فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

ويستحب التيمم من ربى الأرض (١) التي تنحدر المياه عنها ، فإنها أطيب من مهابطها ، قال تعالى ( صعيدا طيبا ). وسمي صعيدا لأنه يصعد من الأرض ، والطيب ما لم يعلم فيه نجاسة ، وطيبا اي طاهرا ، وقيل حلالا ، وقيل منبتا دون السبخة التي لا تنبت ، كقوله ( والبلد الطيب يخرج نباته باذن ربه والذي خبث لا يخرج الا نكدا ) (١) والعموم يتناول الكل.

وتسمية التيمم بالطهارة حكم شرعي ، لان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ( جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا ) (٢).

ولا يرفع الحدث بالتيمم ، سواء كان بدلا من الوضوء أو بدلا من الغسل ، وانما يستباح به الصلاة عند ارتفاع التمكن من الطهارتين. ألا ترى أن الجنب إذا تيمم وصلى فإذا تمكن من الماء يجب عليه الاغتسال.

وقال المرضى رضي‌الله‌عنه : يجب في نية التيمم رفع الحدث ليصح الدخول في الصلاة.

( فصل )

وقوله تعالى ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) (٣) ، معناه ما يريد الله فيما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة ومن الغسل من الجنابة والتيمم عند عدم الماء أو تعذر استعماله ليلزمكم في دينكم من ضيق ولا ليفتنكم فيه. ومن الحرج الذي لم يرده الله تعالى بهم ، أن يغتسلوا حين يخافون منه تلف النفس.

__________________

(١) ربى الأرض ، جمع الرابية من الربو ، وهو ما ارتفع من الأرض ـ صحاح اللغة ٦ / ٢٣٤٩.

(٢) سورة الأعراف : ٥٨.

(٣) مستدرك الوسائل : ١ / ١٥٦.

(٤) سورة المائدة : ٦.

٤١

ثم قال ( ولكن يريد ليطهركم ) ، أي لكن يريد الله ليطهركم بما فرض عليكم من الوضوء والغسل من الاحداث والجنابة أن ينظف به أجسامكم من الذنوب ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ( ان الوضوء يكفر ما قبله ) (١).

وقوله ( وليتم نعمته عليكم ) معناه يريد الله مع تطهيركم من ذنوبكم أن يتم نعمته بإباحته لكم التيمم وبطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة مع وجود الماء والتيمم مع عدمه ، لتشكروا الله على نعمه فتستحقوا الثواب إذا قمتم بالواجب في ذلك.

( فصل )

والله تعالى ما جعل علينا في الدين من حرج ، حتى أباح للمتيمم أن يصلى بتيممه صلوات الليل كلها من الفرائض والنوافل ما لم يحدث أو لم يتمكن من استعمال الماء.

ويدل عليه قوله في آية الطهارة أنه أوجب الطهارة على القائم إلى الصلاة إذا وجد الماء ، ثم عطف عليه بالتيمم عند فقد الماء ، والصلاة [ أتم الجنس ، وكأنه قال والطهارة تجزيكم لجنس الصلاة ] (٢) إذا وجدتم الماء وإذا فقدتموه أجزأكم التيمم لجنسها.

ثم كما لا تختص الطهارة بصلاة واحدة فكذلك التيمم.

فان قيل : ان قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة ) يدل على ايجاب الطهور أو التيمم إذا لم يجد الماء على كل قائم إلى الصلاة ، وهذا يقتضى وجوب التيمم لكل صلاة.

قلنا : ظاهر الامر لا يدل على التكرار ولا على الاقتصار ، من فعل مرة واحدة فليس يجب تكرر الطهارة بتكرر القيام إلى الصلاة الا بقرينة ودليل.

__________________

(١) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ٦ / ٣٥.

(٢) الزيادة من ج.

٤٢

على أن السائل يذهب إلى أن الرجل لو قال لامرأته ( أنت طالق إذا دخلت الدار ) فلم يقتض قوله أكثر من مرة واحدة عند من يجيز الطلاق مشروطا ، ولو تكرر دخولها لم يتكرر وقوع الطلاق عليها.

( باب أحكام الطهارة )

( من الآية الثانية التي هي من أمهات الطهارة أيضا )

اما قوله تعالى في سورة النساء ( يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) (١) فقد قيل في هذه الآية نيفا وعشرين حكما سوى التفريعات (٢).

وقالوا في سبب نزول هذه الآية قولان :

أحدهما ـ قال إبراهيم : انها نزلت في قوم من الصحابة أصابهم جراح (٣).

الثاني ـ قالت عائشة : نزلت في جماعة منهم أعوزهم الماء (٤).

وظاهر الخطاب متوجه إلى المؤمنين كلهم بأن لا يقربوا الصلاة وهم سكارى ، ولا يجب قصر الحكم على سببه بلا خلاف.

وقرب يقرب متعد ، يقال قربتك. وقرب يقرب لازم يقال قربت منه.

__________________

(١) سورة النساء : ٤٣.

