فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

وأما قوله تعالى ( وليطوفوا بالبيت العتيق ) (١) قال قوم هو طواف العمرة الذي يقال له طواف الصيد لأنه تعالى أمر به عقيب المناسك كلها ، وقيل هو طواف الإفاضة بعد التعريف اما يوم النحر واما بعده ، وهو طواف الزيارة. وروى أصحابنا أن المراد به ههنا طواف النساء (٢) الذي يستباح به وطي النساء ، وهو زيادة على طواف الزيارة للحج ، والعموم يتناول الجميع.

( باب فرائض الحج )

( وسننه وما يجري مجراها )

اعلم أن فرائض الحج المفرد والقارن عشر ، احتججنا من القرآن تصريحا وتلويحا وتبيينا وإشارة ، فان الثمانية الأشياء التي وجبت في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج تسقط في الافراد والقران. ومن حج مفردا فعليه عمرة الاسلام بعد الحج مبتولة منه.

وقوله تعالى ( الحج أشهر معلومات ) أي أشهر الحج أشهر معلومات ، أو الحج حج أشهر معلومات ، ليكون الثاني هو الأول في المعنى ، فحذف المضاف ، أي لا حج الا في هذه الأشهر. وقد يجوز أن يجعل ( الأشهر ) الحج على الاتساع لكونه فيها ولكثرته من الفاعلين له ، لقول الخنساء :

* فإنما هي اقبال وادبار *

أي أشهر الحج أشهر موقتة معينة لا يجوز فيها التبديل والتغيير بالتقديم

__________________

(١) سورة الحج : ٢٩.

(٢) مروى عن الصادق عليه‌السلام ـ انظر البرهان ٣ / ٨٨.

٢٨١

والتأخير الذي كان يفعلهما النساء ، قال الله تعالى (١) ( انما النسئ زيادة في الكفر ) (٢).

وقد ذكر أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة عندنا على ما روي عن أبي جعفر عليه‌السلام (٣) ، وقيل هو شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وروي ذلك أيضا في أخبارنا (٤) ، وروي تسع من ذي الحجة. ولا تنافي بينها ، لان على الرواية الأخيرة لا يصح الاحرام بالحج الا فيها ، وعندنا لا يصح الاحرام بالعمرة التي يتمتع بها إلى الحج الا بالرواية الأولى.

ومن قال إن جميع ذي الحجة من أشهر الحج قال لأنه يصح أن يقع فيها بعض أفعال الحج ، مثل صوم الأيام الثلاثة وذبح الهدي.

واختلف المفسرون فيه : فقال قوم المعنى في جميع ذلك واحد ، وقال آخرون هو مختلف من حيث إن الثاني معناه ان العمرة لا ينبغي أن تكون في الأشهر الثلاثة على التمام لأنها من أشهر الحج. والأول على أنها ينبغي ان يكون في شهرين وعشرا وتسع من الثالث.

فان قيل : كيف جمع شهرين وعشرة أيام ثلاثة أشهر.

قلنا : لأنه قد يضاف الفعل إلى الوقت وان وقع في بعضه ، ويجوز

__________________

(١) عن الجوهري : قوله تعالى ( انما النسئ زيادة في الكفر ) هو فعيل بمعنى مفعول من قولك نسأت الشئ فهو منسوء ، إذا أخرته ، ثم يحول منسوء إلى نسئ كما يحول مقتول إلى قتيل ، ورجل ناسئ وقوم نسأة مثل فاسق وفسقة ، وذلك أنهم كانوا إذا صدروا عن منى يقوم رجل من كنانة فيقول : أنا الذي لا يرد لي قضاء. فيقولون : أنسئنا شهرا أي اخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر ، لأنهم كانوا يكرهون أن تتوالى عليهم ثلاثة أشهر لا يغيرون فيها ، لان معائشهم كان من الغارة فيحل لهم المحرم ( هـ ج ) انظر الصحاح ١ / ٧٧.

(٢) سورة التوبة : ٣٨.

(٣) وسائل الشيعة ٨ / ١٩٧.

(٤) انظر وسائل الشيعة ٨ / ١٩٦ ـ ١٩٧.

٢٨٢

أن يضاف الوقت إليه كذلك ، كقولك ( صليت يوم الجمعة ) و ( صليت يوم العيد ) وان كانت الصلاة في بعضه ، و ( قدم زيد في يوم كذا ) و ( قدموه في بعض اليوم ) فكذلك جاز أن يقال ذو الحجة شهر الحج وإن كان في بعضه ، وانما يفرض الاحرام بالحج في البعض.

( فصل )

وقوله تعالى ( فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ) (١).

فمن فتح الجميع فقد نفى جميع الرفث والفسوق والجدال ، كقوله تعالى ( لا ريب فيه ) (٢) بعد نفى جميع الريب. ومن رفع فعلى الابتداء وخبره في الحج ، ويعلم من الفحوى أنه ليس المنفي رفثا واحدا ولكنه جميع ضروبه.

