه؟ فقال : إذا جادل فوق مرتين فعلى المصيب دم يهرقه وعلى المخطئ بقرة (٣).

( مسألة )

قد قدمنا أن الجدال الذي منع المحرم منه بقوله ( ولا جدال في الحج ) هو الجدال صادقا أو كاذبا.

فان قيل : ليس في لغة العرب أن الجدال هو الحلف.

قلنا : لا ينكر أن يقتضى عرف الشرع ما ليس في اللغة. على أن الجدال إذا كان الخصومة والمراء والمنازعة ، وهذه أمور تستعمل للدفع والمنع ، والقسم بالله قد يفعل كذلك ، ففيه معنى المنازعة والخصومة.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

(٢) سورة البقرة : ٢٠٣.

(٣) تفسير البرهان ١ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ ، والحديث مذكور عن كل واحد من الحلبي ومحمد ابن مسلم على حدة.

٣٢٤

( مسألة )

وقوله تعالى ( لا أقسم بهذا البلد * وأنت حل بهذا البلد ) (١) خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أي حلال لك قتل من رأيت حين أمر بالقتال ، فقتل ابن خطل صبرا وهو آخذ بأستار الكعبة ولم يحل لاحد بعده (٢). وقال عطاء لم يحل الا لنبيكم ساعة من النهار ، وقال الحسن أي أقسم بمكة وأنت حال بها نازل فيها فشرفها بك.

( مسألة )

وقوله تعالى ( ففروا إلى الله ) (٣) أي حجوا إلى بيت الله.

وسئل الصادق عليه‌السلام عن قوله ( فأصدق واكن من الصالحين ) (٤) قال : فأصدق من الصدقة ، واكن من الصالحين أي أحج (٥).

وقال عليه‌السلام : من قرأ سورة الحج في كل ثلاثة أيام لم تخرج سنته حتى يخرج إلى بيت الله الحرام (٦) ، ومن قرأ ( عم يتساءلون ) لم تخرج سنته إذا كان يدمنها في كل يوم حتى يزور بيت الله الحرام.

وقال : اتق المفاخرة وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله ، فان الله يقول

__________________

(١) سورة البلد : ١ ـ ٢.

(٢) انظر الدر المنثور : ٦ / ٣٥١.

(٣) سورة الذاريات : ٥٠.

(٤) سورة المنافقين : ١٠.

(٥) تفسير البرهان ٤ / ٣٣٩.

(٦) تفسير البرهان ٣ / ٧٦.

٣٢٥

( ثم ليقضوا تفثهم ) ، ومن التفث أن تتكلم في احرامك بكلام قبيح ، فإذا دخلت مكة فطفت بالبيت تكلمت بكلام طيب فكان ذلك كفارة لذلك (١).

( مسألة )

وروى محمد بن الفضيل : سألت أبا الحسن عليه‌السلام عن قوله تعالى ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا ) (٢) فقال : نزلت فيمن سوف الحج حجة الاسلام وعنده ما يحج به يقول العام أحج حتى يموت قبل أن يحج (٣).

وقال معاوية بن عمار : سألت الصادق عليه‌السلام عن رجل لم يحج قط وله مال. فقال : هو ممن قال الله ( ونحشره يوم القيامة أعمى ) (٤) فقلت : سبحان الله أعمى؟ فقال : أعماه الله عن طريق الخير (٥).

( مسألة )

جاء رجل إلى علي بن الحسين عليه‌السلام فقال : قد آثرت الحج على الجهاد وقد قال الله ( ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة ) (٦) فقال عليه‌السلام : فاقرأ ما بعدها فقال ( التائبون العابدون الحامدون ) إلى آخرها.

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ / ٨٧.

(٢) سورة الإسراء : ٧٢.

(٣) تفسير البرهان ٢ / ٤٣٣.

(٤) سورة طه : ١٢٤.

(٥) تفسير البرهان ٣ / ٤٨ وفيه ( عن طريق الحق ).

(٦) سورة التوبة : ١١١.

٣٢٦

فقال : إذا رأيت هؤلاء فالجهاد معهم يومئذ أفضل من الحج (١).