(٢) أ لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، ب حتى تعلموا ما تقولون لان معناها اقربوها إذا علمتم ما تقولون ، ج ولا جنبا لان المراد لا تقربوها جنبا ، د الا عابري سبيل لان المراد اقربوا مواضع الصلاة عابري سبيل ، هـ حتى تغتسلوا لان معناه اقربوا إذا اغتسلتم. فهذه خمسة احكام خاصة غير مكررة ، وأربعة مكررة في المرضى والمسافرين والمحدثين والملامسين كما ذكرنا فيما تقدم من آية الطهارة ، يو المفهومات من قوله تعالى وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ، وواحد مشترك بين المسافر والمحدث والملامس ـ الخ ولا يقرأ بقية التعليق في الصورة ( هـ ج ).

(٣) لباب النقول ص ٨١.

(٤) أسباب النزول للواحدي ١٠٢.

٤٣

واصل السكر سد مجرى الماء ، فبالسكر تنسد طريق المعرفة (١).

وقوله ( وأنتم سكارى ) جملة منصوبة الموضع على الحال ، والعامل فيه ( تقربوا ) ، وذو الحال ضميره.

وقوله ( جنبا ) انتصب لكونه عطفا عليه ، والمراد به الجمع.

و ( عابري سبيل ) منصوب على الاستثناء.

وقوله ( على سفر ) عطف على ( مرضى ) ، أي مسافرين.

( فصل )

ومعنى الآية : لا تقربوا مكان الصلاة ، أي المساجد للصلاة وغيرها ، كقوله ( وصلوات ) أي مواضعها.

وهذا أولى مما روي أن معناه لا تصلوا وأنتم سكارى (٢) ، لان قوله ( الا عابري سبيل ) يؤكد الأول ، فان العبور انما يكون في المواضع دون الصلاة.

و ( أنتم سكارى ) فيه قولان :

أحدهما : ان المراد به سكر النوم ، روي ذلك عن أبي جعفر الباقر عليه‌السلام (٣).

والثاني : ان المراد به سكر الشراب (٤).

( حتى تعلموا ما تقولون ) اي حتى تميزوا بين الكلام وحتى تحفظوا ما تتلون من القرآن.

وقوله ( ولا جنبا الا عابري سبيل ) فيه قولان أيضا :

__________________

(١) قال ابن فارس : السين والكاف والراء أصل واحد يدل على حيرة ، من ذلك السكر من الشراب ، يقال سكر ( بكسر الكاف ) سكرا ( بسكون الكاف ). معجم مقاييس اللغة ٣ / ٨٩.

(٢) الدرر المنثور ٢ / ١٦٥.

(٣) وعن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. انظر البرهان في تفسير القرآن ١ / ٣٧٠.

(٤) روى ذلك عن الصادق عليه‌السلام معللا أنه قبل تحريم الخمر. انظر البرهان ١ / ٣٧٠.

٤٤

أحدهما : ان معناه لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد وأنتم جنب الا مجتازين (١) ، و ( عابري سبيل ) أي مارين في طريق حتى تغتسلوا من الجنابة.

والثاني : ان المراد به ولا تقربوا الصلاة وأنتم جنب الا ان تكونوا مسافرين فيجوز لكم أداؤها بالتيمم وان لم يرتفع حكم الجنابة ، فان التيمم ـ وان أباح الصلاة ـ لا يرفع الحدث.

والقول الأول أقوى ، لأنه تعالى بين حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء ، فلو حملناه على القول الثاني لكان تكرارا ، وانما أراد تعالى ان يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية ويبين حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

وقوله ( وان كنتم مرضى ) قد بينا انه نزل في أنصاري مريض لم يستطع ان يقوم فيتوضأ (٢).

والمرض الذي يجوز معه التيمم مرض الجراح والكسر والقروح إذا خاف أصحابها من مس الماء ، وقيل هو المرض الذي لا يستطيع معه تناول الماء ، أو لا يكون هناك من يناوله على ما قدمناه. والمروي عن الأئمة عليهم‌السلام جواز التيمم في جميع ذلك لأنه على العموم (٣).

والمراد بقوله ( لمستم ) و ( لامستم ) الجماع ، ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء ، كما بين حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله ( ولا جنبا الا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) ، وبين أيضا حكم المحدث عند عدم الماء بقوله ( أو جاء أحد منكم من الغائط ).

__________________

(١) روى ذلك عن الصادق عليه‌السلام ، مستثنيا المسجد الحرام بمكة ومسجد النبي بالمدينة. انظر البرهان ١ / ٣٧١.

(٢) الدر المنثور ٢ / ١٦٦.

(٣) انظر الأحاديث الواردة في ذلك في وسائل الشيعة ٢ / ٩٦٦ ـ ٩٦٩.

