فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

قال أبو جعفر عليه‌السلام : هذه الآية نزلت حين أشار حباب بن المنذر على النبي عليه‌السلام ان ينتقل من جانب مكة حتى ينزل على القليب ويجعلها خلفه ، فقال بعضهم لا تنقض مصافك يا رسول الله ، فتنازعوا فنزلت الآية وعمل على قول حباب (١).

وقوله تعالى ( فانفروا ثبات أو انفروا جميعا ) (٢) اي إذا نفرتم فانفروا اما ثبات أي جماعات متفرقة سرية بعد سرية واما جميعا مجتمعين كوكبة واحدة ولا تتخاذلوا وقيل في ثبات أي فرقة بعد فرقة أو فرقة في جهة وفرقة في جهة. وقال الباقر عليه السلام الثبات السرايا والجمع العساكر.

ثم قال ( فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ) (٣) حثا على الجهاد ولا تلتفتوا إلى تثبيط المنافقين ، وقاتلوا في سبيل الله بائعين الدنيا بالآخرة ، ومن يقاتل جوابه فسوف نؤتيه.

وانما قال ( أو يغلب ) ان الوعد على القتال حتى ينتهي إلى تلك الحال.

( باب )

( أصناف الكفار الذين يجب جهادهم وحكم الأسارى )

قال الله تعالى ( وقاتلوا المشركين كافة ) (٤).

وقال ( يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ) (٥).

أمر الله نبيه عليه‌السلام ان يجاهدهم ، والجهاد هو ممارسة الامر الشاق ،

__________________

(١) مجمع البيان ٤ / ٥٤٩.

(٢) سورة النساء : ٧١.

(٣) سورة النساء : ٧٤.

(٤) سورة التوبة : ٣٦.

(٥) سورة التوبة : ٧٣ وسورة التحريم : ٩.

٣٤١

فيكون بالقلب واللسان واليد ، فمن أمكنه الجميع وجب عليه جميعه ، ومن لم يقدر باليد فاللسان والقلب ، وان لم يقدر باللسان أيضا فبالقلب.

واختلفوا في كيفية جهاد الكفار والمنافقين : فقال ابن عباس جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان والوعظ والتخويف ، وقيل جهاد الكفار بالسهم والرمح والسيف وجهاد المنافقين بإقامة الحدود عليهم ، وقال ابن مسعود هو بالأنواع الثلاثة بحسب الامكان فإن لم يقدر فليكفهر في وجوههم وهو الأعم.

وقيل قتاله مع الكفار ما قام فيه بنفسه وبابن عمه وبسرية كان يبعثها أيام حياته ، وقتاله مع المنافقين ما وصى به عليا ان يقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

وفى قراءة أهل البيت ( جاهد الكفار بالمنافقين ) (١).

( فصل )

اعلم أن الكفار على ضربين أهل الكتاب وغيرهم ، فالأولون يقاتلون إلى أن يسلموا أو يقبلوا الجزية ، وهم ثلاث فرق اليهود والنصارى والمجوس (٢) ، قال تعالى ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) (٣).

بين تعالى ان أهل الكتابين والمجوس ـ الذين حكمهم حكم اليهود والنصارى إذا لم يدينوا دين الحق ـ يعنى إذا لم يدخلوا الاسلام ـ يجب علينا ان نقاتلهم حتى

__________________

(١) مجمع البيان ٥ / ٥٠.

(٢) في تهذيب الأحكام : روى أبو يحيى الواسطي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن المجوس؟ قال : كان لهم نبي قتلوه وكتاب أحرقوه ، اتاهم نبيهم بكتابهم في اثنى عشر الف جلد ثور ، وكان يقال له جاماسب ( هـ ج ).

(٣) سورة التوبة : ٢٩.

٣٤٢

يدخلوا الذمة باعطاء الجزية وغيرها مما هو من شرائط الذمة على ما قدمناه.

ونذكر أيضا لها بيانا فنقول : لا يؤخذ الجزية عندنا الا من اليهود والنصارى والمجوس ، واما غيرهم من الكفار ـ على اختلاف مذاهبهم من عباد الأصنام والأوثان والصابئة وغيرهم ـ فلا يقبل منهم غير الاسلام أو القتل والسبي ، قال تعالى ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) أي كفر.

وسميت ( جزية ) لأنها شئ وضع على أهل الذمة ان يجزوه أي يقضوه ، أو لأنهم يجزون امام المسلمين بها الذين من عليهم بالاعفاء عن القتل. وقيل الجزية عطية عقوبة مما وظفه رسول الله على أهل الذمة ، وهي على وزن جلسة وقعدة لنوع من الجزاء.