( مسألة )

كتب علي عليه‌السلام إلى قثم بن عباس عامله على مكة : أقم للناس الحج واجلس لهم العصرين فأفت المستفتي وعلم الجاهل وذاكر العالم. ومر أهل مكة أن لا يأخذوا من ساكن أجرا ، فان الله سبحانه يقول ( سواء العاكف فيه والباد ) العاكف المقيم به والبادي الذي يحج إليه من غير أهله (٢).

( مسألة )

روي عن داود الرقي : ان بعض الخوارج سألني عن هذه الآية من كتاب الله ( ثمانية أزواج من الضأن اثنين ومن المعز اثنين ) إلى قوله ( ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين ) (٣) ما الذي أحل الله تعالى من ذلك وما الذي حرم؟ فلم يكن عندي فيه شئ ، فدخلت على أبي عبد الله عليه‌السلام وأنا حاج فأخبرته بما كان فقال : ان الله تعالى أحل في الأضحية بمنى الضأن والمعز الأهلية وحرم أن يضحى فيه بالجبلية وأما قوله ( ومن الإبل اثنين رمن البقر اثنين ) فان الله أحل في الأضحية بمنى من الإبل العراب وحرم منها البخاتي ، وأحل من البقر الأهلية أن يضحى فيها وحرم الجبلية. فانصرفت إلى الرجل الخارجي الذي سألني عن تلك الآية فأخبرته بهذا الجواب فقال : هذا شئ حملته الإبل من الحجاز (٤).

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ / ١٦٣.

(٢) نهج البلاغة ٣ / ١٤٠ ، وما هنا مختصر من كتابه عليه‌السلام للقثم.

(٣) سورة الأنعام : ١٤٣.

(٤) تفسير البرهان ١ / ٥٥٨ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

٣٢٧

كتاب الجهاد

اعلم أن الجهاد والمجاهدة كلاهما استفراغ الوسع في مدافعة العدو.

والشرع خصص لفظ الجهاد بالمقاتلة في سبيل الله لاعلاء كلمة الله واعزاز الدين واذلال المشركين ، وبقي لفظة المجاهدة على عمومها.

( باب فرض الجهاد ومن يجب عليه )

قال الله تعالى ( كتب عليكم القتال وهو كره لكم ) (١) أي فرض عليكم قتال المشركين ، والمقاتلة مشقة لكم والقتال يشق عليكم. والألف واللام بدل من الإضافة ، والكره والكره لغتان (٢) ، وقيل بالفتح المشقة وبالضم أن يتكلف الشئ فيفعله كارها.

والآية تدل على وجوب الجهاد وفرضه ، وبه قال أكثر المفسرين ، غير أنه فرض على الكفاية ، وعن عطاء ان ذلك كان على الصحابة ، والصحيح الأول لحصول

__________________

(١) سورة البقرة : ١٦.

(٢) بفتح الكاف وضمه.

٣٢٨

الاجماع عليه اليوم وقد انقرض خلاف عطاء.

ثم قال ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ).

فان قيل : كيف كره المؤمنون الجهاد وهو طاعة الله.

قيل عنه جوابان : أحدهما انهم يكرهونه كراهية طباع ، الثاني انه كره لكم قبل أن يكتب عليكم. وعلى الوجه الأول تكون لفظة الكراهة مجازا ، وعلى الثاني حقيقة.

ومما يدل على وجوب الجهاد أيضا قوله سبحانه ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) (١) عن ابن عباس أي جاهدوا المشركين وجاهدوا أنفسكم ، وهو على العموم ، والخطاب متوجه إلى جميع المؤمنين لقوله قبل هذه الآية ( يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ) فجاهدوا أمر بالغزو ، ومجاهدة النفس فيه وفي كل طاعة ، وجهاد النفس هو الجهاد الأكبر.

وقوله ( وفي الله ) أي في ذات الله ومن أجله تعالى.

فان قيل : ما وجه إضافة قوله ( حق جهاده ) فالقياس حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه.

قلنا : الإضافة تكون بأدنى ملابسة وأقل اختصاص ، فلما كان الجهاد مختصا بالله من حيث إنه مفعول لوجهه ومن أجله صحت الإضافة إليه. ويجوز أن يتبع في الظرف ، وكذلك خاطب المؤمنين فقال ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) (٢) أمرهم بالجهاد وبقتال المقاتلين دون النساء.