٤٥

( فصل )

يسأل عن قوله تعالى ( لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) فيقال : كيف يجوز نهي السكران في حال السكر مع زوال العقل؟

ويجاب عنه بأجوبة :

أحدها : ان النهي انما ورد عن التعرض للسكر في حال وجوب أداء الصلاة عليهم على التخصيص وان وجب ذلك قبله ، كما قال تعالى بعد ذكر الأشهر الحرم ( فلا تظلموا فيهن أنفسكم ) (١) وان وجب ذلك في غيرها من الأشهر.

والثاني : انه قد يكون سكران من غير أن يخرج من حد نقصان العقل إلى ما لا يحتمل الأمر والنهي.

والثالث : ان النهى انما دل على أن إعادة الصلاة واجبة عليهم ان أدوها في حال السكر [ ولا تصح ] (٢) لو كان الخمر على ثوبه أو بدنه.

وقد سئل أيضا فقيل : إذا كان السكران مكلفا فكيف يجوز أن ينهى عن الصلاة في حال سكره مع أن عمل المسلمين على خلافه؟

وأجيب عنه بجوابين :

أحدهما : انه منسوخ على حد قول من زعم أن قليل الخمر لم يكن شربه حراما بحيث لم يسكر.

والاخر : انهم لم يؤمروا بتركها لكن أمروا بأن يصلوها في بيوتهم ، ونهوا عن الصلاة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في جماعة تعظيما له وتوقيرا للمسجد.

ولا يصح من السكران شئ من العقود ، كالنكاح والبيع والشراء وغير ذلك على بعض الوجوه ، ولا رفعها كالطلاق والعتاق.

__________________

(١) سورة التوبة : ٣٦.

(٢) لا تقرأ في النسختين.

٤٦

فأما ما يلزم به الحدود والقصاص فإنه يلزمه جميع ذلك ، يقطع بالسرقة على كل حال إذا تمت شرائط السرقة. وكذا يحد بالقذف والزنا ، لأنه السبب لذلك ولعموم الآيات المتناولة لذلك على ما نذكره.

( فصل )

على أن من كان مكلفا يلزمه الصلاة على كل حال ، وانما حسن أن ينهى عن الصلاة من على ثوبه أو بدنه نجاسة مع أنه مكلف. والخمر نجس ، فالنهي على هذا متوجه إليه في حال يكون عليه.

ومعنى الآية انه خاطب المؤمنين ولا سكر وقال : ( لا تقربوا الصلاة ) في المستقبل ( وأنتم سكارى ) ، وإذا كان كذلك فيجب ان يكون منعا مما يؤدي إلى السكر. وعلى هذا قال السلف ان الله حرم بهذه الآية المسكر ، ثم حرم القليل والكثير منه في المائدة ، كما ذكر ههنا بعض أحكام الطهارة وبينها في المائدة.

ومعنى ( لا تقربوا الصلاة ) لا تصلوا ، و ( لا تقرب الشئ ) أبلغ في النهي من ( لا تفعله ).

وقد ذكروا ان قوله ( وأنتم سكارى ) جملة من مبتدأ وخبر في موضع الحال ، لأنه لم ينههم عن الصلاة مطلقا ، انما نهاهم عن السكر الذي لا يفهم معه القول ، أي إذا كنتم بهذه الحالة فلا تصلوا ، والمراد تجنبوا الصلاة في هذه الحالة.

وقوله ( حتى تعلموا ما تقولون ) غاية للحال التي نهى عن الصلاة فيها ، فكأنه قال : لكن إذا كنتم من السكر في حالة تعلمون معه معنى ما تقرأون في صلاتكم أو لفظه فصلوا.

وقد بينا ان قوله ( ولا جنبا ) انما نصب على الحال عطفا على محل ( وأنتم سكارى ) ، أي لا تقربوا مواضع الصلاة من المساجد لا مجتازين في حال السكر

٤٧

ولا مجتازين في حال الجنابة ، وهو قول أبى جعفر عليه‌السلام (١) ، وحذف لدلالة الكلام عليه. وهو الأقوى ، لأنه تعالى بين حكم الجنابة في آخر هذه الآية إذا عدم الماء ، فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا. وانما أراد أن يبين حكم الجنب في دخول المساجد في أول الآية ، وحكمه إذا أراد الصلاة مع عدم الماء في آخرها.

وبهذه الآية وبالآية التي تقدم ذكرها من المائدة يستدل على تحريم الخمسة الأشياء على الجنب على ما ذكرناه.

( فصل )

وقوله ( أو لمستم ) المراد بالقراءتين في الآيتين الجماع (٢) ، واختاره أبو حنيفة أيضا. ألا ترى إلى قوله ( ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم ) (٣) خصص باليد لئلا يلتبس بالوجه الاخر.

وكل موضع ذكر الله تعالى المماسة أراد به الجماع ، كقوله ( من قبل ان يتماسا ) (٤) ، وكذلك الملامسة.

وقال بعضهم : من قرأ بلا الف أراد اللمس باليد وغيرها مما دون الجماع ، واختاره الشافعي. والصحيح هو الأول.

وعن ابن عباس : إذا حمل ( عابري سبيل ) على المسافرين كان تكرارا ، فيجب أن يحمل على الاجتياز بالمساجد إلى الاغتسال إذا لم يتوصل إلى الماء الا به.