والرفث ههنا عندنا كناية عن الجماع ، وهو قول ابن عباس وقتادة ، والأصل الافحاش في المنطق في اللغة. وعن جماعة المراد ههنا المواعدة للجماع والتعريض للجماع أو المداعبة كله رفث.

والفسوق قيل هو التنابز بالألقاب ، لقوله ( بئس الاسم الفسوق ) (٣). وقيل هو السباب ، لقوله عليه‌السلام ( سباب المؤمن فسوق ) (٤). وروى بعض أصحابنا أن المراد به الكذب ، والأولى أن نحمله على جميع المعاصي التي نهي المحرم عنها ، وبه قال ابن عمر. وقد يقول القائل ( ينبغي أن تقيد لسانك في شهر رمضان لئلا يبطل صومك ) فيخصه بالذكر لعظم حرمته.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

(٢) سورة البقرة : ٢.

(٣) سورة الحجرات : ١١.

(٤) الكافي ٢ / ٣٠٦.

٢٨٣

وقوله ( ولا جدال في الحج ) فالذي رواه أصحابنا انه قول ( لا والله ) و ( بلى والله ) صادقا وكاذبا. وللمفسرين فيه قولان : أحدهما أنه لا مراء بالسباب والاغضاب على وجه اللجاج ، والثاني أنه لا جدال في أن الحج قد استدار ، لأنهم أنسأوا الشهور فقدموا وأخروا فالآن قد رجع إلى حاله. والجدال المخاصمة.

ولا رفث ان خرج مخرج النفي والاخبار فالمراد به النهي ( وما تفعلوا من خير يعلمه الله ) أي يجازيكم عليه لأنه عالم به.

( فصل )

وقوله تعالى ( وتزودوا فان خير الزاد التقوى ) (١) أي تزودوا من الطعام ولا تلقوا كلكم على الناس كما يفعله العامة ، وخير الزاد مع ذلك التقوى. وقيل تزودوا من الافعال الصالحة ، فان الاستكثار من أعمال البر أحق شئ بالحج. والعموم يتناول التأويلين.

ثم قال ( ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم ) (٢) وهذا تصريح بالاذن بالتجارة ، وهو المروي عن أئمتنا عليهم‌السلام (٣). أي لستم تأثمون في أن تبتغوا وتطلبوا الرزق ، فإنهم كانوا يتأثمون بالتجارة في الحج ، فرفع الله الاثم بهذه اللفظة عمن يتجر في الحج.

وقيل كان في الحج أجراء ومكارون ، وكان الناس يقولون أنه لا حج لهم ، فبين تعالى أنه لا اثم على الحاج في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا.

وقيل معناه لا جناح ان تطلبوا المغفرة من ربكم ، رواه جابر عن ابن جعفر

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٧.

(٢) سورة البقرة : ١٩٨.

(٣) انظر تفسير البرهان : ١ / ٢٠١.

٢٨٤

عليه‌السلام (١). والعموم يتناول الجميع.

فالآية تدل على أن التاجر والحمال والأجير وغيرهم يصح لهم الحج ، فليس الحج كالصلاة ، لان أفعال الصلاة متصلة لا يتخللها غيرها ، وافعال الحج بخلافها ، فلا يمتنع قصد ابتغاء المنافع مع قصد إقامة التعبد ، وكذلك لا يمتنع ان يستغفر الله ويصلي على النبي وآله في خلال ذكر التلبيات وغيرها.

( فصل )

وقوله تعالى ( ولله على الناس حج البيت من استطاع ). عن ابن عباس وابن عمر السبيل الذي يلزم بها الحج هي الزاد والراحلة ، وقال ابن الزبير والحسن ما يبلغه كائنا ما كان ، وعندنا هو وجود الزاد والراحلة ونفقة من يلزمه نفقته والرجوع إلى كفاية عند العود اما من مال أو ضياع أو عقار أو صناعة أو حرفة مع الصحة والسلامة وزوال الموانع وامكان المسير. ولا بيان في ذلك [ أبين مما بينه الله بأن يكون مستطيعا إليه السبيل ، وذلك ] (٢) عام في جميع ما ذكرنا ، ومن في موضع الجر بدل من الناس ، المعنى : ولله على من استطاع من الناس حج البيت.

وقوله تعالى ( فمن كفر ) اي من جحد فرض الحج فلم يره واجبا ، فأما من تركه وهو يعتقد فرضه فإنه لا يكون كافرا وإن كان عاصيا. وقال قوم معنى من كفر أي ترك الحج ، والسبب في ذلك أنه لما نزل قوله ( ومن يبتغ غير الاسلام دينا ) (٣) قال اليهود نحن مسلمون نحن مسلمون ، فأنزل الله هذه الآية ، يأمرهم بأمر الحج ان كانوا صادقين ، فامتنعوا فقال تعالى : فمن ترك من هؤلاء الحج فهو كافر.