وقيل : الآية منسوخة بقوله ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (٣) وبقوله

__________________

(١) سورة الحج : ٨٧.

(٢) سورة البقرة. ١٩٠.

(٣) سورة التوبة : ٥.

٣٢٩

( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (١) لأنه أوجب علينا في هذه الآية قتال المشركين وان لم يقاتلونا و ( الذين يقاتلونكم ) الذين يناجزونكم بالقتال دون المحاجزين ، وعلى هذا يكون منسوخا بقوله ( وقاتلوا المشركين كافة ) (٢).

وعن الربيع بن أنيس : هي أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقاتل من قاتل ويكف عمن كف.

وقيل : هم الذين يناصبونكم القتال دون من ليس من أهل المناصبة من الشيوخ والصبيان والرهبان والنساء أو الكفرة كلهم ، لأنهم جميعا مضادون للمسلمين قاصدون لمقاتلتهم ، فهم في حكم المقاتلة قاتلوا أو لم يقاتلوا.

وقال ابن عباس ومجاهد وعمر بن عبد العزيز : الآية غير منسوخة. وهو الأقوى ، لأنه لا دليل على كونها منسوخة. ووجه الآية انه أمر بقتال المقاتلة دون النساء.

وقيل : ان قوله ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) أمر بقتال أهل مكة لان المشركين لما صدوا رسول الله عليه‌السلام عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قاتل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فراجع ، فخاف المسلمون أن لا تفئ لهم قريش بل يقاتلونهم في الشهر الحرام وكرهوا ذلك ، فنزلت.

والأولى حمل الآية على عمومها الا ما أخرجه الدليل ، فالجهاد ركن من أركان الاسلام ، إذا قام به من في قيامه غناء عن الباقين سقط عن الباقين ، فمنى لم يقم به أحد لحق الذم بجميعهم.

ومن شرط وجوبه ظهور الإمام العادل ، إذ لا يسوغ الجهاد الا باذنه ، يدل عليه قوله ( ولا تعتدوا ) أي لا تعتدوا [ بقتال من لم تؤمروا بقتاله ولا تعتدوا ] (٣) بالقتال

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٣.

(٢) سورة التوبة : ٣٦.

(٣) الزيادة من ج.

٣٣٠

على غير الدين ولا تعتدوا إلى النساء والصبيان ومن قد أعطيتموه الأمان. والعموم يتناول الأقوال الثلاثة.

( فصل )

فان قيل : إذا كان قتال من لم يقاتلهم اعتداءا فكيف جاز أن يؤمروا به فيما بعد.

قلنا : انما كان اعتداءا من أجل أنه مجاوزة لما حده الله لهم مما فيه الصلاح للعباد في ذلك الوقت ، ولم يكن فيما بعد على ذلك ، فجاز الامر به. فأطلق لهم في الآية الأولى قتال الذين يقاتلونهم منهم في الحرم أو في الشهر الحرام ورفع عنهم الجناح في ذلك ، ثم قال ( ولا تعتدوا ) بابتداء القتال أو بقتال من نهيتم عن قتاله من النساء والصبيان والذين بينكم وبينهم عهد أو بالمثلة أو بالمفاجأة من غير دعوة ، فإنما يجب القتال عند شروط ، وهي أن يكون بأمر الإمام العادل.

ولا يجوز قتال أحد من الكفار الا بعد دعائهم إلى الاسلام والى شرائعه ، فإذا لم يدعوا لم يجز قتالهم. ولا يجوز قتال النساء ، فان عاون أزواجهن وقاتلن المسلمين أمسك عنهن ، فان اضطروا إلى قتلهن جاز حينئذ.

وقوله تعالى ( وفي سبيل الله ) يعنى في دين الله ، وهو الطريق الذي بينه للعباد ليسلكوه على ما أمرهم به ودعاهم إليه. والاعتداء : مجاوزة الحد والحق.

( فصل )

قوله تعالى ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (١).