وقال عبد الله والحسن : يمر به إلى الماء ولا يجلس فيه.

وقيل : ان ما توهموه من التكرير غير صحيح ، لان المكرر إذا علق به حكم

__________________

(١) انظر فيما سبق ص ٤٥.

(٢) يريد بالقراءتين ( أو لمستم ) و ( أو لامستم ).

(٣) سورة الأنعام : ٧.

(٤) سورة المجادلة : ٣.

٤٨

آخر لم يفهم من الأول كان حسنا ، وقد ذكر معه التيمم ، فلم يكن تكريرا معيبا.

والأول أولى.

وقال قوم : ان في التيمم جائزا ان يضرب باليدين على الرمل فيمسح به وجهه وان لم يعلق بها شئ ، وبه نقول.

والشافعي يوجب التيمم لكل صلاة (١) ويرويه عن علي عليه‌السلام ، وذلك عندنا محمول على الندب.

وقوله ( يا أيها الذين آمنوا ) يدخل تحته النساء أيضا ، لأنه لا خلاف إذا اجتمع المذكر والمؤنث يغلب المذكر.

وقوله ( ان المسلمين والمسلمات ) (٢) الآية ، انما ذكر إزالة للشبهة ، فان أم سلمة قالت : يا رسول الله الرجال يذكرون في القرآن ولا تذكر النساء ، فنزلت الآية (٣).

( فصل )

والجنب لا يجوز ان يمس القرآن ، وهو المكتوب في الكتاب أو اللوح ، لقوله تعالى ( لا يمسه الا المطهرون ) (٤) ، وكذا كل من يجب عليه غسل واجب.

والضمير في ( لا يمسه ) يرجع إلى القرآن لا إلى الدفتر ، لقوله ( تنزيل من

__________________

(١) وقال مالك لا يصلى صلاتي فرض بتيمم واحد ، ولا يصلى الفرض بتيمم النافلة ، ويصلى النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض. وقال شريك بن عبد الله يتيمم لكل صلاة فرض ويصلى الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد ـ انظر احكام القرآن للجصاص ٤ / ٢١.

(٢) سورة الأحزاب : ٣٥.

(٣) أسباب النزول للواحدي ٢٤٠ ونسب سبب نزول الآية إلى أسماء بنت عميس ونساء من المسلمات ، لباب النقول ٢٢٥ ونسب سبب نزول الآية إلى أم عمارة الأنصارية ونساء المسلمات.

(٤) سورة الواقعة : ٧٩.

٤٩

رب العالمين ) (١) ، حظر الله مس القرآن مع ارتفاع الطهارة.

فان قيل : هذا يلزمكم أن لا تجوزوا على من ليس على الطهارة الصغرى أيضا ان يمس القرآن.

قلنا : وكذلك نقول ، وانما يجوز له ان يمس حواشي المصحف ، وأما نفس المكتوب فلا يجوز.

وكذلك لا يمس كتابة شئ عليه اسم الله أو أسماء أنبيائه وأسماء أئمته عليهم السلام.

ويجوز للجنب والحائض أن يقرءا من القرآن ما شاءا الا عزائم السجود الأربع (٢) والدليل عليه ـ زائدا على اجماع الفرقة ـ قوله ( فاقرأوا ما تيسر من القرآن ) (٣).

فأما الحديث ( ما كان يحجب رسول الله عن قراءة القرآن الا الجنابة ) (٤) فهو الكراهة.

وظاهر عموم ذلك يقتضى حال الجنابة وغيرها. فان ألزمنا قراءة السجدات ، قلنا أخرجناها بدليل ، وهو اجماع الطائفة واخبارهم.

ويمكن ان يكون هذا الفرق بين عزائم السجود وغيرها ، ان فيها سجودا واجبا ، والسجود لا يكون الا على طهر ـ ذكره بعض أصحابنا.

وهذا ضعيف ، لان العلة لو كان ذلك لما تجاوز موضع السجود. الا ان يقال : النهي عن قراءة تلك السور الأربع لحرمتها الزائدة على غيرها ، والنهى الوارد في الأحاديث بقراءة القرآن للجنب ، ففي السور الأربع على الحظر وفيما عداها على الكراهة.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٨٠.

(٢) أي السور الأربع التي فيها آية السجود والتي يجب السجدة لقراءتها ، وهي : سورة السجدة التي بعد سورة لقمان ، وسورة حم السجدة. وسورة النجم ، وسورة اقرأ. وانظر الأحاديث في ذلك في الوسائل ١ / ٤٩٤ ـ ٤٩٥.

(٣) سورة المزمل : ٢٠.

(٤) المعجم المفهرس لألفاظ الحديث ١ / ٤٢٣.

٥٠

( باب الحيض والاستحاضة والنفاس )

قال الله تعالى ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) (١).