وقوله ( عن يد ) أي عن يد متواتية غير ممتنعة ، ويعطونها عن يد أي نقد غير نسيئة لا مبعوثا على يد أحد ولكن عن يد المعطى إلى يد الاخذ. هذا إذا أريد به يد المعطي ، وان أريد به يد الاخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية ، أو عن انعام عليهم ، لان قبول الجزية منهم وتركهم احياء نعمة عظيمة عليهم ، يعني يؤخذ منهم على الصغار والذل ، وهو ان يأتي بها ماشيا (١) ويسلمها قائما والمسلم جالس.

( فصل )

فان قيل : اعطاء الجزية منهم طاعة أم معصية ، فإن كان طاعة وجب ان يكونوا مطيعين ، وإن كان معصية فكيف أمر الله بها.

قلنا : اعطاؤهم ليس بمعصية ، واما كونها طاعة لله فليس كذلك ، لأنهم انما يعطونها دفعا لقتل أنفسهم وفدية لاستعباده لهم لا طاعة لله ، فان الطاعة لا تقع من الكافر بحال عندنا. وانما أمر الله تعالى بذلك لما علم فيه من المصلحة واقرار أهل الكتاب

__________________

(١) أي إلى بلاد الاسلام لتكون المشقة أعظم ( هـ ج ).

٣٤٣

على طريقتهم ، ومنع ذلك من غيرهم لان أهل الكتاب مع كفرهم يقرون بألسنتهم بالتوحيد وببعض الأنبياء ـ وان لم يكونوا على الحقيقة عارفين ـ وغيرهم من الكفار يجحدون ذلك كله ، وذلك فرق بين أهل الكتاب وسائر المشركين مما عداهم.

والآية تدل على صحة مذهبنا في اليهود والنصارى وأمثالهم انه لا يجوز انه يكونوا [ عارفين بالله وان أقروا بذلك بلسانهم ، وانما يجوز ان يكونوا ] (١) معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم.

والآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم أهل الكتاب الذين يؤخذ منهم الجزية لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ، وانه يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية.

واعتقاد اليهود لشريعة موسى انما يوصف بأنه غير حق اليوم لاحد أمرين : أحدهما انها نسخت ، فالعمل بها بعد النسخ باطل غير حق. والثاني ان التوراة التي معهم مبدلة مغيرة ، لقوله تعالى ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) (٢).

وأهل الكتاب ـ بلا خلاف ـ هم اليهود والنصارى ، لقوله تعالى ( أن تقولوا انما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا ) (٣) وقول النبي عليه‌السلام في المجوس ( أجروهم مجرى أهل الكتاب لان لهم شبه كتاب ) ، فقد كان للمجوس كتاب فحرفوه على ما ورد في أخبارنا.

( فصل )

فان قيل : فقد قال تعالى ( لا اكراه في الدين ) (٤) ثم قال ( وقاتلوهم حتى لا

__________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) سورة النساء : ٤٦.

(٣) سورة الأنعام : ١٥٦.

(٤) سورة البقرة ٢٥٦.

٣٤٤

تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) (١) فأي اكراه أعظم من أن يؤمر بالقتال حتى يسلم؟.

قلنا : لكل واحد من الآيتين وجها حسنا ومعنى لا يناقض معنى الاخر ، فان معنى قوله ( لا اكراه في الدين ) أي لم يجز الله أمر الايمان على القسر والاجبار ولكن على التمكن والاختيار ، ونحوه قوله تعالى ( ولو شاء ربك لامن من في الأرض جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (٢). وهذه المشية أيضا مشية القسر والالجاء. وحرف الاستفهام انما أورده اعلاما بأن الاكراه ممكن ، وانما الشأن في المكره من هو وما هو الا هو تعالى وحده لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الايمان.

وأما قوله ( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ) أي شرك ، ويكون الدين لله خالصا أمر تعالى لعزة الاسلام باذلال أهل الكفر حتى تجري الشريعة على ما يرضاها الله ظاهرة وأفعال الجوارح لا مدخل لها في أن تكون من حدود الدين والايمان ، وانما هي رتبة وحلية للمؤمن المتدين على أن الكفار لا يرضون رأسا برأس ، فإنهم لما عجزوا عن الغلبة بالحجة طلبوا بوار الاسلام والمسلمين بالقهر والغلبة بالقوة ، فأمر الله بمجاهدتهم ليذعنوا للاسلام ( فان انتهوا فلا عدوان الا على القوم الظالمين ) (٣).