يمكن أن يستدل به على أنه إذا دهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف منه وجب حينئذ جهادهم وان لم يكن ثم امام عادل ، ويقصد المجاهد به الدفاع عن

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٤.

٣٣١

نفسه وعن الاسلام وأهله ولا يجاهدهم ليدخلهم في الاسلام مع الامام الجائر.

ويؤكد ذلك قوله ( وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ) (١) أي لا عذر لكم ألا تقاتلوا في سبيل الله وعن المستضعفين ، أي تصرف الأذى عنهم ، أي مالكم لا تسعون في خلاصهم.

وقوله ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه ) يدل على جواز المقاتلة مع النساء عند الاضطرار إلى ذلك.

فان قيل : كيف قال ( مثل ما اعتدى عليكم ) والأول جور والثاني عدل.

قلنا : لأنه مثله في الجنس وفي مقدار الاستحقاق ، لأنه ضرر كما أنه ضرر وهو على مقدار ما يوجبه الحق كل في جرم.

فان قيل : كيف جاز قوله ( ان الله لا يحب المعتدين ) مع قوله ( فاعتدوا عليه ).

قلنا : الثاني ليس باعتداء في الحقيقة ، وانما هو على سبيل المزاوجة ، ومعناه المجازاة على ما قلناه. والمعتدى مطلقا لا يكون الا ظالما فاعلا لضرر قبيح ، وإذا كان محاربا فإنما يفعل ضررا مستحقا حسنا.

( باب ذكر المرابطة )

قال الله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا ) (٢) اعلم أن المرابطة نوع من الجهاد ، وهي أن يحبس الرجل خيله في سبيل الله ليركبها المجاهدون وأن يعينهم على الجهاد بسائر أنواع الإعانة. وفيها ثواب عظيم إذا كان هناك امام عادل.

__________________

(١) سورة النساء : ٧٥.

(٢) سورة آل عمران ٢٠٠.

٣٣٢

ولا يرابط اليوم الا على سبيل الدفاع عن الاسلام والنفس ، وهي مستحبة بهذا الشرط.

وحدها ثلاثة أيام إلى أربعين يوما ، فان زاد كان جهادا.

والرباط ارتباط الخيل للعدو ، والربط الشد ، ثم استعمل في كل مقيم في ثغر يدفع عمن وراءه من أرادهم بسوء.

وينبغي أن يحمل قوله تعالى ( وربطوا ) على المرابطة ، لأنه العرف وهو الطارئ على أصل وضع اللغة ، ويحمل على انتظار الصلوات ، لما روي عن علي عليه‌السلام في الآية ، أي رابطوا الصلوات واحدة بعد واحدة (١) ، أي انتظروها ، لان المرابطة لم تكن حينئذ ، والمعنى اصبروا على تكاليف الدين في الطاعات وعن المعاصي.

( وصابروا ) أعداء الله في الجهاد ، أي غالبوهم في الصبر على شدائد الحرب لا تكونوا أقل صبرا منهم وثباتا.

و ( رابطوا ) أي أقيموا في الثغور رابطين خيلكم فيها مترصدين مستعدين للغزو.

وقال تعالى ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) (٢) فقوله ( من قوة ) أي من كل ما تتقوى به في الحرب من عددها.

وعن عقبة بن عامر : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول على المنبر : ألا ان القوة الرمي ـ قالها ثلاثا (٣). ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله.

والرباط اسم للخيل التي ترتبط في سبيل الله ، تسمى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة ، أو يكون جمع ربيط كفصيل وفصال. ويجوز أن يكون من ( رباط

__________________

(١) تفسير البرهان ١ / ٣٣٥ بهذا المعنى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) سورة الأنفال : ٦٠.

(٣) الدر المنثور ٣ / ١٩٢.

٣٣٣

الخيل ) تخصيصا للخيل من بين ما يتقوى به ، كقوله جبرئيل وميكائيل.

والضمير في ( به ) راجع إلى ما استطعتم ، ترهبون بذلك عدو الله ، وهم أهل مكة ، و ( آخرين من دونهم ) اليهود ، وقيل المنافقون ، أو أهل فارس ، أو كفرة الجن. وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن.

وقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم ) (١) قال أبو جعفر عليه‌السلام أي خذوا سلاحكم (٢). فسمي السلاح حذرا لان به يقى الحذر ، وقيل أي احذروا عدوكم بأخذ السلاح ، كما يقال للانسان خذ حذرك أي احذر ، ويقال أخذ حذره أي تيقظ واحترز عن المخوف ، والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم.

وظاهر الآيات وعمومها يدل على أن من ربط اليوم فرسا في بيته ، وأعد الأسلحة للدفع عن الاسلام وأهله يكون بمنزلة المرابط.

( باب حكم من ليس له نهضة إلى الجهاد )

قال الله تعالى ( لا يستوي القاعدون من المؤمنين ) (٣) لما نزلت جاء عمرو بن أم مكتوم ـ وكان أعمى ـ فقال : يا رسول الله كيف وأنا أعمى ، فما برح حتى نزل قوله ( غير أولى الضرر ) (٤) أي الا أهل الضرر منهم بذهاب أبصارهم وغير ذلك من العل التي لا سبيل لأهلها من الجهاد للضرار الذي بهم.

ويجوز أن يساوي أهل الضرر المجاهدين ، بأن يفعلوا طاعات أخر تقوم

__________________

(١) سورة النساء : ٧١.

(٢) تفسير البرهان ١ / ٣٩٣.

(٣) سورة النساء : ٩٥.

(٤) أسباب النزول للواحدي ص ١١٧.

٣٣٤

مقام الجهاد فيكون ثوابهم عليه مثل ثواب الجهاد. وليس كذلك من ليس بأولي الضرر ، لأنه قعد عن الجهاد بلا عذر. وظاهر الآية يمنع من مساواته على وجه.

فان قيل : كيف قال في أول الآية [ فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة ) (١) ثم قال في آخرها ] (٢) ( فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما * درجات منه ) [ وهذا ظاهر التناقض.

قلنا إن أول الآية فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر درجة وفى آخرها فضلهم على القاعدين غير أولي الضرر درجات ] (٢) ولا تناقض في ذلك ، لان قوله ( وكلا وعد الله الحسنى ) يدل على أن القاعدين لم يكونوا عاصين وان كانوا تاركين للفضل.

وقال المغربي : انما كرر لفظ ( التفضيل ) لان الأولى أراد تفضيلهم في الدنيا على القاعدين والثاني أراد تفضيلهم في الآخرة بدرجات النعيم.

وقوله تعالى ( وأنفقوا في سبيل الله ) (٣) من كان له مال ولا يمكنه القيام إلى الحرب يجب عليه إقامة غيره مقامه فيما يحتاج إليه وينفق عليه ويعين المحاربين بالسلاح والمركوب والنفقة ، فعموم الآية يتناول جميع ذلك.

وقوله تعالى ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ) أي لا تتقحموا الحرب من غير نكاية للعدو ولا قدرة على دفاعهم ، فمن وجب عليه الجهاد فإنما يجب عند شروط سبعة ، وهي : الذكورة ، والبلوغ ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة ، وأن لا يكون شيخا لا حراك به ، ويكون هناك امام عادل أو من نصبه الامام للجهاد. والآية تدل بظاهرها على أكثر ذلك ، فإذا اختل واحد من هذه الشروط سقط فرض الجهاد والتهلكة كل ما كان عاقبته إلى الهلاك.

__________________

(١) سورة النساء : ٩٥.

(٢) الزيادتان من ج.

(٣) سورة البقرة : ١٩٥.

٣٣٥

وقال الصادق عليه‌السلام : لو أن رجلا أنفق ما في يده في سبيل الله ما كان أحسن ولا وفق لقوله ( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا ان الله يحب المحسنين ) أي المقتصدين (١). وتقديره ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة ، كما يقال أهلك فلان نفسه : إذا تسبب لهلاكها.

والمعنى النهي عن ترك الانفاق في سبيل الله لأنه سبب الهلاك ، أو عن الاسراف في النفقة ، أو الاستقلال والاخطار بالنفس ، أو عن ترك الغزو الذي هو تقوية للعدو. وقيل الياء مزيدة ، والمعنى لا تقبضوا التهلكة أيديكم ، أي لا تجعلوها آخذة بأيديكم.