وسبب نزول هذه الآية انهم كانوا في الجاهلية يجتنبون مؤاكلة الحائض ومشاربتها حتى كانوا لا يجالسونها في بيت واحد ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك واستعلموا ذلك أو أجب هو أم لا؟ فنزلت الآية (٢).

وقيل : كانوا يستجيزون اتيان النساء في أدبارهن أيام الحيض ، فلما سألوا عنه بين تحريمه (٣). والأول أقوى.

وقالوا : ان في هذه الآية خمسة عشر حكما (٤) ، وزاد بعضهم.

والمحيض والحيض مصدر حاضت المرأة. والمحيض في الآية تصلح للمصدر والزمان ، فتقدير المصدر يسألونك عن حيض المرأة ما حكمه من المجامعة وغيرها وتقدير الزمان يسألونك عن حال المرأة وقت الحيض ما حكمها في مجامعة الرجل

__________________

(١) سورة البقرة : ٢٢٢.

(٢) أسباب النزول للواحدي ص ٤٦.

(٣) أسباب النزول للواحدي ص ٤٦.

(٤) وهي هذه : يسألونك عن المحيض الآية يدل على وجوب السؤال عن الشرعيات ، ب قل لأنه يدل على وجوب البيان ، ج هو أذى ، د فاعتزلوا النساء في المحيض أي في الفرج ، ه تحليل ما دون الفرج لئلا يضيع القيد ، وتحليل مجالستها ، ز تحليل مؤكلتها ، ح تحليل مشاربتها وهي كلها مفهومة من قوله في المحيض. ط انتهاء تحريم القرب عند التطهير بقوله فلا تقربوهن حتى يطهرن ، ى وجوب التطهير بقوله يطهرن ، يا فإذا تطهرن فأتوهن فإنه إباحة للاتيان عند الطهارة ، يب وجوب الاتيان على الوجه المأمور به ، يج دلالة امركم الله على تقدم الاعلام منه تعالى حكم المأتى ، يد ان الله يحب التوابين ، يه يجب المتطهرين. فهذا هو الذي أدركه الفهم والله أعلم بمراده ( هـ ج ).

٥١

إياها. والسائل أبو الدحداح فيما روي (١).

وصفة الحيض هو الدم الغليظ الأسود الذي يخرج بحرارة على الأغلب.

وأقل الحيض ثلاثة أيام متواليات ، ولا يعتبر التوالي فيها بعض أصحابنا إذا لم يكن بين بعض الأيام الثلاثة وبين بعض عشرة أيام. وكلاهما على الاطلاق غير صحيح ، لان غير التتابع في ثلاثة الأيام انما يكون في الحبلى لم يستبن حملها ، والتتابع لمن عداها على ما ذكره في الاستبصار (٢).

وأكثر الحيض عشرة أيام ، وعليه أهل العراق والحسن.

وأقل الطهر عشرة أيام ، وخالف الجميع وقالوا خمسة عشر.

وأما المستحاضة فهي المرأة التي غلبها الدم فلا يرقأ ، والسين ههنا للصيرورة ، أي صارت كالحائض.

والاستحاضة دم رقيق أصفر بارد على الأغلب ، وهي بحكم الطاهر إذا فعلت ما عليها.

وقال قوم : تغتسل مرة ثم تتوضأ لكل صلاة. وقال قوم : تغتسل عند كل صلاة.

وعندنا لها ثلاثة أحوال : ان رأت الدم لا يظهر على القطنة فعليها تجديد الوضوء لكل صلاة [ وان ظهر الدم على القطنة ولا يسيل فعليها غسل لصلاة الغداة وتجديد الوضوء لباقي الصلوات ] (٣) وان ظهر الدم عليها وسال فعليها ثلاثة أغسال عند الغداة والظهر والمغرب.

وحكم النفاس حكم الحيض الا في الأقل ، فليس حد لأقل النفاس.

وهذا يعلم بالاجماع والسنة تفصيلا ، وبالكتاب جملة ، قال تعالى ( ما آتاكم الرسول فخذوه ).

__________________

(١) في الدر المنثور ١ / ٢٥٨ : سأل عن ذلك ثابت بن الدحدح. وأبو الدحداح كنية له ـ انظر الإصابة ١ / ١٩٣.

(٢) الاستبصار ١ / ١٣٢.

(٣) الزيادة من م.

٥٢

( فصل )

وقوله ( قل هو أذى ) معناه قذر ونجاسة ، وقيل قل يا محمد هو دم ومرض ، وقيل هو أذى لهن وعليهن لما فيه من المشقة.

( فاعتزلوا النساء في المحيض ) أي اجتنبوا مجامعتهن في الفرج ، عن ابن عباس وعائشة والحسن وقتادة ومجاهد ، وهو قول الشيباني محمد بن الحسن ، ويوافق مذهبنا.

وقيل إنه لا يحرم منها غير موضع الدم فقط ، وقيل يحرم ما دون الإزار ويحل ما فوقه ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.

والاعتزال التنحي عن الشئ.

