فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

حصول اللبس فلا يجوز ، ولا يلتبس على أحد أن ( خرب ) صفة جحر لا ضب ، وليس كذلك في الآية ، لان الأرجل يمكن أن تكون ممسوحة ومغسولة ، فالاشتباه حاصل هنا ومرتفع هناك.

وأما قوله ( وحور عين ) (١) ـ في قراءة من جرهما ـ فليس بمجرور على المجاورة ، بل يحتمل أمرين :

أحدهما : أن يكون عطفا على قوله ( يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق * وكأس من معين ) (٢) إلى قوله ( وحور عين ) ، فهو عطف على أكواب.

وقولهم انه لا يطاف الا بالكأس ، غير مسلم ، بل لا يمتنع أن يطاف بالحور العين كما يطاف بالكأس ، وقد ذكر في جملة ما يطاف به الفاكهة واللحم.

والثاني : انه لما قال ( أولئك المقربون * في جنات نعيم ) (٣) عطف بقوله ( وحور عين ) على ( جنات النعيم ) ، فكأنه قال هم في جنات النعيم وفى مقاربة أو معاشرة حور عين ـ ذكره أبو علي الفارسي (٤).

ومن قال القراءة بالجر يقتضي المسح على الخفين. فقوله باطل ، لان الخف لا يسمى رجلا في لغة ولا شرع ، والله أمر بايقاع الفرض على ما يسمى رجلا على الحقيقة.

( فصل )

وان قيل في القراءة بالنصب في ( أرجلكم ) : هي معطوفة على قوله ( وأيديكم ) في الجملة الأولة.

__________________

(١) سورة الواقعة : ٢٢.

(٢) سورة الواقعة : ١٧ ـ ١٨.

(٣) سورة الواقعة : ١٢ ـ ١٣.

(٤) انظر التبيان ٣ / ٤٥٤.

٢١

فيقال : ان هذا غير صحيح ، لأنه لا يجوز ان يقول القائل ( اضرب زيدا وعمرا وأكرم بكرا وخالدا ) ، ويريد بنصب خالدا العطف على زيدا وعمرا المضروبين لان ذلك خروج عن فصاحة الكلام ودخول في معنى اللغز ، فان أكرم المأمور خالدا فيكون ممتثلا لامره معذورا عند العقلاء ، وان ضربه كان ملوما عندهم. وهذا مما لا محيص عنه.

على أن الكلام متى حصل فيه عاملان ـ قريب وبعيد ـ لا يجوز اعمال البعيد دون القريب مع صحة حمله عليه. وبمثله ورد القرآن وفصيح الشعر : قال تعالى ( وانهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ) (١) ، ولو أعمل الأول لقال ( كما ظننتموه ). وقال ( آتوني أفرغ عليه قطرا ) (٢) ، ولو أعمل الأول لقال ( أفرغه ).

وقال ( هاؤم اقرأوا كتابيه ) (٣) ، ولو اعمل الأول لقال ( هاؤم اقرأوه ) ، واليه ذهب البصريون.

فأما من يختار اعمال الأول من الكوفيين فإنه لا يجيز ذلك في مثل الموضع الذي نحن فيه ، وليس قوى امرئ القيس :

فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

من قبيل ما نحن بصدده ، إذ لم يوجه فيه الفعل [ الثاني ] (٤) إلى ما وجه إليه الأول ، وانما اعمل الأول لأنه لم يجعل القليل مطلوبا ، وانما كان المطلوب عنده الملك وجعل القليل كافيا ، ولو لم يرد هذا ونصب لفسد المعنى. وعلى هذا يعمل الأقرب أبدا ، أنشد سيبويه قول طفيل :

* جرى فوقها فاستشعرت لون مذهب * (٥)

__________________

(١) سورة الجن : ٧.

(٢) سورة الكهف : ٩٦.

(٣) سورة الحاقة : ١٩.

(٤) الزيادة من ج.

(٥) من بيت لطفيل بن عوف بن ضبيس الغنوي ، وصدره ( وكمتا مدماة كأن متونها ).

٢٢

وقال كثير :

قضى كل ذي دين فوفى غريمه

وعزة ممطول معنى غريمها

ولو اعمل الأول لقال ( فوفاه غريمه ) ، والاستدلال بقوله ( ممطول معنى غريمها ) أولى ، لان قوله ( عزة ) مبتدأ و ( ممطول ) خبره و ( معنى ) كذلك ، وكل واحد منهما فعل للغريم ، فلا يجوز رفعه بممطول ، فيبقى ( معنى ) وقد جرى خبرا على عزة ، وهو فعل لغيرها ، فيجب ابراز ضميره.

فأما من قال : ان قوله ( وأرجلكم ) منصوبة بتقدير واغسلوا أرجلكم كما قال :

متقلدا سيفا ورمحا

وعلفتها تبنا وماءا باردا

فقد أخطأ أيضا ، لان ذلك انما يجوز إذا استحال حمله على ما في اللفظ ، فأما إذا جاز حمله على ما في اللفظ فلا يجوز هذا التقدير.