والمعنى ان امتنعوا من الكفر وانقادوا فلا قتل الا على الكافرين المقيمين على الكفر.

وسمي القتل عدوانا مجازا من حيث كان عقوبة على العدوان والظلم ، وسمي جزاء الظالمين ظلما للمشاكلة ، أي ان تعرضتم لهم بعد الانتهاء كنتم ظالمين فيسلط عليكم من يعدو عليكم ، وقال في موضع آخر ( ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) (٤).

__________________

(١) سورة الأنفال : ٣٩.

(٢) سورة يونس : ٩٩.

(٣) سورة البقرة : ١٩٣.

(٤) سورة الأنفال ٣٨.

٣٤٥

وشرائط الذمة خمسة : قبول الجزية ، وأن لا يتظاهروا بأكل لحم الخنزير ، وشرب الخمر ، ونكاح الزنا ، ونكاح المحرمات. فان خالفوا شيئا من ذلك خرجوا من الذمة ، قال تعالى ( وان نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر ) (١) أي فقاتلوهم ، فوضع المظهر موضع المضمر اشعارا بأنهم إذا نكثوا فهم ذوو الرئاسة في الكفر.

وفي الآية دلالة على أن الذمي إذا أظهر الطعن في الاسلام فإنه يجب قتله ، لان عهده معقود على أن لا يطعن في الاسلام ، فإذا طعن فقد نقض عهده.

ومن وجبت عليه الدية فأسلم قبل ان يعطيها سقطت منه ، قال تعالى ( فان انتهوا فلا عدوان الا على الظالمين ).

( فصل )

وقال تعالى ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) (٢) أي إذا لقيتم يا معشر المؤمنين الذين جحدوا ربوبيته من أهل دار الحرب فاضربوهم على الأعناق ( حتى إذا أثخنتموهم ) وأثقلتموهم بالجراح وظفرتم بهم ( فشدوا الوثاق ) معناه احكموا أوثاقهم في الأسر. ثم قال ( فاما منا بعد واما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) أي أثقالها ، والتقدير اما تمنوا منا واما ان تفدوا فداءا.

قال ابن جريح وقتادة : الآية منسوخة بقوله ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (٣) وقوله ( فاما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) (٤).

وقال ابن عباس والضحاك الفداء منسوخ ، وقال ابن عمر وجماعة ليست

__________________

(١) سورة التوبة : ١٢.

(٢) سورة محمد : ٤.

(٣) سورة التوبة : ٥.

(٤) سورة الأنفال : ٥٧.

٣٤٦

بمنسوخة ، وكان الحسن يكره ان يفادي بالمال ويقوى يفادى الرجل بالرجل ، وقيل ليست منسوخة والامام مخير بين بين الفداء والمن والقتل بدلالة الآيات.

وقوله ( حتى تضع الحرب أوزارها ) قال قتادة أي حتى لا يكون شرك ، وقال الحسن ان شاء الامام أن يستعبد الأسير من المشركين فله ذلك بالسنة ، والذي رواه أصحابنا ان الأسير إذا اخذ قبل انقضاء الحرب والقتال والحرب قائمة والقتال باق فالامام مخير بين ان يقتلهم أو يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ويتركهم حتى ينزفوا ، وليس له المن والفداء ، وإن كان الأسير اخذ بعد وضع الحرب أوزارها وانقضاء الحرب والقتال كان مخيرا بين المن والمفاداة اما بالمال أو النفس وبين الاسترقاق بضرب الرقاب ، فان أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك وصار حكمه حكم المسلمين ، لقوله ( فان انتهوا فان الله غفور رحيم ) ولقوله ( فان انتهوا فلا عدوان الا على القوم الظالمين ).

( فصل )

وقوله تعالى ( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الاسرى ) (١) خاطب نبيه عليه‌السلام وأمره بأن يقول لمن حصل في يده من الأسارى ، في وسماه في يده لأنه بمنزلة ما قبض في يده بالاستيلاء عليه ، ولذلك يقال للملك المتنازع فيه لمن اليد.

وقوله ( أن يعلم الله في قلوبكم خيرا ) أي اسلاما ( يعطكم خيرا مما أخذ منكم ) من الفداء.

روي عن العباس أنه قال : كان معي عشرون أوقية فأخذت مني ثم أعطاني مكانها عشرون عبدا ووعدني المغفرة. قال : وفي نزلت وفي أصحابي هذه الآية (٢).

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧٠.

(٢) أسباب النزول للواحدي ص ١٦٢ بهذا المضمون.