وقيل معنى ( أذى ) أي ذو أذى ، أي يتأذى به المجامع بنفور طبعه عما يشاهد ، فلا تلزموا أنفسكم منه أكثر من ترك مجامعتهن في ذلك الموضع ، لان من العرب من كان يتجنب المرأة كلها تقبيلها وان يماس بدنها ، فأبطل الله هذا الاعتقاد وبين أنه أذى فقط ، أي يستقذر المجامع دم الحيض ، وانه كلفة عليهن في التكليف.

ولو قال ( فاعتزلوا النساء فيه ) لكان كافيا ، وانما ذكر في المحيض ايضاحا وتوكيدا وتفخيما ، ولذلك قالا ( ولا تقربوهن ) بعد أن قال ( اعتزلوا النساء ) لما وصله به من ذكر الغاية التي أمر باعتزالهن ، وهو قوله ( حتى يطهرن ).

( فصل )

ومعنى لا تقربوهن ) أي لا تقربوا مجامعتهن في موضع الحيض ، الا أن اللفظ عام والمعنى خاص ، لان العلماء مجمعون على جواز قضاء الوطر منها فيما

٥٣

بين الفخذين والأليتين وأي موضع أراد من جسدها. وانما اختلفوا في الدبر فمنع منه الجمهور واجازه مالك بن انس وعزاه إلى نافع عن ابن عمر (١).

وكل من أنكر ذلك قال : ان الله سماهن ( حرثا ) ، وليس الدبر موضع الحرث.

وهذا ليس بسداد ، لأنهم يجوزون في غير القبل وان لم يكن موضع حرث.

فالجواب الصحيح : ان العلماء اجمعوا على جواز هذا ولم يجمعوا على جواز ذلك فافترق الأمران.

فمباشرة الحائض على ثلاثة أضرب : محرم بلا خلاف ، ومباح بلا خلاف ، ومختلف فيه.

فالمحظور بلا خلاف وطؤها في الفرج ، لقوله ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) ، فان خالف وفعل فقد عصى الله وعليه الكفارة.

وأما المباح فما عدا ما بين السرة والركبة في أي موضع شاء من بدنها.

والمختلف فيه ما بين السرة والركبة غير الفرج ، والظاهر أن هذا أيضا مباح.

والآية دالة على وجوب اعتزال المرأة والتباعد منهن في حال الحيض على ما ذكرناه ، وفيها ذكر غاية التحريم ، ويشمل ذلك على فصول : أحدها : ذكر الحيض وأقله وأكثره ، وفد فصلناه.

وثانيها : حكم الوطي في حال الحيض ، فان عندنا الكفارة عليه ، إن كان في أوله دينار وفى وسطه نصف دينار وفى آخره ربع دينار. وقال ابن عباس عليه دينار ولم يفصل. وأول الحيض وآخره مبني على أكثر أيام الحيض وهي عشرة أيام دون عادة المرأة.

وثالثها : غاية تحريم الوطي ، وسيجئ ذكرها.

وقال المرتضى : من وطئ جاريته في حيضها فعليه أن يتصدق. والدليل عليه : انا قد علمنا أن الصدقة بر وقربة وطاعة لله تعالى ، فهي داخلة تحت قوله ( وافعلوا

__________________

(١) الدر المنثور ١ / ٢٦٣.

٥٤

الخير ) ، وأمره بالطاعة مما لا يحصى بالكتاب ، وظاهر الامر يقتضى الايجاب في الشريعة ، فينبغي أن تكون الصدقة واجبة. ويثبت له حكم الندب بدليل قاد إلى ذلك ، ولا دليل ههنا يوجب العدول عن الظواهر.

فأنعم النظر كيف ألزم القوم الذين خالفوه من طريقهم.

( فصل )

وقوله ( حتى يطهرن ) بالتخفيف معناه حتى ينقطع الدم عنهن ، وبالتشديد معناه حتى يغتسلن ، وقال مجاهد وطاوس معنى ( يطهرن ) بتشديد يتوضأن ، وهو مذهبنا. وأصله يتطهرن فأدغم التاء في الطاء.

وعندنا يجوز وطئ المرأة إذا انقطع دمها وطهرت وان لم تغتسل إذا غسلت فرجها. وفيه خلاف :

فمن قال : لا يجوز وطؤها الا بعد الطهر من الدم والاغتسال. تعلق بالقراءة بالتشديد ، وانها تفيد الاغتسال.

ومن جوز وطؤها بعد الطهر من الدم قبل الاغتسال تعلق بالقراءة بالتخفيف ، وهو الصحيح ، لأنه يمكن في قراءة التشديد أن يحمل على أن المراد به يتوضأن على ما حكيناه عن طاوس وغيره ، ومن عمل بالقراءة بالتشديد يحتاج ان يحذف القراءة بالتخفيف أو يقدر محذوفا ، بأن يقول : تقديره حتى يطهر ويتطهرن.

وعلى مذهبنا لا يحتاج إلى ذلك ، لأنا نعمل بالقراءتين ، فانا نقول : يجوز وطئ الرجل زوجته إذا طهرت من دم الحيض وان لم تغتسل متى مست به الحاجة.