__________________

(١) تفسير البرهان ١ / ٢٠١.

(٢) الزيادة من ج.

(٣) سورة آل عمران : ٨٥.

٢٨٥

وظاهر الآية خبر ومعناه أمر ، لأنه ايجاب الحج على الناس. وفي مورد هذا الايجاب في صورة الخبر نكتة مليحة يطلع عليها من تدبره. وفيها مداراة واستمالة لان المأمور به ينكسر بالامر ، وأكثر كلام الله وكلام رسوله الوارد على لفظ الخبر اما يتضمن الامر أو النهي.

( فصل )

ومما يدل على أن الوقوف بالمشعر الحرام واجب وهو ركن من أركان الحج  ـ بعد الاجماع المذكور ـ قوله تعالى ( فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) (١) ، والامر شرعا على الايجاب ، ولا يجوز أن يوجب ذكر الله فيه الا وقد أوجب الكون فيه. ولان كل من أوجب الذكر فيه أوجب الوقوف به.

فان قالوا : نحمل ذلك على الندب.

قلنا : هو خلاف الظاهر ، ويحتاج إلى دلالة ولا دليل.

فان قيل : هذه الآية تدل على وجوب الذكر وأنتم لا توجبونه وانما توجبون الوقوف به كالوقوف بعرفة.

قلنا : لا يمتنع أن نقول بوجوب الذكر بظاهر هذه الآية.

وبعد ، فان الآية تقتضي وجوب الكون في المكان المخصوص والذكر جميعا ، فإذا دل الدليل على أن الذكر مستحب غير واجب أخرجناه من الظاهر وبقي الاخر يتناوله الظاهر. وتقدير الكلام : فإذا أفضتم من عرفات فكونوا بالمشعر الحرام واذكروا الله فيه.

فان قيل : الكون في المكان يتبع الذكر في وجوب أو استحباب ، لأنه انما يراد له ومن أجله ، فإذا ثبت أن الذكر مستحب فكذلك الكون.

قلنا : لا نسلم أن الكون في ذلك المكان تابع للذكر ، لان الكون به عبادة

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٨.

٢٨٦

مفردة عن الذكر والذكر عبادة أخرى ، فلا يتبع الكون الذكر كما لا يتبع الذكر لله في عرفات الكون في ذلك المكان والوقوف به ، لان الذكر بعرفات مستحب والوقوف بها واجب بلا خلاف. على أن الذكر لو لم يكن واجبا فالشكر لله على نعمه واجب على كل حال ، وقد أمر الله أن يشكر عند المشعر الحرام ، فيجب ان يكون الكون بالمشعر واجبا.

فان قيل : ما أنكرتم من أن يكون المشعر ليس بمحل للشكر وإن كان محلا للذكر وان عطف الشكر على الذكر.

قلنا : الظاهر بخلاف ذلك ، عطف الشكر على الذكر يقتضي تساوى حكمهما في المحل وغيره ، وليس في الآية ذكر الشكر صريحا ، ولكن الذكر الأول على عمومه والذكر الثاني مفسر بالشكر ، لقرينة قوله ( كما هداكم ) فالهداية نعمة واجب الشكر عليها ، لان الشكر على كل نعمة واجب. وعلى هذا لا تكرار مستقبحا في الكلام أيضا.

( فصل )

( ثم ليقضوا تفثهم ) فالتفث مناسك الحج من الوقوف والطواف والسعي ورمي الجمار والحلق بمنى والاحرام من الميقات.

عن ابن عباس التفث جميع المناسك. وقال قوم التفث قشف الاحرام وقضاؤه بحلق الرأس والاغتسال ونحوه. وقال الأزهري في كتاب تهذيب اللغة التفث في كلام العرب لا يعلم الا من قول ابن عباس (١). وقيل التفث الدرن ، ومعنى قوله ( ثم

__________________

(١) نقل الجاحظ في الحيوان ٥ / ٣٧٦ قول أمية بن أبي الصلت :

شاحين آباطهم لمن ينزعوا تفثا

ولم يسلوا لهم قملا وصئبانا

وهذا البيت حجة على من يقول من اللغويين بأن لفظة ( التفث ) لم ترد في كلام العرب ولم يعلم معناها الا من قبل المفسرين.

٢٨٧

ليقضوا تفثهم ) ليزيلوا أدرانهم. وقيل هو الاخذ من الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. وهذا عند الخروج من الاحرام.

وقوله ( وليوفوا نذورهم ) أي يفوا بما نذروا من نحر البدن. وقال مجاهد كل ما نذر في الحج ، فربما نذر الانسان ان رزق حجا ان يتصدق. وإذا كان على الانسان نذر فالأفضل ان يفي به هناك. ولم يقل بنذورهم ، لان المراد بالايفاء الاتمام أي ليتموا نذورهم بقضائها.