٣٤٧

( وان يريدوا خيانتك ) بنقض العهد ( فقد خانوا الله من قبل ) (١) بأن خرجوا إلى بدر وقاتلوا المسلمين مع المشركين فأمكن الله منهم بأن غلبوا وأسروا ، فان خانوا ثانيا فسيمكن الله منهم مثل ذلك.

وأما قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى (٢) ) فالمعنى ما كان لنبي أن يحتبس كافرا للفداء والمن حتى يثخن في الأرض. والاثخان في الأرض تغليظ الحال بكثرة القتال. ( تريدون عرض الدنيا ) أي الفداء ، سمي متاع الدنيا عرضا لقلة لبثه.

وهذه الآية نزلت في أسارى بدر قبل أن يكثر أهل الاسلام ، فلما كثر المسلمون قال تعالى ( فامامنا بعد واما فداءا ) (٣) ، وهو قول ابن عباس وقتادة.

فان قيل : كيف يكون القتل فيهم كان أصلح وقد أسلم منهم جماعة ، ومن علم الله من حاله أنه يصير مسلما يجب تبقيته.

قلنا : من يقول أن تبقيته واجبة ، يقول إن الله أراد أن يأمرهم بأخذ الفداء ، وانما عاتبهم على ذلك لأنهم بادروا إليه قبل أن يؤمروا به.

( فصل )

فان قيل : هل كان الجهاد واجبا على كل أهل الملة أم لا.

قلنا : الزجاج استدل بقوله تعالى ( ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة

__________________

(١) سورة الأنفال : ٧١.

(٢) سورة الأنفال : ٦٧.

(٣) سورة محمد : ٤.

٣٤٨

والإنجيل والزبور والقرآن ) (١) على أن الجهاد كان واجبا على أهل كل ملة ، لعموم اللفظ فيها.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع ) أيام شريعة عيسى ( وبيع ) في أيام شريعة موسى (٢) ( ومساجد ) (٣) في أيام شريعة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وعليهم.

ويدل عليه أيضا قوله تعالى ( ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ) (٤) وكان سبب سؤالهم هذا استدلال الجبابرة من الملوك الذين كانوا في زمانهم إياهم ، وأنكروا لما بعث الله لهم طالوت ملكا بأنه لم يؤت سعة من المال ، فرد الله عليهم ( أن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم ) أي هو أولى بالملك ، فإنه اعلم وأشجع منكم. وهذا يدل على أن من شرط الامام أن يكون اعلم رعيته.

ثم قال تعالى ( وقال لهم نبيهم ان آية ملكه ان يأتيكم التابوت فيه سكينة ) (٥) فنص عليه بالمعجز ، وهذا يدل على أن الامام يجب ان يكون منصوصا عليه. إلى أن قال ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) (٦) أي يدفع الله بالبر عن الفاجر الهلاك.

__________________

(١) سورة التوبة : ١١١.

(٢) عن الجوهري البيعة للنصارى ، وفى المجمع الكنسية لليهود والبيعة للنصارى واستعمالها ههنا لليهود مجازا.

(٣) سورة الحج : ٤٠.

(٤) سورة البقرة : ٢٤٦.

(٥) سورة البقرة : ٢٤٨.

(٦) سورة البقرة : ١٥١.

٣٤٩

( باب )

( حكم ما أخذ من دار الحرب بالقهر وذكر ما يتعلق به ) قال الله تعالى ( فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ) (١) أباح الله للمؤمنين بهذه الآية ان يأكلوا مما غنموه من أموال المشركين بالقهر من دار الحرب. ولفظه وإن كان لفظ الامر فالمراد به الإباحة ورفع الحظر.

والغنيمة ما اخذ بالقهر من دار الحرب.

والفرق بين الحلال والمباح ان الحلال من حل العقد في التحريم ، والمباح من التوسعة في الفعل وان اجتمعا في الحل.

وقد ذكرنا في باب الخمس أن جميع ما يغنم من بلاد الشرك يخرج منه الخمس فيفرق في أهله الذين ذكرنا هم هناك. والباقي على ضربين : فالأرضون والعقارات لجميع المسلمين ، وما يمكن نقله للمقاتلة ولمن حضر القتال خاصة وان لم يقاتل للفارس سهمان وللراجل سهم. وقال قوم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم. وهذا عندنا إذا كان معه فرسان أو أفراس جماعة. وقيل إن النبي عليه‌السلام فتح مكة عنوة ولم يقسم أرضها بين المقاتلة ، وقال قوم فتحها سلما.

وروي أن سرية بعثها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمروا برجل فقال إني مسلم ، فلم يقبل أميرهم أسامة أو المقداد ذلك وقتله وأخذ غنيمة (٢) له ، فأنكر النبي

__________________

(١) سورة الأنفال : ٦٩.