( فصل )

وقد ذكرنا من قبل ان قوله ( وأرجلكم ) بالنصب معطوف على موضع ( برؤوسكم ) لان موضعها النصب ، والعطف على الموضع جائز حسن كما يجوز على اللفظ ، لا فرق بينهما عند العرب في الحسن ، لأنهم يقولون ( لست بقائم ولا قاعدا ) أو ( لا قاعد ) و ( ان زيدا في الدار وعمرو ) ، فرفع عمرو بالعطف على الموضع ، كما نصب قاعدا لأنه معطوف على محل بقائم. قال الشاعر :

معاوي اننا بشر فأسجح

فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١)

مقدرا لكل شبهة.

وصح أن الحكم في الآية المسح في الرجلين ، وقد تقل الشبهة في القراءة

__________________

(١) البيت لعقبة بن هبيرة الأسدي.

٢٣

بالجر على ما قدمناه.

ومن قال يجب غسل الرجلين لأنهما محدودتان كاليدين. فقوله ليس بصحيح لأنا لا نسلم أن العلة في كون اليدين مغسولتين كونهما محدودتين ، وانما وجب غسلهما لأنهما عطفتا على عضو مغسول وهو الوجه ، وكذلك إذا عطف الرجلان على ممسوح وهو الرأس وجب أن يكونا ممسوحتين ، والفصاحة فيما قال الله في الجملتين ذكر معطوفا ومعطوفا عليه أحدهما محدود والاخر غير محدود فيهما.

وروي أن الحسن قرأ ( وأرجلكم ) بالرفع. فان صحت هذه القراءة فالوجه أنه الابتداء وخبره مضمر ، أي وأرجلكم ممسوحة ، كما يقال ( أكرمت زيدا وأخوه ) [ اي وأخوه (١) ] أكرمته ، فأضمره على شريطة التفسير واستغنى بذكره مرة أخرى ، إذا كان في الكلام الذي يليه ما يدل عليه وكان فيما أبقى دليل على ما ألقى ، فكأن هذه القراءة ـ وان كانت شاذة ـ إشارة إلى أن مسح الرأس [ ببقية النداوة من مسح الرأس ] (١) كما هو.

ويدل أيضا على وجوب الموالاة لان الواو إذا واو الحال في قوله ( وأرجلكم ) بالرفع.

( فصل )

وهذه الآية تدل على أن من غسل وجهه مرة وذراعيه مرة مرة أدى الواجب على ما فصله الأئمة عليهم‌السلام (٢) ، ودخل في امتثال ما يقتضيه الظاهر ، لان لفظ الامر يدل على المرة الواحدة ويحتاج على الاقتصار أو التكرار إلى دليل آخر. فلما ورد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توضأ مرة مرة وتوضأ مرتين مرتين (٣) ، علم أن الفرض

__________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) انظر الأحاديث في ذلك في الوسائل ١ / ٢٧١ ـ ٢٨٢.

(٣) انظر احكام القرآن للجصاص ٣ / ٣٥٧.

٢٤

مرة واحدة والثانية سنة ، لان الآية مجملة وبيانها فعله عليه‌السلام.

وكذلك تدل الآية على أنه لا يجوز أن يجعل مكان المسح غسلا ولا بدل الغسل مسحا ، لان الله أوجب بظاهر الآية الغسل في الوجه واليدين وفرض المسح في الرأس والرجلين ، فمن مسح ما أمر الله بالغسل أو غسل ما أمر بالمسح لم يكن ممتثلا للامر ، لان مخالفة الامر لا تجزي في مثل هذا الموضع.

وتدل الآية أيضا على أنه يجب تولى المتطهر وضوءه بنفسه إذا كان متمكنا من ذلك ولا يجزيه سواه ، لأنه قال ( فاغسلوا ) ، أمر بأن يكونوا (١) غاسلين وماسحين والظاهر يقتضي تولي الفعل حتى يستحق التسمية ، لان من وضأه غيره لا يسمى غاسلا ولا ماسحا على الحقيقة.

ويزيد ذلك تأكيدا ما روي أن الرضا عليه‌السلام رأى المأمون يتوضأ بنفسه والغلام يصب الماء عليه ، فقرأ عليه‌السلام ( ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ) (٢). فإذا كان هذا مكروها فينبغي أن يكون الأول محظورا.

وفي الآية أيضا دلالة على أن من مسح على العمامة أو الخفين لا يجزيه ، لان العمامة لا تسمى رأسا والخف لا يسمى رجلا ، كما لا يسمى البرقع وما يستر اليدين وجها ولا يدا.

وما روي في المسح على الخفين (٣) أخبار آحاد لا يترك لها ظاهر القرآن ، على أنه روى المخالف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه قال : نسخ ذلك بهذه الآية.

ولذلك قال عليه‌السلام لمن شهد لمسح الخفين ( أقبل المائدة أم بعدها ) عند عمر.

فقالوا : لا ندري. فقال عليه‌السلام : كان قبل المائدة (٤).