وقوله ( وليطوفوا بالبيت ) عام في كل طواف ، وسمي عتيقا لأنه أعتق من أن يملكه جبار (١).

( فصل )

وقوله تعالى ( أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما ) (٢) ظاهره يقتضي تحرم الصيد في حال الاحرام وتحريم ما صاده غيره. ومنهم من فرق بين ما صيد وهو محرم وبين ما صيد قبل احرامه.

وعندنا لا فرق بينهما والكل محرم على المحرم. فأما من لم يكن محرما فيجوز أن يأكل من الصيد الذي ذبح وصيد في غير الحرم وإن كان في الحرم.

والصيد يكون عبارة عن الاصطياد فيكون مصدرا ، ويعبر به عن المصيد فيكون اسما صريحا. ويجب ان يحمل ذكره في الآية على الامرين وتحريم الجميع ، والمعنى أبيح لكم صيد الماء.

وانما أحل بهذه الآية الطري من صيد البحر ، لان العتيق لا خلاف في كونه

__________________

(١) هذا مروى عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام كما في الكافي ٤ / ١٨٩. وقيل لقدمه لأنه أول بيت وضع للناس ، وقيل لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان ـ انظر لسان العرب ( عتق ).

(٢) سورة المائدة : ٩٦.

٢٨٨

حلالا ، و ( طعامه ) أي طعام البحر يريد المملوح ، وهو الذي يليق بمذهبنا. وانما سمي ( طعاما ) لأنه يدخر ليطعم ، فيكون المراد بصيد البحر الطري وبطعامه المملوح ، وقيل المراد بطعامه ما ينبت من الزرع والثمار بحباته.

( باب ذكر المناسك وما يتعلق بها )

قوله تعالى ( وإذا جعلنا البيت مثابة للناس ) (١) أي يثوبون إليه في كل عام ، يعنى ليس هو مرة في الزمان فقط على الناس.

وعن ابن عباس : معناه أنه لا ينصرف عنه أحد وهو يرى أنه قد قضى منه وطرا فهم يعودون إليه.

وعن أبي جعفر عليه‌السلام : يرجعون إليه لا يقضون وطرا.

وحكى الحارثي أن معناه يحجون إليه فيثابون عليه.

وروي أن كل من فرغ من الحج وانصرف وعزم أن لا يعود إليه أبدا مات قبل الحول (٢).

وانما جعل الله أمنا بأن حكم أن من عاذبه والتجأ إليه لا يخاف على نفسه ما دام فيه بما جعله في نفوس العرب من تعظيمه وكان من فيه أمنا ويتخطف الناس من حوله.

ولعظم حرمته أن من جنى جناية فالتجأ إليه لا يقام عليه الحد فيه لكن يضيق عليه في المطعم والمشرب حتى يخرج فيحد ، فان أحدث فيه ما يوجب الحد أقيم فيه الحد ، لأنه هتك حرمة الحرم (٣).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٥٢.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٠٣.

(٣) هذا مأخوذ من حديث مروى عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام ـ انظر الكافي ٤ / ٢٢٦.

٢٨٩

( فصل )

وقوله تعالى ( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ) (١).

قيل فيه أربعة أقوال : قال ابن عباس الحج كله مقام إبراهيم ، وقال عطاء مقام إبراهيم عرفة والمزدلفة والجمار ، وقال مجاهد الحرم كله مقام إبراهيم ، وقال السدى هو الحجر الذي فيه اثر رجلي إبراهيم. وكانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدميه حتى غسلت رأسه ، فوضع إبراهيم عليه رجله وهو راكب ، فغسلت شقه الأيمن ثم رفعته وقد غابت رجله فيه ، فوضعته تحت قدمه اليسرى وغسلت الشق الأيسر من رأسه ، فغابت رجله اليسرى أيضا في الحجر ، فأمر الله بوضع ذلك الحجر قريبا من الحجر الأسود وأن يصلى عنده بعد الطواف. وهو الظاهر في أخبارنا (٢).

وقوله ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا ) (٣) أمرهما الله أن يطهراه من فرث ودم ، كان يطرح المشركون قبل أن صار في يد إبراهيم. وقيل أراد طهراه من الأصنام والأوثان. وقيل طهرا بيتي ببنائكما له على الطهارة ، كقوله ( أفمن أسس بنيانه على تقوى ) (٤).

ومعنى ( الطائفين ) هم الذين أتوه من غربة ، وقيل هم الطائفون بالبيت.

والطائف الدائر.

و ( العاكفين ) قيل إنهم المقيمون بحضرته ، وقيل هم المجاورون ، وقيل

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٥.

(٢) مجمع البيان ١ / ٢٠٣.

(٣) سورة البقرة : ١٢٥.

(٤) سورة التوبة : ١٠٩.