والمستحب ان لا يقربها الا بعد التطهير والاغتسال.

والقراءتان إذا صحتا كانتا كآيتين يجب العمل بموجبهما إذا لم يكن نسخ.

ومما يدل على استباحة وطئها إذا طهرت وان لم تغتسل ، قوله ( والذين هم

٥٥

لفروجهم حافظون * الا على أزواجهم ) (١).

وقوله ( فأتوا حرثكم أنى شئتم ) ، قال المفسرون : ان اليهود قالوا من أتى زوجته من خلفها في قبلها يكون الولد أحولا ، فكذبهم الله وأباح ما حظروه (٢) ، فعموم هذه الظواهر يتناول موضع الخلاف ، ويقطع كل اعتراض عليه قوله ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) ، إذ لا شبهة في أن المراد بذلك انقطاع الدم دون الاغتسال ، لان ( طهرت المرأة ) في الشرع بخلاف ( طمثت ) وإن كان في الأصل هو ضد النجاسة ، يقال طهرت المرأة فهي طاهرة إذا لم يكن عليها نجاسة ، وطهرت فهي طاهر إذا لم تكن حائضا.

والخطاب إذا ورد من الحكيم ويكون فيه وضع اللغة وعرف الشرع يجب حمله على العرف الشرعي إذا كان واردا لحكم من أحكام الشرع. ولان جعله تعالى انقطاع الدم غاية يقتضي أن ما بعده بخلافه ، فالحيض كما ذكر الله تعالى مانع وليس وجوب الاغتسال مانعا.

وطهرت بالفتح أقيس لقولهم طاهر ، كقولهم قعد فهو قاعد. ومن حيث الطبيعة طهرت أولى في المعنى.

والقراءة بالتشديد : لابد أن يكون المراد بها الطهارة ، فإن كان المعنى التوضؤ  ـ كما ذكرنا ـ فلا كلام ، وإن كان الاغتسال فنحمله على الاستحباب.

( فصل )

وقوله ( فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ) أي إذا اغتسلن ، وقيل إذا توضأن ، وقيل إذا غسلن الفرج.

__________________

(١) سورة المؤمنون : ٥.

(٢) الدر المنثور ١ / ٢٦١ ، البرهان ١ / ٢١٦.

٥٦

( فأتوهن ) أي فجامعوهن ، وهو إباحة كقوله ( وإذا حللتم فاصطادوا ) (١) وكقوله ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله ) (٢).

وأما قوله ( من حيث أمركم الله ) [ فمعناه من حيث امركم الله ] (٣) بتجنيبه في حال الحيض ، وهو الفرج ، وقيل من قبل الطهر دون الحيض. وقال محمد بن الحنفية : أي من قبل النكاح دون الفجور.

والأول أليق بالظاهر ، وإن كان العموم يحتمل جميع ذلك. وكذا يحتمل أن يكون المراد من حيث أباح الله لكم دون ما حرمه عليكم من اتيانها وهي صائمة واجبا أو محرمة أو معتكفة ـ على بعض الوجوه ذكره الزجاج ، والعموم يشمل الجميع.

فغاية تحريم الوطئ مختلف فيها : منهم من جعل الغاية انقطاع الدم حسب ما قدمناه ، ومنهم من قال إذا توضأت أو غسلت فرجها حل وطؤها وإن كان الأولى أن لا يقربها الا بعد الغسل وهو مذهبنا ، ومنهم من قال إذا انقطع دمها واغتسلت حل وطؤها عن الشافعي ، ومنهم من قال إذا كان حيضها عشرا فنفس انقطاع الدم يحللها للزوج وإن كان دون العشر فلا يحل وطؤها الا بعد الغسل أو التيمم أو مضي وقت صلاة عليها عن أبي حنيفة.

( فصل )

وقوله ( ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ، قال عطاء المتطهرين بالماء ، وقال مجاهد المتطهرين من الذنوب ، والأول مروي في سبب نزول هذه الآية (٤) ، والعموم يتناول الامرين.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) سورة النساء : ١٠٣.

(٣) الزيادة من ج.

(٤) الدر المنثور ٢ / ٢٦١.

٥٧

وانما قال ( المتطهرين ) ولم يذكر المتطهرات لان المذكر والمؤنث إذا اجتمعا فالغلبة للمذكر ، كما قدمناه في قوله ( يا أيها الذين آمنوا ).

وقيل ( التوابين ) من الذنوب و ( المتطهرين ) بالماء.

ولو قلنا المراد به الرجال دون النساء ـ لان الخطاب بالامر والنهى معهم دونهن لقوله ( فاعتزلوا النساء في المحيض ) و ( لا تقربوهن ) ـ لكان أولى ولم يحتج إلى عذر.

ويستدل بهذه الآية أيضا على استحباب غسل التوبة ، وكذا على ما ذكرناه من أنهن لا يقربن الا بعد الاغتسال.

( باب احكام المياه )

قال الله تعالى ( وأنزلنا من السماء ماءا طهورا ) (١) ، أي طاهرا مطهرا مزيلا للاحداث والنجاسات مع طهارته في نفسه.