__________________

(١) في النسختين ( بأن يكون ).

(٢) سورة الكهف : ١١٠ ، والحديث في الوسائل ١ / ٣٣٦.

(٣) انظر الأحاديث في ذلك في الدر المنثور ٢ / ٢٦٢ ، احكام القرآن للجصاص ٣ / ٣٥٣.

(٤) التبيان ٣ / ٤٥٧.

٢٥

( فصل )

وفي هذه الآية دلالة على أن الطهارة تفتقر إلى النية ، سواء كانت وضوءا أو غسلا أو ما يقوم مقامهما من التيمم ، وهو مذهب الشافعي أيضا.

وقال أبو حنيفة : الطهارة بالماء لا تفتقر إلى النية والتيمم لابد فيه من نية.

والدليل على صحة ما ذكرناه أن قوله ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) تقديره أي فاغسلوا للصلاة ، وانما حذف ذكر الصلاة اختصارا. ومذهب العرب في ذلك واضح ، لأنهم إذا قالوا ( إذا أردت لقاء الأمير فالبس ثيابك ) تقديره فالبس ثيابك للقاء الأمير.

وإذا أمر بالغسل للصلاة فلابد من النية ، لان بالنية يتوجه الفعل إلى الصلاة دون غيرها.

وقوله عليه‌السلام ( الأعمال بالنيات ) (١) يؤكده.

( فصل )

وإذا صح بظاهر تلك الآية أن أفعال الوضوء الواجبة المقارنة له خمس : النية ، وغسل الوجه ، وغسل اليدين ، ومسح الرأس ، ومسح الرجلين.

فاعلم أن في الآية أيضا دلالة على وجوب كيفياتها العشر المقارنة له بظاهرها ومن فحواها ، ولولا النصوص المجمع على صحتها في وجوب هذه الواجبات وغيرها الموجبة علما وعملا ، لما أوردنا هذه الاستدلالات التي ربما يقال لنا : انها على أسلوب استخراجات الفقهاء الا انهم يرجمون رجما فيما طريقه العلم ، ونحن بعد أن قبلناه علما بالاجماع من الفرقة المحقة الذي هو حجة نتجاذب أهداب تلك

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٣٤.

٢٦

الاستدلالات ، ونتشبث بها نضيف بذلك فضيلة إلى فضيلة ، على أن أكثر ما نتبينه من أئمة الهدى عليهم‌السلام.

ولعمري ان الله قد أغنى الخلق عن التعسف ، بين وفصل الشريعة على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله وألسنة حججه عليهم‌السلام ما أجمله في كتابه من الاحكام ، لما في مجمل الكتاب وتفصيل السنة من دواء العليل وشفاء الغليل ما تصير الألطاف الإلهية بهما أقوى وأبلغ.

وكلا الامرين من الله جملة وتفصيلا ، ليس للرسول والأئمة عليه وعليهم السلام في شئ من ذلك اجتهاد ، انما هو علم علمهم الله نعمة عليهم ورحمة للعالمين [ حتى أرش الخدش ] (١).

( فصل )

والآية تدل على وجوب الترتيب في الوضوء من وجهين : أحدهما : أن الواو توجب الترتيب لغة على قول الفراء وأبى عبيد ، وشرعا على قول كثير من الفقهاء ، ولقوله عليه‌السلام ( ابدأوا بما بدأ الله به ) (٢).

والثاني : وهو على قول الجمهور ان الله أوجب على من يريد القيام إلى الصلاة إذا كان محدثا أن يغسل وجهه أولا ، لقوله تعالى ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) ، والفاء توجب الترتيب والتعقيب بلا خلاف. فإذا ثبت ان البداءة بالوجه هو الواجب ثبت في باقي الأعضاء ، لان أحدا لا يفرق.

ويقويه قوله عليه‌السلام للاعرابي حين علمه الوضوء فقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به (٣). فإن كان رتب فهو كما نقول ، وان لم يرتب لزم أن يكون من رتب

__________________

(١) الزيادة من م.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٣١٦ ، وفيه ( ابدأ بما بدأ الله عزوجل به ).

(٣) الكافي : ٣ / ٣١.

٢٧

لا يجزيه ، وقد أجمعت الأمة على خلافه.

وقال أبو مسلم بن مهرايزد : أجود ما يقال على من أجاز وقوع الطهارة بغير الترتيب ، انه قد ثبت ان فاعله مسئ بفعله [ والمسئ معاقب والاحتراز عن العقاب واجب ] (١). قال : والوجه اسم لما يناله البصر عند المواجهة من قصاص شعر الرأس إلى منتهى الذقن طولا.

ولم يحد الله الوجه كما حد اليد ، لان الوجه معروف مختص يجب غسل جميعه ، واليد يشتمل على جميع ما هو من البنان إلى أصل الساعد ، ولا يجب غسل جميعها في الوضوء ، فلابد فيها من التحديد.

وأشار إلى مسح بعض الرأس بالباء التي ليست للتعدية.

وحد الرجلين لمثل ما ذكرناه في اليد.