٢٩٠

هم أهل البلد الحرام ، وقيل هم المصلون ، وقيل العاكف المعتكف في المسجد.

و ( الركع السجود ) هم الذين يصلون عند الكعبة ، والطواف للطارئ أحسن ، والصلاة لأهل مكة أفضل.

( فصل )

وقوله تعالى ( وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا ) (١).

قال ابن عباس : كان الحرام أمنا قبل دعوة إبراهيم ، لقول النبي عليه‌السلام حين فتح مكة : هذه حرم حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض (٢).

وقيل : كانت قبل الدعوة ممنوعا من الايتفاك (٣) كما لحق غيرها من البلاد ، فسأل إبراهيم أن يجعلها أمنا من القحط لأنه أسكن أهله بها ، فأجابه الله.

وقال النبي : ان إبراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة (٤).

وقال في سورة إبراهيم ( رب اجعل هذا البلد آمنا ) بتعريف البلد ، لان النكرة إذا أعيدت تعرفت.

سأل ان يديم أمنه من الجدب والخسف.

وقوله ( ربنا اني أسكنت من ذريتي ) (٥) المراد بالذرية إسماعيل أبو العرب وأمه هاجر ، أسكنهما مكة. ومن للتبعيض ، ومفعول أسكنت محذوف.

وقيل لما ان بناه إبراهيم سماه بيتا لأنه كان قبل ذلك بيتا وانما خربته طسم (٦) واندرس.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٦.

(٢) الكافي ٤ / ٢٢٦.

(٣) ايتفكت البلدة بأهلها : أي انقلبت ، نعوذ بالله من سخط الله ـ عن الجوهري ( هـ ج )

(٤) انظر هذا المضمون في الكافي ٤ / ٥٦٤.

(٥) سورة إبراهيم : ٣٧.

(٦) طسم قبيلة من عاد كانوا فانقرضوا ( هـ ج ).

٢٩١

( فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ) (١) هذا سؤال من إبراهيم أن يجعل الله قلوب الخلق تحن إليه ليكون في ذلك منافع ذريته لأنه واد غير ذي زرع.

( فصل )

وقوله ( وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا ) (٢) كان إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجر ، وانما رفعا البيت للعبادة لا للمسكن لقولهما ( تقبل منا ).

وروي أن آدم عليه‌السلام بناه ثم عفى أثره فجدده إبراهيم عليه‌السلام (٣).

والمروي في أخبارنا أن أول من حج آدم ، حج واعتمر ألف مرة على قدميه من الهند (٤).

وقال الباقر عليه‌السلام : ان الله وضع تحت العرش أربعة أساطين وسماه الضراح (٥) ، وهو البيت المعمور ، وقال للملائكة طوفوا به ، ثم بعث ملائكة فقال لهم ابنوا في الأرض بيتا بمثاله وقدره وأمر من في الأرض ان يطوفوا به. وقال : ولما أهبط الله آدم من الجنة قال : اني منزل معك بيتا يطوف (٦). حوله كما يطاف حول عرشي ويصلى عنده كما يصلى عند عرشي ، فلما كان زمن الطوفان رفع ، فكانت الأنبياء يحجونه ولا يعلمون مكانه حتى تواه الله لإبراهيم فأعلمه مكانه ، فبناه من خمسة

__________________

(١) سورة إبراهيم : ٣٧.

(٢) سورة البقرة : ١٢٧.

(٣) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٣٥.

(٤) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٢٢٩ مع اختلاف.

(٥) هو بالضم ، قيل البيت المعمور في السماء الرابعة ، من المضارحة وهي المقابلة والمضارعة ـ مجمع البحرين ٢ / ٣٩١.

(٦) كذا في النسختين والظاهر أن الصحيح ( يطاف ).

٢٩٢

أجبل من حراء وثبير ولبنان وجبل الطور وجبل الحمر ـ وقال الطبري وهو جبل بدمشق.

وقوله تعالى ( وأرنا مناسكنا ) اي متعبدنا. قال الزجاج متعبد منسك. وقيل المناسك هي ما يتقرب بها إلى الله من الهدي والذبح وغير ذلك من أعمال الحج والعمرة. وقيل مناسكنا مذابحنا ، وأرنا من رؤية البصر. وقيل أي أعلمنا.

وقيل أراهما الله الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والإفاضة من عرفات والإفاضة في جمع حتى رمى الجمار ، فأكمل الله له الدين. وهذا أقوى ، لأنه هو العرف الشرعي في معنى المناسك.

وقال ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم ) (١). هي ملة نبينا ، لان ملة إبراهيم داخلة في ملة محمد مع زيادات ههنا.

وقوله ( ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه ) (٢). معناه والامر ذلك ، أي هكذا أمر الحاج المناسك ومن يعظم حرمات الله ، فالتعظيم خير له في الآخرة ، يعنى بأن يترك ما حرمه الله ، والحرمة ما لا يحل انتهاكه.