ووصف الله الماء بكونه طهورا مطلقا يدل على أن الطهورية صفة أصلية للماء ثابتة له قبل الاستعمال ، بخلاف قولهم ضارب وشاتم ومتكلم ، لأنه انما يوصف به بعد ضربه وشتمه وكلامه ، ولذلك لا يجوز إزالة النجاسة بمايع سوى الماء.

وكذا لا يجوز الوضوء به والغسل (٢) لأنه تعالى نقل الحكم من الماء المطلق إلى التيمم ، ومعناه أنه أوجب التيمم على من لم يجد الماء ، وهذا غير واجد للماء ، لان المايع ليس بماء لأنه لا يسمى ماءا.

وأيضا فقوله ( فتيمموا ) الفاء فيه يوجب التعقيب بلا خلاف.

ووجه الدلالة أن الله تعالى قال ( وأنزلنا من السماء ماء طهورا ) ، فأطلق

__________________

(١) سورة الفرقان : ٤٨.

(٢) أي بمايع سوى الماء.

٥٨

على ما وقع عليه اسم الماء ، فإنه طهور سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض عذبا كان أو مالحا باردا أو مسخنا واقفا أو جاريا ماء البحر أو البر أو البئر أو العين.

وقال ابن بابويه : أصل جميع الماء من السماء لقوله ( وأنزلنا من السماء ماءا طهورا (١) ) ، والطهور هو المطهر في اللغة ، فيجب أن يعتبر كلما يقع عليه اسم الماء بأنه طاهر ومطهر الا ما قام الدليل على تغير حكمه أو انه غير مطهر وإن كان طاهرا لكونه مضافا.

( فصل )

فان قيل : ( الطهور ) لا يفيد في لغة العرب كونه مطهرا.

قلنا : هذا خلاف على أهل اللغة ، لأنهم لا يفرقون بين قول القائل ( هذا ماء طهور ) و ( هذا ماء مطهر ) ، بل الطهور أبلغ. وأيضا وجدنا العرب تقول ( ماء طهور ) و ( تراب طهور ) ولا يقولون ( ثوب طهور ) ولا ( خل طهور ) لان التطهير ليس في شئ من ذلك ، فثبت ان الطهور هو المطهر.

فان قيل : كيف يكون الطهور هو المطهر واسم الفاعل منه غير متعد.

قلنا : هذا كلام من لم يفهم معاني الألفاظ العربية ، وذلك أنه لا خلاف بين أهل النحو أن اسم الفعول موضوع للمبالغة وتكرر الصفة ، فإنهم يقولون ( فلان ضارب ) ، فإذا تكرر منه ذلك وكثر قالوا ( ضروب ) ، وإذا كان كون الماء طاهرا ليس مما يتكرر ولا يتزايد فينبغي ان يعتبر في اطلاق الطهور عليه غير ذلك وليس بعد ذلك الا أنه مطهر ، ولو حملناه على ما حملنا عليه لفظة طاهر لم يكن فيه زيادة فائدة.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٥

٥٩

( فصل )

ويدل عليه أيضا قوله تعالى ( وينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به (١) ) ، فكل ما وقع عليه اسم الماء المطلق يجب أن يكون مطهرا بظاهر اللفظ الا ما خرج بالدليل.

وقوله ( ماءا ) يعني مطهرا وغيثا.

وقوله ( ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان (٢) ). قال ابن عباس : معناه يذهب عنكم وسوسة الشيطان (٣) ، فان الكفار غلبوكم على الماء حتى تصلوا أنتم مجنبون ، وذلك أن يوم بدر وسوس الشيطان إلى المسلمين وكان الكفار نزلوا على الماء ، فقال لعنه الله : تزعمون أيها المسلمون انكم على دين الله وأنتم على غير الماء وعدوكم على الماء. فأرسل الله عليهم المطر فشربوا واغتسلوا وأذهب به وسوسة الشيطان ، وكانوا على رمل تغوص فيه الاقدام ، فشده المطر حتى ثبتت عليه الأرجل وهو قوله ( ويثبت به الاقدام ) (٤). والهاء في ( به ) راجعة إلى الماء (٥).

وقد أطبق المفسرون على أن ( رجز الشيطان ) في الآية المراد به اثر الاحتلام فان المسلمين كان أكثرهم احتلموا ليلتهم ، فأنزل الله المطر وطهرهم به.

والتطهير لا يطلق في الشرع الا بإزالة النجاسة أو غسل الأعضاء الأربعة ، وقد أطلق الله عليه اسم التطهير. وقال الجبائي : انما ذكر ( الرجز ) وكنى به عن الاحتلام لأنه بوسوسة الشيطان.

__________________

(١) سورة الأنفال : ١١.

(٢) سورة الأنفال : ١١.

(٣) تنوير المقباس ص ١١٤.

(٤) الدر المنثور ٣ / ١٧١.

(٥) التبيان ٥ / ٨٦.

٦٠