( فصل )

وظاهر الآية يوجب غسل الأعضاء ومسحها متى أراد الصلاة وهو محدث ، فإذا غسلها بلا ترتيب ثم أراد الصلاة يجب أن يكون بعد مخاطبا به ، عملا بمقتضى الآية.

على أن من أخطأ في الوضوء فقدم مؤخرا أو أخر مقدما يجب عليه أن يعيد ، لان الترتيب في الوضوء واجب على ما ذكرناه من مقتضى الآية.

وقال أبو جعفر عليه‌السلام : تابع بين الوضوء كما قال تعالى ، ابدأ بالوجه ثم باليدين ثم امسح الرأس والرجلين [ ولا تقدمن شيئا بين يدي شئ تخالف ما أمرت به ] (٢) فان غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه واعد على الذراع ، وان مسحت الرجل

__________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) الزيادة من المصدر.

٢٨

قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثم أعد على الرجل ، ابدأ بما بدأ الله عزوجل به (١).

وهذا عام في العمد والخطأ.

( فصل )

وفي الآية أيضا دلالة على أن الموالاة واجبة في الوضوء ، لان الامر شرعا يجب على الفور ولا يسوغ فيه التراخي الا بدليل ، فإذا ثبت ذلك وكان المأمور بالصلاة في وقتها مأمورا بالوضوء قبلها فيجب عليه فعل الوضوء عقيب توجه الامر إليه.

وكذلك جميع الأعضاء الأربعة ، لأنه إذا غسل وجهه فهو مأمور بعد ذلك بغسل اليدين ، ولا يجوز له تأخيره.

فان فرق وضوءه للضرورة حتى يجف ما تقدم منه استأنف الوضوء من أوله ، وان لم يجف وصله من حيث قطعه إذا كان الهواء معتدلا.

وان والى بين غسل أعضاء الطهارة ومسحها وجف شئ منها قبل الفراغ لحر شديد أو ريح من غير تقصير منه فيه ، فلا بأس إذا بقيت نداوة تكفي للمسح ، لأنه قال ( ما جعل عليكم في الدين من حرج ) (٢).

وبمثل ذلك تدل الآية على مقارنة النية واستدامة حكمها.

( فصل )

ويدل قوله ( وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم ) على أن من مسح رأسه ورجليه بأصبع واحدة فقد دخل تحت الاسم ويكون ماسحا.

ولا يلزم على ذلك ما دون الإصبع ، لأنا لو خلينا والظاهر لقلنا بذلك ، لكن السنة منعت منه.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ / ٣١٦.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

٢٩

وصورته : ان يمسح برأس مسبحة يمينه مقدم رأسه ، يضعها عليه عرضا مع الشعر إلى قصاصه ، ثم يمسح بها عرضا رجله اليمنى من أصابعها إلى الكعبين ، وبمسبحته اليسرى رجله اليسرى كذلك. فهذا مجزئ.

والندب : ان يمسح مقدم الرأس بثلاث أصابع مضمومة بالعرض ، وأن يمسح الرجلين بالكفين.

والباء في قوله ( برؤوسكم ) كما تدل على مسح بعض الرأس تدل في الرجلين أيضا عليه ، لأنها مضمرة في ( أرجلكم ) ، وواو العطف منئبة عنه وقائمة مقامها ، وكلما هو منوي في الكلام فهو في حكم الثابت على بعض الوجوه.

( فصل )

وتدل الآية بقريب من ذلك على أن مسح الرأس والرجلين ببقية نداوة الوضوء من غير استيناف ماء جديد ، لان الامر كما هو على الايجاب شرعا فهو على الفور ، وإذا لم يشتغل المتطهر بأخذ الماء الجديد واكتفى بالبلة فهو على الفور ، ولان اسم المسح يقع على كليهما ، فلا يصح أن يميز ويخصص بأحدهما الا بقرينة تنضم إليه.

واجماع الطائفة ـ الذي هو حجة ـ حاصل على أن المسح ببقية النداوة ، وهو من أوثق القرائن على أنه سبحانه لم يذكر في الآية استيناف الماء ، وهذا قد مسح.

فان قيل : ولم يذكر المسح ببقية النداوة أيضا.

قلنا : نحمل الآية على العموم ونخصها ـ بدليل اجماع الفرقة ـ على أن المسح في الشرع هو أن يبل المحل بالماء من غير أن يسيل ، والغسل امرار الماء على المحل حتى يسيل مع الاختيار.

٣٠

( باب الغسل )

ثم قال سبحانه وتعالى عاطفا على تلك الجملة جملة أخرى ، فقال ( وان كنتم جنبا فاطهروا ).

ولكل كلام حكم نفسه (١) ، ولذلك قال عليه‌السلام : إذا أجنب المكلف فقد وجب الغسل (٢).

فعلة الغسل هي الجنابة كما ذكره المرتضى في الذريعة ، فغسل الجنابة واجب على كل حال.