(٢) غنيمة تصغير غنم ، في التبيان لحق ناس رجلا في غنيمة له ، فقال السلام عليكم ، فقتلوه وأخذوا غنمه. وقيل قال الرجل : السلام عليكم أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، فشد عليه أسامة بن زيد وكان أمير القوم فقتله فنزلت الآية. وقال قوم كان صاحب السرية المقداد ( هـ ج ).

٣٥٠

عليه‌السلام ذلك ، فأنزل الله ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة ) (١).

( فصل )

وقال تعالى ( وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) تقديره أذكر يا محمد إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين ، اما العير عير قريش واما قريشا.

عن الحسن : كان المسلمون يريدون العير ورسول الله يريد ذات الشوكة لما وعده الله. فروي أن النبي عليه‌السلام لما بلغه خروج قريش لحماية العير شاور أصحابه ، فقال قوم خرجنا غير مستعدين للقتال ، وقال المقداد امض لما أمرك الله به فوالله لو دخلت بنا الجمر لتبعناك ، فجزاه خيرا وأعاد الاستشارة ، فقالوا امض يا رسول الله لما أردت ، فسار عليه‌السلام ونشطه ذلك ، ثم قال : سيروا على بركة الله وأبشروا فان الله وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني انظر إلى مصارع القوم.

وروي أن أحدا لم يشاهد الملائكة يوم بدر الا رسول الله (٣).

( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم اني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) (٤).

الداعي رسول الله ، ولقلة عددهم استغاث الله فأمدهم بألف من الملائكة مردفين مثلهم. ومعناه على هذا التأويل مع كل ملك ملك ردف فقتلوا سبعين وأسروا سبعين.

__________________

(١) سورة النساء : ٩٤ وانظر أسباب النزول للواحدي ص ١١٥.

(٢) سورة الأنفال : ٧.

(٣) انظر الدر المنثور ٣ / ١٦٤.

(٤) سورة الأنفال : ٩.

٣٥١

( فصل )

وأما قوله ( وتلك الأيام نداولها بين الناس ) (١) آي نصرفها مرة لفرقة ومرة عليها ، ليمحص الله المؤمنين بذلك من الذنوب ويخلصهم به ويهلك الكافرين بالذنوب.

فان قيل : لم جعل الله مداولة الأيام بين الناس وهلا كانت أبدا لأولياء الله؟.

قلنا : ذلك تابع للمصلحة وما تقتضيه الحكمة أن يكونوا تارة في شدة وتارة في رخاء ، فيكون ذلك داعيا لهم إلى فعل الطاعة واحتقار الدنيا الفانية المنتقلة من قوم إلى قوم حتى يصير الغني فقيرا والفقير غنيا والنبيه خاملا والخامل نبيها ، فتقل الرغبة حينئذ فيها ويقوى الحرص على غيرها مما نعيمه دائم.

والمراد بالأيام أوقات الظفر والغلبة. ( نداولها ) أي نصرفها بين الناس ، نديل تارة لهؤلاء وتارة لهؤلاء ، كقوله :

فيوما علينا ويوما لنا

ويوما نساء ويوما نسر

وفى أمثالهم ( الحرب سجال ).

( وليعلم الله الذين آمنوا ) فيه وجهان :

أحدهما أن يكون المعلل محذوفا ، معناه واستمر التائبون على الايمان من الذين على حرف فعلنا ذلك ، وهو من باب التمثيل ، يعنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الايمان منكم من غير الثابت ، والا فالله لم يزل عالما بالأشياء قبل كونها.

والثاني أن تكون العلة محذوفة ، وليعلم عطف عليه ، معناه وفعلناه ذلك ليكون كيت وكيت ونعلمهم علما ، فتعلق به الجزاء ، وهو أن نعلمهم موجودا منهم الثبات ،

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٠.

٣٥٢

وانما حذف للايذان أن المصلحة فيما فعل ليست بواحدة ليسليهم عما جرى عليهم ، وليبصرهم أن العبد يسؤه ما يجري عليه من المصائب ولا يشعر أن لله في ذلك من المصالح ما هو غافل عنه.

( ويتخذ منكم شهداء ) أي وليكرم ناسا منهم بالشهادة ، يريد المستشهدين يوم أحد وليصفيهم من الذنوب.

( ويهلك الكافرين ) يعني ان كانت الدولة على المؤمنين فللاستشهاد والتمحيص وغير ذلك مما هو أصلح لهم ، وان كانت على الكفار فلمحقهم ومحو آثارهم.