( باب حكم القتال في الشهر الحرام )

قال الله تعالى ( والفتنة أشد من القتل ) نزلت في سبب رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام ، فعابوا المؤمنين بذلك ، فبين الله أن الفتنة في الدين أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام وإن كان محظورا (٢).

ثم قال ( الشهر الحرام بالشهر الحرام ) قال حسن : ان مشركي العرب قالوا للنبي عليه‌السلام : أنهيت عن قتالنا في الشهر الحرام؟ قال : نعم. فأراد المشركون أن يغتروه في الشهر الحرام فيقاتلوه ، فأنزل الله الآية.

فلهذا لا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان الا الأشهر الحرم ، فان من يرى منهم لها حرمة لا يبتدئون فيها بالقتال ، فان بدأوهم بالقتال جاز حينئذ قتالهم.

ويجوز قتال من لا يرى للأشهر الحرم حرمة على كل حال.

( والحرمات قصاص ) أي ان استحلوا منكم في الشهر الحرام شيئا فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ / ١٩٢ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) أسباب النزول للواحدي ص ٤١.

٣٣٦

قال ابن عباس : كان أهل مكة اجتهدوا أن يفتنوا قوما من المؤمنين عن دينهم والأذى لهم وكانوا مستضعفين في أيديهم ، فقال تعالى ( مالكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين ) أي مالكم لا تسعون في خلاصهم.

ومعنى قوله ( الشهر الحرام بالشهر الحرام ) أي هتكه بهتكه ، يعنى كما هتكوا حرمته عليكم فأنتم تهتكون حرمته عليهم.

( والحرمات قصاص ) أي وكل حرمة يجرى فيها القصاص ، ثم أكد ذلك بقوله ( فمن اعتدى عليكم ) أي فلا تعتدوا إلى ما لا يحل لكم. وانما جمع الحرمات لاحد أمرين : أحدهما أن يريد حرمة الشهر وحرمة البلد وحرمة الاحرام ، الثاني ان كل حرمة تستحل فلا يجوز الا على وجه المجازاة.

وروي عن الأئمة عليهم‌السلام : ان قوله ( وقاتلوا في سبيل الله ) (١) ناسخ لقوله ( كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة ) (٢) وكذا قوله ( واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) (٣) ناسخ لقوله ( ولا تطع الكافرين والمنافقين ) (٤).

وقيل : ( قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) ناسخة للآية الأولى التي تضمنت النهي عن القتال عند المسجد الحرام حتى يبدأوا بالقتال ، لأنه أوجب قتالهم على كل حال حتى يدخلوا في الاسلام.

( حيث ثقفتموهم ) أي حيث وجدتموهم في حل أو حرم.

وقوله تعالى ( من حيث أخرجوكم ) أي من مكة ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وآله لمن لم يسلم منهم يوم الفتح.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩١.

(٢) سورة النساء : ٧٧.

(٣) سورة البقرة : ١٩١.

(٤) سورة الأحزاب : ٤٨.

٣٣٧

( فصل )

وقوله تعالى ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ) كان بعث رسول الله عبد الله بن جحش على سرية في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين ، ليترصد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد الله الحضرمي وثلاثة معه ، فقتلوه واستأسروا اثنين واستاقوا العير وفيها من تجارة الطائف ، وكان ذلك أول يوم من رجب وهم يظنونه من جمادى الآخرة ، فقالت قريش قد استحل محمد الشهر الحرام ، وعظم ذلك على أصحاب السرية وقالوا ما نبرح حتى تنزل توبتنا ، وظن قوم منهم أنهم ان سلموا من الاثم فليس لهم أجر ، فأنزل الله فيهم ( ان الدين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ) (١) وسبيل الله قتال العدو (٢). ويقال ( جاهدت العدو ) إذا حملت نفسك على المشقة في قتاله.

وقال قتادة : القتال في الشهر الحرام منسوخ بقوله ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) (٣) وبقوله ( فاقتلوا المشركين ) (٤). وقال عطاء هو باق على التحريم.