وقد ذكرنا في كتاب ( الشجار ) (٣) في وجوب غسل الجنابة بيان ذلك على الاستقصاء ، وبينا ما هو العمل عليه والمعول على ما أشرنا ههنا أيضا إليه.

وقيل : ان هذه الأحكام التي هي الغسل والتيمم ـ الذي هو بدل منه أو من الوضوء ـ من مقدمات الصلاة وشرائطها تجب لوجوبها ، أي وان أصابتكم جنابة وأردتم القيام إلى الصلاة فاطهروا ، ومعناه فتطهروا بالاغتسال. فهذه الجملة مفصلة بالجملة الأولى متعلقة بها ، لان الآية من أولها إلى آخرها تبين شرائط الصلاة المتقدمة ، فلهذا كان حكم الجملة الأخيرة حكم الأولى ، لا لأنه قد ربطها الواو العاطفة بما قبلها حتى يقدح (٤) في ذلك بقوله ( وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في

__________________

(١) حتى لا يلزم ان الغسل الواجب للصلاة كالوضوء ( هـ ج )

(٢) الاستبصار ١ / ١٦٢.

(٣) يريد كتاب ( شجار العصابة في غسل الجنابة ) ـ انظر عنه كتاب الذريعة ١٣ / ٢٦.

(٤) وجه القدح أن يقال : إذا كان يجب ان يكون حكم الجملة الثانية حكم الجملة الأولى ـ لمكان واو العطف ـ لزمكم أن تكون بنت الزوجة مشاركة في الحكم لام الزوجة ، وحينئذ يلزم أن تحل أم الزوجة على الرجل إذا لم يدخل ببنتها ، كما تحل بنت الزوجة عليه إذا لم يدخل بأمها ، وليس كذلك ( هـ ج )

٣١

حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم (١) ).

( فصل )

ونبدأ أولا بتفسير ألفاظ الآية وكشف معانيها ثم نشتغل بذكر الأحكام المتعلقة بها ، فنقول :

ان لفظ ( الجنب ) يقع على الواحد والجمع والاثنين والمذكر والمؤنث ، مثل عدل وخصم وزور ونحو ذلك ، إذ هو مصدر أو بمنزلة المصدر ، وقال الزجاج : تقديره ( ذو جنب ).

وأصل الجنابة البعد ، لأنها حالة تبعد عن مقاربة العبادات إلى أن يتطهر بالاغتسال على بعض الوجوه.

والأطهار هو الاغتسال بلا خلاف. وأطهر هو تطهر مدغما ، لان التاء أدغم في الطاء ، فسكن أول الكلمة فزيد فيها ألف الوصل.

ومعنى الآية : أي استعملوا الماء أو ما يقوم مقامه.

والجنابة تحصل بشيئين : اما بانزال الماء الدافق في النوم واليقظة بشهوة أو بغير شهوة ، أو بالتقاء الختانين. وجب غيبوبة الحشفة في القبل أنزل أو لم ينزل.

وقال أبو مسلم ابن مهرايزد : يلزم الرجل حكم الجنابة من أمور : منها أن يجامع في قبل أو دبر ، ومنها أن يلتقي الختانان وان لم يكن انزال ولا ماء شهوة ، ومنها ان يحتلم في النوم بشرط أن يجد بللا.

والأغسال المفروضة والمسنونة سبعة وثلاثون غسلا : منها ستة أغسال مفترضات والباقية نوافل (٢).

__________________

(١) سورة النساء : ٢٣.

(٢) عد الشيخ يحيى بن سعيد الحلى اثنين وعشرين غسلا واجبا وخمسة وأربعين غسلا مسنونا ، ويمكن أن يتداخل بعضها في بعض لوحدة ملاكها أو حكمها ، ولكنها على كل حال أكثر مما ذكره القطب الراوندي هنا ـ انظر كتاب نزهة الناظر ص ١٣ ـ ١٦.

٣٢

ولم يورد المشايخ تغسيل الأموات من جملة الواجبات ، ولا غسل نظارة المصلوب بعد ثلاثة أيام ، ولا غسل الاستسقاء ، ولا غسل من أسلم بعد الكفر. فلذلك نقص عن هذا العدد.

والفرض المذكور بظاهر اللفظ في القرآن منها اثنان غسل الجنابة والحيض.

قال تعالى ( وان كنتم جنبا فاطهروا ) (١) ، فأوجب بظاهر هذا اللفظ الغسل.

وقال سبحانه ( ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن ) (٢) فيمن قرأ بالتشديد ، وقد بينا ان الأطهار هو الاغتسال ، وسيجئ بيانه في بابه انشاء الله تعالى.

( فصل )

وليس على الجنب وضوء مع الغسل ، فان قوله ( وان كنتم جنبا فاطهروا ) هو على الاطلاق غير مقيد ولا مشروط بالوضوء ، ومن اغتسل من الجنابة فقد طهر بلا خلاف.

وكل غسل ما عدا غسل الجنابة يجب الوضوء قبله حتى يستباح به الدخول في الصلاة ، فان نسيه المغتسل فليتوضأ بعد الغسل لتصح منه الصلاة.