( فصل )

ثم قال تعالى ( أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ) (١).

أم منقطعة ، ومعنى الهمزة فيها للانكار ، ومعنى ( لما يعلم الله ) أي لما تجاهدوا ، لان العلم يتعلق بالمعلوم ، فنزل نفي العلم منزلة نفي متعلقه ، لأنه منتف بانتفائه. يقول القائل ( ما علم الله في فلان خيرا ) يريد ما فيه خير حتى يعلم.

ثم خاطب الذين لم يشهدوا بدرا فقال ( ولقد كنتم تمنون الموت ) فكانوا يتمنون أن يحضروا مشهدا مع النبي عليه‌السلام ليصيبوا من كرامة الشهادة ما نال شهداء بدر ، وهم ألحوا على رسول الله في الخروج إلى المشركين ، وكان رأيه في الإقامة بالمدينة للوحي به. يعنى وكنتم تتمنون الموت قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته ( فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) أي رأيتموه معاينين مشاهدين له حتى قتل من قتل من اخوانكم وأقاربكم وشارفتم أن تقتلوا. وهذا توبيخ لهم على تمنيهم الموت ، وعلى ما تسببوا له من خروج رسول الله بالحاحهم عليه ثم انهزامهم عنه وقلة ثباتهم عنده.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٤٢.

٣٥٣

فان قيل : كيف يجوز تمني الشهادة وفي تمنيها تمني غلبة الكافر على المؤمن.

قلنا : قصد تمني الشهادة إلى نيل كرامة الشهداء لاغير ، فلا يذهب وهمه إلى ذلك المتضمن ، كما أن من يشرب دواء الطبيب النصراني قاصدا إلى حصول المأمول من الشفاء ، ولا يخطر بباله أن منه جر منفعة واحسان إلى عدو الله وتنفيقا لصناعته. فإذا ثبت ذلك فتمنيهم الشهادة انما هو بالصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا لا بقتل المشركين لهم وإرادتهم ذلك.

( باب المهادنة )

وقوله تعالى ( الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقضوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ) (١).

الهدنة والمعاهدة واحدة ، وهي وضع القتال وترك الحرب إلى مدة من غير عوض ، وذلك جائز لقوله تعالى ( وان جنحوا للسلم فاجنح لها ) (٢). وقد صالح النبي عليه‌السلام قريشا بالحديبية على ترك القتال عشر سنين.

فإذا ثبت جوازه فإن كان في الهدنة مصلحة للمسلمين ونظر لهم في أن يرجو الامام منهم الدخول في الاسلام أو بذلك الجزية فعل ذلك ، وإذا لم يكن للمسلمين مصلحة ـ بأن يكون العدو ضعيفا قليلا وإذا ترك قتالهم اشتدت شوكهم وقووا ـ فلا تجوز الهدنة لان فيها ضررا على المسلمين.

وإذا هادنهم في الموضع الذي يجوز فيجوز أن يهادنهم أربعة أشهر بنص القرآن ، وهو قوله ( فسيحوا في الأرض أربعة أشهر ) (٣) ، ولا يجوز الزيادة عليها

__________________

(١) سورة التوبة : ٤.

(٢) سورة الأنفال : ٦١.

(٣) سورة التوبة : ٢.

٣٥٤

بلا خلاف لقوله ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (١) فاقتضى ذلك قتلهم بكل حال. وخرج قدر الأربعة الأشهر بدليل الآية الأولى وبقي ما عداه على عمومه.

هذا إذا كان الامام مستظهرا على المشركين ، فإن كان هم مستظهرين لقوتهم وضعف المسلمين ـ وإن كان العدو بالبعد منهم في قصدهم التزام مؤن كثيرة ـ فيجوز أن يهادنهم إلى عشر سنين ، لان النبي عليه‌السلام هادي قريشا إلى عشر سنين ثم نقضوها هم من قبل نفوسهم.

( فصل )

وقوله تعالى ( أوفوا بالعقود ) (٢) يدل على أن الامام إذا عقد لعدو من المشركين عقد الهدنة إلى مدة فعليه الوفاء إلى انقضاء تلك المدة ، فان خالف جميعهم في ذلك انقضت الهدنة ، وان خالف بعضهم ولم يكن منهم انكار بقول أو فعل كان نقضا للهدنة في حق جميعهم ، وإن كان منهم انكار لذلك كان الباقون على صلحه دون الناقضين.

وإذا خاف الامام من المهادنين خيانة جاز له أن ينقض العهد ، لقوله ( واما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ) (٣).