وروى أصحابنا أنه باق على التحريم فيمن يرى لهذه الأشهر حرمة ، وأما من لا يرى لها حرمة فإنه يجوز قتاله أي وقت كان ، أما في الحرم فلا يبتدأ بقتال أحد من الكفار كائنا من كان.

والمعنى يسألك الكفار والمؤمنون عن القتال في الشهر الحرام ، قل قتال فيه اثم كبير ، وما فعل قريش من صدهم عن سبيل الله وعن المسجد الحرام وكفرهم

__________________

(١) سورة البقرة : ٢١٨.

(٢) أسباب النزول للواحدي ص ٤٢.

(٣) سورة البقرة : ١٩٣.

(٤) سورة التوبة : ٥.

٣٣٨

بالله واخراج أهل المسجد الحرام ـ وهم رسول الله والمؤمنون ـ أكبر عند الله مما فعلته السرية في القتال في الشهر الحرام على سبيل الخطأ والبناء على الظن.

قال الحسن : السائلون هم أهل الشرك على جهة العيب للمسلمين باستحلالهم القتال في الشهر الحرام. وهذا قول أكثر المفسرين. وقال البلخي : هم أهل الاسلام سألوا عن ذلك ليعلموا كيف الحكم فيه.

والفتنة : الاخراج أو الشرك.

( باب في الآيات التي تحض على القتال )

قال الله تعالى ( ولا تهنوا في ابتغاء القوم ان تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون ) (١) الآية.

نزلت في أهل أحد لما أصاب المسلمين ما أصابهم ونام المسلمون وبهم الكلوم فنزلت ( ان يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله ) (٢) لان الله أمرهم على ما بهم من الجراح أن يتتبعوا المشركين ، وأراد بذلك ارهاب المشركين ، فخرج المسلمون إلى بعض الطريق وبلغ المشركين ذلك فأسرعوا حتى دخلوا مكة (٣). وقال سبحانه ( ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ) (٤).

وفى تناول هذا الوعيد لكل فار من الزحف خلاف : قال الحسن انما كان ذلك يوم بدر خاصة ، وقال ابن عباس هو عام ، وهو قول الباقر والصادق عليهما السلام.

__________________

(١) سورة النساء : ١٠٤.

(٢) سورة آل عمران : ١٤٠.

(٣) سورة البرهان ١ / ٣١٧.

(٤) سورة الأنفال : ١٦.

٣٣٩

أخبر ان من ولى دبره على غير وجه التحرف للقتال والتحيز إلى الفئة انه رجع بسخطه تعالى ، وتقديره الا رجلا متحرفا يتحرف ليقاتل أو يكون منفردا فينحاز ليكون مع المقاتلة ، ولا يجوز ان يفر واحد من واحد ولا من اثنين ، فان فر منهما كان مأثوما ، ومن فر من أكثر من اثنين لم يكن عليه شئ.

واما قوله تعالى ( ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الاعراب ان يتخلفوا عن رسول الله ) (١) فان الله لما قص في هذه السورة قصة الذين تأخروا عن رسول الله عليه‌السلام والخروج معه إلى تبوك ، ذكر عقيب ذلك أن ليس لهم ان يتأخروا عن رسول الله ، وهذه فريضة ألزمها الله إياها.

قال قتادة : حكم هذه الآية مختص بالنبي عليه‌السلام ، كان إذا غزا لم يكن لاحد ان يتأخر عنه ، فأما من بعده من الخلفاء فذلك جائز. وقال الأوزاعي وابن المبارك وجماعة : ان هذه الآية لأول الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله. وقال ابن زيد : هذا حين كان المسلمون قليلون ، فلما كثر نسخ بقوله تعالى ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ) (٢). وهذا هو الأقوى.

لأنه لا خلاف أن الجهاد فرض على الكفاية ، فلو لزم كل أحد النفر لصار من فروض الأعيان ، أما من استنهضه الامام فيجب عليه النهوض ولا يجوز له التأخر.

( فصل )

وقد أدب الله بتأديب الحرب وعلم بها ، فقال ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون * وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا ) (٣).

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢٠.

(٢) سورة التوبة : ١٢٢.

(٣) سورة الأنفال : ٤٥ ـ ٤٦.

٣٤٠