وغسل المرأة من الجنابة كغسل الرجل سواء ، لأنا قد بينا في قوله ( جنبا ) ان الجنب يقع على الرجال والنساء والرجل والمرأة ، فينبغي ان يكون حكم الجنابة وحكم غسل الجنابة فيهما سواء ، وان ورد الخطاب بفظ المذكرين في قوله ( وان كنتم جنبا ) فان ذلك لتغليب لفظ الرجال على النساء إذا اجتمعوا.

والأغسال الاخر الواجبة ـ وهي أربعة ـ يعلم وجوبها بالاجماع والسنة وبقوله

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) سورة البقرة : ٢٢٢.

٣٣

تعالى على سبيل الجملة ( ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) (١).

وقال المرتضى : غسل من مس ميتا من الناس مستحب غير واجب. وانما ذكره كذلك لخبر ورد للتقية.

والجنب إذا أراد الغسل يجب عليه ستة أشياء (٢) ، ويعلم هذا من السنة على سبيل التفصيل ومن القرآن على سبيل الجملة. قال تعالى ( ما آتاكم الرسول فخذوه ) ، وقد فصلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ورواها الأئمة المعصومون عليهم‌السلام كما علمه الله غضا طريا.

وقال بعضهم : لا يجب الاغتسال على الجنب بقوله ( فاطهروا ) ، بل بتفسيره في قوله ( الا عابري سبيل حتى تغتسلوا ) (٣) في سورة النساء.

فان قيل : ما معنى تكرير قوله ( أو لامستم النساء ) إن كان معنى اللمس الجماع مع قوله ( وان كنتم جنبا فاطهروا ).

قلنا : يمكن أن يقال إن الجنابة في الأول تحمل على الاحتلام وفي الثاني على الجنابة عمدا.

وقيل : ان المعني في قوله ( وان كنتم جنبا فاطهروا ) غير المعني بقوله ( أو لامستم النساء ) ، فان معنى قوله ( وان كنتم جنبا فاطهروا ) إذا كنتم واجدين للماء متمكنين لاستعماله ، ثم بين حكمه إذا عدم الماء أو لا يتمكن من استعماله ، فالتيمم هو فرضه وهو طهارته ، فأراد : إذا كان له سبيل إلى الماء فعليه أن يغتسل ، وان جامع ولم يجد الماء فعليه التيمم. فالأول في حكمه مع وجود الماء ، والثاني في حكمه مع عوز الماء.

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) ثلاثة أفعال وهي الاستبراء والنية وغسل جميع الجسد ، وثلاث كيفيات وهي مقارنة النية واستدامتها والترتيب ( هـ ج ).

(٣) سورة النساء : ٤٣.

٣٤

( باب التيمم )

ثم قال تعالى ( وان كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) (١).

بين تعالى أحكام التيمم الخمسة ، وأشار إلى أنه على ضربين : تيمم هو بدل من الوضوء ، وتيمم هو بدل من الغسل المفروض.

قال المفسرون : معنى الآية أنه لما تقدم الامر بالوفاء بالعقود ـ ومن جملتها إقامة الصلاة ومن شرائطها الطهارة ـ بين سبحانه وتعالى وقال ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) أي إذا أردتم القيام إليها وأنتم على غير طهر فعليكم الوضوء ، وان كنتم جنبا عند ذلك فاغتسلوا ، أي اغسلوا جميع البدن على وجه ، وان كنتم جرحى أو مجدرين أو مرضى يضربكم استعمال الماء وكنتم جنبا أو على غير وضوء وكنتم مسافرين وأنتم جنب أو جاء من الغائط أحدكم قد قضى حاجته منه وهو مسافر أو جامعتم النساء ولم تجدوا ماءا أو لا تتمكنون من استعماله فاقصدوا وجه الأرض طاهرا نظيفا غير نجس ولا قذر ، ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) أي من الصعيد (٢).

فإذا تبينت خلاصة معنى الآية يسهل عليك تدبر أحكامها التي نذكرها.

و ( الغائط ) أصله المطمئن من الأرض ، وكانوا يبرزون إليه ليغيبوا عن عيون الناس ، ثم كثر ذلك حتى قيل للحدث غائط كناية بالتغوط عن الحدث في الغائط.

وقيل : انهم كانوا يلقون النجو في هذا المكان وترميه الرياح إليه أيضا ، فسمي باسمه على سبيل المجاورة ، ثم كثر ههنا حتى صار فيه حقيقة ، وان استعمل فيما وضع له كان مجازا.

__________________

(١) سورة المائدة : ٦.

(٢) انظر التبيان ٣ / ٤٥٧ ، فان ما ههنا ملخص منه.

٣٥

و ( اللمس ) يكون باليد ، ثم اتسع فيه فأوقع على الجماع.

و ( التيمم ) القصد ، وقد صار في الشرع اسما لقصد مخصوص ، وهو أن يقصد الصعيد ونحوه ، ويستعمل التراب وما في معناه في أعضاء مخصوصة.