واختار المفسرون في معنى الحرمات هنا أنها المناسك ، لدلالة ما يتصل بها من الآيات. وقيل هي في الآية ما نهي عنها من الوقوع فيها ، وتعظيمها ترك ملابستها.

وقيل معناها البيت الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام.

( فصل )

وقوله تعالى ( وأحلت لكم الانعام ) أي الإبل والبقر والغنم في حال احرامكم ( الا ما يتلى عليكم من الصيد ) فإنه يحرم على المحل في الحرم إذا صيد في الحرم وعلى المحرم في الحل والحرم ( فاجتنبوا الرجس من الأوثان ) كانوا

__________________

(١) سورة البقرة : ١٣٠.

(٢) سورة الحج : ٣٠.

٢٩٣

يلطخون أصنامهم بدماء قربانهم فسمي ذلك رجسا ( واجتنبوا قول الزور ) (١) اي الكذب ، وهو تلبية المشركين : لبيك لا شريك لك الا شريكا هو لك تملكه وما ملك.

وروى أصحابنا أنه يدخل فيه سائر الأقوال الملهية (٢).

( ذلك ومن يعظم شعائر الله ) (٣) الشعائر مناسك الحج ، والمراد بالمنافع التجارة.

وقوله ( إلى أجل مسمى ) إلى أن يعود من مكة.

وقوله ( ولكل أمة جعلنا منسكا ) (٤). إشارة إلى ما ذكرنا من تفصيل المجمل للمعتمر والحاج.

( باب الذبح والحلق ورمى الجمار )

قال تعالى ( فما استيسر من الهدي ) (٥) قد ذكرنا أن من حج متمتعا فالواجب عليه أن ينحر بدنة أو بقرة أو فحلا من الضأن أو شاة كما تيسر عليه ويسهل ولا يصعب ، فإن لم يجد شيئا منها ووجد ثمنه خلفه عند ثقة حتى يشتري له هديا ويذبحه إلى انقضاء ذي الحجة ، فإن لم يصبه ففي العام المقبل في ذي الحجة.

وقوله تعالى ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب ) قيل الشعائر البدن إذا أسفرت في الحج القارن ، أي أعلمت عليها بأن يشق سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنها هدي. وتعظيمها استسمانها واستحسانها ( لكم فيها منافع إلى أجل مسمى )

__________________

(١) سورة الحج : ٣٠.

(٢) انظر مجمع البيان ٤ / ٨٢ ، وقد جاء أحاديث كثيرة في تفسير البرهان ٣ / ٢٠ – ٩١ قد فسرت قول الزور بالغناء.

(٣) سورة الحج : ٣٢.

(٤) سورة الحج : ٣٤.

(٥) سورة البقرة : ١٩٦.

٢٩٤

منافعها ركوب ظهورها وشرب ألبانها إذا احتيج إليها ، وهو المروي عن أبي جعفر عليه‌السلام (١).

وقال ابن عباس : ذلك ما لم يسم هديا أو بدنا. وقال عطاء : ما لم يقلد ، إلى اجل مسمى إلى أن ينحر.

وقوله ( ثم محلها إلى البيت العتيق ) معناه أن يحل الهدي والبدن الكعبة.

وعند أصحابنا إن كان في العمرة المفردة فمحله مكة قبالة الكعبة بالحزورة ، وإن كان الهدي في الحج فمحله منى.

ثم عاد إلى ذكر الشعائر فقال ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ) (٢) اي وجعلنا البدن صواف لكم فيها عبادة لله بما في سوقها إلى البيت وتقليدها بما ينبئ أنها هدي ثم ينحرها للاكل منها واطعام القانع والمعتر.

( فاذكروا اسم الله عليها صواف ) أمر من الله أن يذكروا اسم الله عليها ، فإذا أقيمت للذبح صافة ـ أي مستمرة في وقوفها على منهاج واحد. والتسمية انما يجب عند نحرها دون حال قيامها.

و ( البدن ) الإبل العظام البدنة بالسمن ، جمع ( بدنة ) (٣) ، وهي إذا نحرت فعندهم يعقل لها يد واحدة (٤) وكانت على ثلاث. وعند أصحابنا يشد يداها إلى إبطيها ويطلق [ رجلاها ، والبقر يشد يداها ورجلاها ويطلق ] (٥) ذنبها ، والغنم تشد ثلاثة أرجل منها ويطلق فرد رجل.

__________________

(١) تفسير البرهان ٣ / ٩١.

(٢) سورة الحج : ٣٦.

(٣) البدن بضم الباء وسكون الدال ، جمع بدنة بفتح الباء والدال ، تقع على الناقة والبقرة والبعير الذكر مما يجوز في الهدى والأضاحي ، سميت بدنة لعظمها ـ انظر لسان العرب ( بدن ).

(٤) الزيادة من ج.