ولا تنقض الهدنة بنفس الخوف بل للامام نقضها ، فإذا نقضها ردهم إلى مأمنهم لأنهم دخلوا إليه من مأمنهم.

وقد أمر الله نبيه عليه‌السلام أنه متى خاف ممن بينه وبينه عهد خيانة أن ينبذ

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

(٢) سورة المائدة : ١.

(٣) سورة الأنفال : ٥٨.

٣٥٥

إليه عهده إلى سواء ، أي على عدل. وقيل على استواء في العلم به أنت وهم في انكم حرب لئلا يتوهم انك نقضت العهد ونقضه بالخوف من الخيانة.

قلنا : انما فعل ذلك لظهور أمارات الخيانة التي دلت على نقض العهد ولم يشتهر ولو اشتهرت لم يجب النبذ.

( باب ذكر الامر بالمعروف والنهى عن المنكر ) قال الله تعالى : ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) (١).

( ولتكن ) أمر ، لان لام الإضافة لا تسكن ، وتسكين اللام يؤذن أنه للجزم.

وقوله ( منكم ) من للتبعيض عند أكثر المفسرين ، لان الامر بانكار المنكر والامر بالمعروف متوجه في فرقة منهم غير معينة لأنه فرض على الكفاية ، فأي فرقة قامت به سقط عن الباقين.

وقال الزجاج : والتقدير وليكن جميعكم ، ومن دخلت ليحض المخاطبين من بين سائر الأجناس ، كما قال ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) (٢). فعلى هذا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر من فروض الأعيان لا يسقط بقيام البعض عن الباقين.

و ( الأمة ) للجماعة ، و ( المعروف ) الفعل الحسن الذي له صفة زائدة على حسنه. وربما كان واجبا وربما كان ندبا ، فإن كان واجبا فالامر به واجب ، وإن كان ندبا فالامر به ندب.

و ( المنكر ) هو القبيح ، فالنهي كله واجب. والانكار هو اظهار كراهة الشئ

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٠٤.

(٢) سورة الحج : ٣٠.

٣٥٦

لما فيه من وجه القبح ، ويقتضيه الاقرار ، وهو اظهار تقبل الشئ من حيث هو صواب وحكمة وحسن.

ولا خلاف أن الامر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان على ما ذكرناه.

واختلف المتكلمون أيضا في وجوبهما : فقيل إنه من فروض الكفايات ، وقال آخرون هو من فروض الأعيان ، وهو الصحيح. وقال بعض أصحابنا انهما ربما يجبان على التعيين وربما يجبان على الكفاية.

( فصل )

ويدل على وجوبهما زائدا على ما ذكرناه قوله تعالى ( الذين ان مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ) (١). وذلك لان ما رغب الله فيه فقد أراده ، وكل ما أراده من العبد شرعا فهو واجب ، الا أن يقوم دليل على أنه نفل ، ولان الاحتياط يقتضى ذلك.

و ( المعروف ) الحق ، وسمي به لأنه يعرف صحته. وسمي ( المنكر ) منكرا لأنه لا يمكن معرفة صحته بل ينكر.

والناس اختلفوا في ذلك : فقال قوم ان طريق انكار المنكر العقل ، لأنه كما يجب كراهته وجب المنع منه إذا لم يمكن قيام الدلالة على الكراهية ، والا كان تاركه بمنزلة الراضي به. وقال آخرون ـ وهو الصحيح عندنا ـ ان طريق وجوبه السمع ، وأجمعت الأمة على ذلك.

ويكفى المكلف الدلالة على كراهيته من جهة الخبر وما جرى مجراه.

فان قيل : هل يجب في انكار المنكر حمل السلاح.

قلنا : نعم إذا احتيج إليه بحسب الامكان ، لأنه تعالى قد أمر به ، فإذا لم

__________________

(١) سورة الحج : ٤١.

٣٥٧

ينجع فيه الوعظ والتخويف ولا التناول باليد وجب حمل السلاح ، لان الفريضة لا تسقط مع الامكان الا بزوال المنكر الذي لزم به الجهاد. الا انه لا يجوز أن يقصد القتال الا وغرضه انكار المنكر.

وأكثر أصحابنا على أن هذا النوع من انكار المنكر لا يجوز الاقدام عليه الا باذن سلطان الوقت ، ومن خالفا جوز ذلك من غير الاذن ، مثل الدفاع عن النفس سواء.

( فصل )

اما قوله تعالى ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ) (١) ، فقد أوجب الله الامر بالمعروف والنهى عن المنكر فيما تقدم من قوله ( ولتكن منكم أمة ) ثم مدح على قبوله والتمسك به كما مدح بالايمان ، وهذا يدل على وجوبهما.