و ( الصعيد ) وجه الأرض من غير نبات ولا شجر. وقال الزجاج : الصعيد ليس هو التراب انما هو وجه الأرض ترابا كان أو غيره من الأحجار ونحوها ، وانما سمى صعيدا لأنه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض.

وقوله ( أو على سفر ) معناه : وان كنتم مسافرين.

( فصل )

اعلم أنهم قالوا : ان السفر في هذين الموضعين غير معتبر اعتبارا يخل به (١) إذا حصل شرطه الذي قرنه الله بذلك وقيده به من قوله ( فلم تجدوا ماءا ) ، وانما ذكر لان أكثر هذه الضرورات على الأغلب تكون في الحال السفر ، فان حصلت في غيره فكمثله. ولهذا نظائر كثيرة ، كقوله ( وربائبكم اللاتي في حجوركم ) (٢). وليس لكونهن في الحجور اعتبارا ، وانما ذكر ذلك لكونه في أكثر الحالات كذلك.

وقيل إن ( أو ) ههنا بمعنى الواو ، كقوله ( أرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون ) (٣) يعني وجاء أحد منكم من الغائط ، وذلك لان المجئ من الغائط ليس من جنس المرض والسفر حتى يصح عطفه عليهما ، فإنهما سبب لإباحة التيمم والرخصة ، والمجئ من الغائط سبب لايجاب الطهارة ، والتقدير : وقد جاء من الغائط.

وقوله ( أو لامستم النساء ) المراد به الجماع ، وكذا إذا قرئ ( أو لمستم ).

واللمس والملامسة معناهما واحد ، لأنه لا يلمسها الا وهي تلمسه. وقيل المراد به اللمس باليد وغيرها ، والصحيح هو الأول.

__________________

(١) أي بالتيمم.

(٢) سورة النساء : ٢٣.

(٣) سورة الصافات : ١٤٧.

٣٦

يروى أن العرب والموالي اختلفتا فيه ، فقال الموالي المراد به الجماع ، وقال العرب المراد به مس المرأة. فارتفعت أصواتهم إلى ابن عباس فقال : غلب الموالي المراد به الجماع (١).

وسمي الجماع لمسا لان به يتوصل إلى الجماع ، كما سمي المطر سماءا.

( فصل )

وقوله ( فلم تجدوا ماءا ) راجع إلى المرضى والمسافرين جميعا ، مسافر لا يجد الماء ومريض لا يجد الماء أو من يوضئه أو يخاف الضرر من استعمال الماء ، لان الأصل ان حال المرض يغلب فيها خوف الضرر من استعمال الماء ، وحال السفر يغلب فيها عدم الماء.

( فتيمموا ) أي تعمدوا وتحروا واقصدوا صعيدا.

وقد ذكرنا أن الزجاج قال : الصعيد وجه الأرض. وهذا يوافق مذهب أصحابنا في أن التيمم يجوز بالحجر ، سواء كان عليه تراب أو لم يكن.

والتيمم انما يصح ويجب لفريضة الوقت في آخر الوقت وعند تضيقه ، لان التيمم بلا خلاف انما هو طهارة ضرورية ، ولا ضرورة إليه الا في آخر الوقت ، وما قبل هذه الحال لم تتحقق فيه ضرورة.

وليس للمخالف أن يتعلق بظاهر قوله ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا ) وبأنه لم يفرق بين أول الوقت وآخره ، لان الآية لو كان له ظاهر يخالف قولنا جاز أن يخصه باجماع الفرقة المحقة وبما ذكرناه أيضا ، كيف ولا ظاهر لها ينافي ما نذهب إليه ، لأنه تعالى قال ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ) ، وأراد ـ بلا خلاف ـ إذا أردتم القيام إلى الصلاة كما قدمناه ، ثم أتبع ذلك حكم العادم للماء الذي يجب عليه التيمم ، فيجب على من تعلق بهذه الآية أن يدل على أن من كان في أول الوقت

__________________

(١) مجمع البيان ٣ / ٥٢.

٣٧

له أن يريد الصلاة ويعزم على القيام إليها.

فانا نخالف في ذلك ونقول : [ ليس لمن عدم الماء أن يريد الصلاة في أول الوقت ، وليس لهم أن يفصلوا بين الجملتين ويقولوا ] (١) ان إرادة الصلاة شرط في الجملة الأولى التي أمر فيها بالطهارة بالماء مع وجوده ، وليست شرطا في الجملة الثانية التي ابتداؤها ( وان كنتم مرضى ) ، وذلك لان الشرط الأول لو لم يكن شرطا في الجملتين لكان يجب على المريض أو المسافر إذا أحدثا التيمم وان لم يردا الصلاة ، وهذا لا يقوله أحد.