(٥) أي يشد يد واحدة منها بالعقال.

٢٩٥

وقال أبو عبد الله عليه‌السلام : القانع الذي يسأل فيرضى بما أعطي ، والمعتر الذي يعترى رحلك ممن لا يسال (١). وقال : ينبغي لمن ذبح الهدي أن يعطي القانع والمعتر ثلثه ، ويهدي لأصدقائه ثلثه ، ويطعم ثلثه الباقي (٢).

( كذلك سخرناها لكم ) أي مثل ما وصفناه ذللناها لكم حتى لا تمتنع عما تريدون منها من النحر والذبح بخلاف السباع الممتنعة ، ولتنتفعوا بركوبها وحملها ونتاجها نعمة منا عليكم ( لعلكم تشكرون ) ٣ ذلك.

( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ) (٤) أي لن يصعد إلى الله تلكم وانما يصعد إليه التقوى ، وهذا كناية عن القبول ، فان ما يقبله الانسان يقال قدنا له ووصل إليه ، فخاطب الله عباده بما اعتادوه في مخاطباتهم. وكانوا في الجاهلية إذا ذبحوا الهدي استقبلوا الكعبة بالدماء فنضحوها حول البيت قربة إلى الله تعالى.

والمعنى لن يتقبل الله اللحوم ولا الدماء لكن يتقبل التقوى فيها وفى غيرها ، بأن يوجب في مقابلتها الثواب ، ( لتكبروا الله ) تعظموه وتشكروه في حال الا حلال كما يليق به في حال الاحرام. وقيل لتسموا الله على الذباحة.

( ان الله لا يحب كل خوان كفور ) (٥) أي من ذكر اسم غير الله على الذبيحة فهو الجحود لنعم الله.

( فصل )

وقوله تعالى ( ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله ) (٦) قد ذكرنا أن

__________________

(١) الكافي ٤ / ٤٩٩.

(٢) الكافي ٤ / ٤٩٩ بمعناه.

(٣) سورة الحج : ٣٦.

(٤) سورة الحج : ٣٧.

(٥) سورة الحج : ٣٨.

(٦) سورة البقرة : ١٩٦.

٢٩٦

الحاج لا ينبغي أن يحلق رأسه من أول ذي القعدة إلى يوم النحر بمنى ، فحينئذ يلزم الرجال أن يحلقوا رؤوسهم.

قال تعالى ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين ) (١) فان الصرورة تلزمه الحلق وغير الصرورة تجزيه التقصير. ولا يجب على النساء الحلق ويجزيهن التقصير على كل حال.

ومحل الهدي منى إن كان في الحج أو في العمرة التي يتمتع بها إلى الحج يوم النحر ، وإن كان في العمرة المبتولة فمكة. والمعنى لا تحلوا من احرامكم حتى يبلغ الهدي محله وينحر أو يذبح.

( فمن كان منكم مريضا ) أي من مرض منكم مرضا يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة ( أو به أذى من رأسه ) أي تأذى بهوام رأسه أبيح له الحلق بشرط الفدية قبل يوم النحر في ذي القعدة أو في تسع ذي الحجة ، فالأذى المذكور في الآية كلما تأذيت به.

نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة ، فإنه كان قد قمل رأسه ، فأنزل الله فيه ذلك (٢). وهي محمولة على جميع الأذى.

وقوله تعالى ( ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ) فالذي رواه أصحابنا أن من حلق لعذر فالصيام عليه ثلاثة أيام أو الصدقة ستة مساكين ، وروي عشرة مساكين (٣).

والنسك شاة ، وفيه خلاف بين المفسرين.

والمعنى ان تأذى بشئ فحلق لذلك العذر فعليه فدية ، أي بدل وجزاء يقوم مقام ذلك من صيام أو صدقة أو نسك مخير فيها.

__________________

(١) سورة الفتح : ٢٧.

(٢) أسباب النزول للواحدي ص ٣٥ ـ ٣٧.

(٣) تفسير البرهان ١ / ١٩٥.

٢٩٧

وأما رمي الجمار فقوله تعالى ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) (١) يدل عليه باجماع أهل البيت (٢) والعلماء ، أي كلفه مناسك الحج ومن جملتها رمي الجمار ، وعليه المفسرون. يرمي جمرة العقبة يوم النحر سبعة ، وكل يوم من أيام التشريق (٣) الثلاثة إحدى وعشرين حصاة في الجمرات الثلاث يبدأ بالجمرة الأولى فيرمي سبعة ثم كذا في الوسطى ثم في الأخرى.

( باب في ذكر أيام التشريق )

( يكون فيها رمي الجمرات على ما ذكر )

قال الله تعالى ( فإذا قضيتم مناسككم ) (٤) أي إذا أديتموها وفرغتم منها. قال مجاهد هي الذبائح ، وقيل المعنى فإذا قضيتم ما وجب عليكم في متعبداتكم ايقاعه من الذبح والحلق والرمي وغيرها فاذكروا الله فإنه يستحب الدعاء بعد رمي الجمرتين الأوليين. وقيل المراد بالذكر ههنا التكبير أيام منى. وقيل إنه سائر الدعاء في تلك المواطن فإنه أفضل من غيره.