وقد بينا اختلاف المفسرين والمتكلمين في قوله ( منكم أمة ) انها للتبعيض أو للتبيين والأولى ان يكون للتبيين ، والمعنى كونوا أمة تأمرون ، كقوله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون ). ولا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض أو للتبيين والأولى ان يكون للتبيين ، والمعنى كونوا أمة تأمرون ، كقوله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون ). ولا يصح الاستدلال على أنها للتبعيض ، بأن ذلك لا يصح الا ممن علم المعروف والمنكر وعلم كيف يرتب الامر في اقامته وكيف يباشر ، وان الجاهل ربما نهى عن معروف وامر بمنكر ، وربما يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة ، وينكر على من لا يزيده انكاره الا تماديا ، لان هذا كله من شرائطهما.

وشرائط وجوبهما ثلاثة : أن يعلم المعروف معروفا والمنكر منكرا ، وتجويز تأثير انكاره ، ولا يكون فيه مفسدة.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١١٠.

٣٥٨

فان قيل : كيف يباشر انكار المنكر؟

قلنا : يبتدئ بالسهل ، فإن لم ينفع ترقى إلى الصعب ، لان الغرض كف المنكر ، قال تعالى ( فأصلحوا بينهما ) ثم قال ( فقاتلوا ) (١).

فان قيل : فمن يباشر؟

قلنا : كل مسلم تمكن منه واختص بشرائطه.

وقد أجمعوا أن من رأى غيره تاركا للصلاة وجب عليه الانكار ، لان قبحه معلوم لكل أحد ، وأما الانكار الذي بالقتال فالامام وخلفاؤه أولى ، لأنهم أعلم بالسياسة ومعهم عدتها.

فان قيل : فمن يؤمر وينهى؟

قيل : كل مكلف ، وغير المكلف إذ هم بضرر غيره منع كالصبيان والمجانين ، وينهى الصبيان عن المحرمات حتى لا يتعودوها ، كما يؤخذون بالصلاة ليتمرنوا عليها.

فان قيل : هل ينهى عن المنكر من يرتكبه؟

قيل : نعم يجب عليه ، لان ترك ارتكابه وانكاره واجبان عليه ، فبترك أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر ، وقد قالوا عليهم‌السلام ( مروا بالخير وان لم تفعلوا ) (٢).

فان قيل : كيف قال تعالى ( يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف ) (٣).

[ قلنا : الدعاء إلى الخير عام في التكاليف من الافعال والتروك ] (٤). والنهي عن المنكر

__________________

(١) سورة الحجرات : ٩.

(٢) وسائل الشيعة ١١ / ٣٩٩.

(٣) سورة آل عمران : ١٠٤.

(٤) الزيادة من ج.

٣٥٩

فخاص ، فجئ بالعام ثم عطف عليه الخاص ايذانا بفضله كقوله ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) (١).

( فصل )

وانما قال تعالى ( كنتم خير أمة ) (٢) ولم يقل أنتم خير أمة ، لأمور : أحدها ـ ان ذلك قد كان في الكتب المتقدمة ، فذكر كنتم لتقدم البشارة به ، ويكون التقدير كنتم خير أمة في الكتب الماضية وفى اللوح المحفوظ ، فحققوا ذلك بالافعال الجميلة.

الثاني ـ أنه بمنزلة قوله ( وكان الله غفورا رحيما ) ، لان مغفرته المستأنفة كالمغفرة الماضية في تحقق الوقوع لا محالة. وفي كان على هذا تأكيد وقوع الامر ، لأنه بمنزلة ما قد كان.

الثالث ـ كان تامة ، أي حدثتم خير أمة ، وخير أمة نصب على الحال ، قال مجاهد ومعناه كنتم خير أمة إذا فعلتم ما تضمنته الآية من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل بما أوجبه.

فان قيل : لم يقال للحسن المعروف مع أن القبيح معروف أيضا انه قبيح ولا يطلق عليه اسم المعروف.

قلنا : لان القبيح بمنزلة ما لا يعرف لخموله وسقوطه ، والحسن بمنزلة النبيه الذي يعرف بجلالته وعلو قدره ، ويعرف أيضا بالملامسة الظاهرة والمشاهدة ، فأما القبح فلا يستحق هذه المنزلة.

وقال أهل التحقيق : نزلت هذه الآية فيمن هذه صفته من هذه الأمة ، وهم من

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٣٨.

(٢) سورة آل عمران : ١١٠.

٣٦٠