وقوله ( كذكركم آبائكم ) عن أبي جعفر عليه‌السلام انهم في الجاهلية كانوا يجتمعون هناك ويفتخرون بالاباء وبمآثرهم ويبالغون فيه (٥).

__________________

(١) سورة البقرة : ١٢٤.

(٢) في ج ( أهل التفسير ).

(٣) تشريق اللحم تقديده ، ومنه سميت امام التشريق ، وهي ثلاثة أيام بعد النحر ، لان لحوم الأضاحي تشرق فيها أي تنشر في الشمس. ويقال سميت بذلك لقولهم ( أشرق ثبير كيما تغير ) ، حكاه يعقوب. وقال ابن الاعرابي : سميت بذلك لان الهدى لا تنحر حتى تشرق الشمس. والله أعلم ( هـ ج ).

(٤) سورة البقرة : ٢٠٠.

(٥) تفسر البرهان ١ / ٢٠٣.

٢٩٨

وقوله ( أو أشد ذكرا ) بما لله عليكم من النعمة. وانما شبه الا وجب بما هو دونه في الوجوب لأنه خرج على حال لأهل الجاهلية معتادة ان يذكروا آباءهم بأبلغ الذكر. وقيل اذكروا الله كذكر الصبي لامه. والأول أظهر.

ثم بين أن من يسأل هناك فمنهم من يسأل نعيم الدنيا فقط لأنه غير مؤمن بالقيامة ومنهم من يقول ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ) (١) عن الصادق عليه‌السلام : انها السعة في الرزق والمعاش ، وحسن الخلق في الدنيا ، ورضوان الله والجنة في الآخرة (٢).

وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : من أوتي قلبا شاكرا وزوجة صالحة تعينه على أمر دنياه وآخرته فقد أوتي في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة ووقي عذاب النار (٣).

( فصل )

ثم قال تعالى ( واذكروا الله في أيام معدودات ) (٤).

أمر من الله أن يذكروا الله في هذه الأيام ، وهي أيام التشريق ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، والأيام المعلومات عشر ذي الحجة ، وهو قول ابن عباس وجماعة. وقال الفراء : المعلومات أيام التشريق والمعدودات عشر ذي الحجة. [ وفى النهاية نحوه على خلاف ما في كتبه الاخر ] (٥).

والصحيح أن المعدودات هي أيام التشريق لا غير. والدليل عليه قوله ههنا ( فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ) ، والنفر الأول والنفر الثاني لا يكونان الا في أيام التشريق بلا خلاف.

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٠١.

(٢) تفسر البرهان ١ / ٢٠٣.

(٣) الدر المنثور ١ / ٢٣٣.

(٤) سورة البقرة : ٢٠٣.

(٥) الزيادة من م.

٢٩٩

والأيام المعلومات يوصف بها عشر ذي الحجة ويوصف بها أيام التشريق معا. وقد ذكر في تهذيب الأحكام أن الأيام المعلومات هي أيام التشريق ، ويؤكد ذلك بقوله في سورة الحج ( ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام ) (١).

وسميت أيام التشريق معدودات لأنها قلائل ، وهي ثلاثة.

وهذه الآية تدل على وجوب التكبير أو استحبابه ، والذكر المأمور به « الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر ، ولله الحمد ، والحمد لله على ما رزقنا من بهيمة الأنعام ». والأظهر أنها تجب بمنى وتستحب بغير منى.

( فصل )

وقوله تعالى ( فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى ) (٢) المعنى في ذلك الرخصة في جواز النفر في اليوم الثاني من التشريق ، فان أقام إلى النفر الأخير ـ وهو اليوم الثالث من التشريق ـ كان أفضل ، فان نفر في الأول نفر بعد الزوال إلى قبيل الغروب ، فان غربت فليس له أن ينفر إلى اليوم الثالث بعد الرمي وليس للامام أن ينفر في النفر الأول.

وقوله ( فلا اثم عليه ) [ قيل فيه قولان : أحدهما لا اثم عليه ] (٣) لتكفير سيئاته مما كان من حجه المبرور ، وببركته تفضل الله بالمغفرة لذنوبه ، وهو معنى قول ابن مسعود. الثاني قال الحسن : لا اثم عليه في تعجله ولا تأخره ، وانما نفى الاثم لئلا يتوهم ذلك متوهم في التعجيل ، وجاء في التأخير على مزاوجة الكلام ، كما يقول ( ان

__________________

(١) سورة الحج : ٢٨.

(٢) سورة البقرة ٢٠٣.

(٣) الزيادة من ج.

٣٠٠