والتيمم انما أوجبه الله عند عدم الماء حيث لم يجده الانسان ، ومعلوم أنه أراد من وجود الماء التمكن منه والقدرة عليه ، لأنه لو وجد الماء ولم يتمكن من الوصول إليه للخوف من السبع أو التلف على نفسه لم يكن واجبا عليه استعماله ولم يحسن أن يكون مرادا ، فعلم أنه انما أراد التمكن. والتمكن مرتفع بأحد الأشياء الثلاثة : اما لعدم الماء مع الطلب له ، أو لعدم ما يتوصل إلى الماء من آلة أو ثمن ، أو لحائل بينه وبين الماء من الخوف من استعماله اما على النفس أو على المال وما أشبه ذلك ، فالآية بمجردها تدل على جميع ذلك.

( فصل )

على أنا نحمل قوله تعالى ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا ) على العموم في جميع الأوقات عنه عدم الأشياء الثلاثة المذكورة على بعض الوجوه ، فان القاضي للصلوات المفروضات يتيمم عند حصول إحدى تلك الشرائط في كل حال (٢) وان لم يكن وقت صلاة حاضرة ، وكذلك يتيمم من أراد أن يصلي صلاة نافلة في غير وقت فريضة أو في أول وقتها ، ثم يجوز أن يصلي بذلك التيمم فريضة الوقت في آخر وقتها

__________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) في ج ( في كل واحد ).

٣٨

عند تضيقه ، إذا لم ينتقض حكم ذلك التيمم بحدث أو ما يجري مجراه ، وهو التمكن من استعمال الماء.

واختلف في كيفية التيمم على أقوال :

أحدها : انه ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأكثر الفقهاء ، وبه قال قوم من أصحابنا لحديث ورد للتقية (١).

وثانيها : انه ضربة للوجه وضربة لليدين من الزندين ، واليه ذهب عمار بن ياسر ومكحول والطبري ، وهو مذهبنا في التيمم إذا كان بدلا من الجنابة ، فإن كان بدلا من الوضوء كفاه ضربة واحدة يمسح بها وجهه من قصاص شعره إلى طرف أنفه ويديه وزنديه إلى أطراف أصابعهما.

وانما وهم الراوي عن عمار في الضربة في اليدين للتيمم على كل حال ، لأنه روى التيمم الذي هو بدل من الجنابة. وقصته معروفة ، وهي انه وعمر كانا في سفر فاحتلما ولم يجدا الماء ، فامتنع عمر من الصلاة إلى أن وجد الماء ، وتمعك عمار في التراب وصلى ، إذ لم يعرفا كيفية التيمم ، فلما دخلا على رسول الله صلى الله عليه وآله حكيا حالهما ، فتبسم عليه‌السلام وقال : تمعكت كما تتمعك الدابة (٢) ، ثم علمه كيفية التيمم (٣).

وثالثها : انه إلى الإبطين ، ذهب إليه الخوارج.

وروى الزهري : ان الله عفو يقبل منكم العفو السهل ، لان في قبوله التيمم بدلا من الوضوء تسهيل الامر علينا.

ومسح الوجه بالتراب وما يجرى مجراه في التيمم انما هو إلى طرف الأنف ، ومسح اليد على ظاهر الكف على ما قدمناه. والدليل عليه ـ بعد اجماع الطائفة ـ

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٢٠٨.

(٢) تمعكت : تمرغت في التراب ، والمعك الدلك ـ النهاية لابن الأثير ٤ / ٣٤٣.

(٣) وسائل الشيعة ٢ / ٩٧٦.

٣٩

قوله تعالى ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم ) ، ودخول الباء إذا لم يكن لتعدية الفعل إلى المفعول لابد له من فائدة والا كان عبثا ، ولا فائدة بعد ارتفاع التعدية الا التبعيض (١) ، وحكم التبعيض يسرى (٢) من الوجوه إلى الأيدي ، لان حكم المعطوف والمعطوف عليه سواء في مثل ذلك.

( فصل )

والمقيم إذا فقد الماء يتيمم كالمسافر ، لان العلة في السفر فقدان الماء. ألا ترى ان السفر بانفراده لا يرخص التيمم فيه ، وانما ذكر سبحانه السفر مع السببين للترخيص في التيمم على ما قدمناه ، لان الغالب في السفر عوز الماء دون الحضر وبناء كلام العرب على الأغلب كثير.

فان قيل : الآية ترخص للمحدث التيمم إذا فقد الماء ، فمن أين لكم ان من سواه ممن ذكرتموه يجوز له أيضا ذلك؟

قلنا : قد قدمنا ان من المعلوم انه تعالى أراد بوجود الماء التمكن من استعماله والقدرة عليه ، والتمكن مرتفع في المواضع كلها.

( فصل )

قوله تعالى ( فلم تجدوا ماءا فتيمموا صعيدا طيبا ) يدل على أن المحبوس إذا لم يجد الماء وتيمم وصلى فلا إعادة عليه ، خلافا للشافعي.

وانما قلنا إنه لا يعيد ، لأنه إذا صلى فقد أدى فرضا بالاتفاق ، وإعادة الفرض لا تجب الا بحجة ، ولا حجة على إعادة صلاة المحبوس بالتيمم من كتاب ولا سنة ولا اجماع.

__________________

(١) لان كل من قال بفائدة زائدة أقر بأنها التبعيض ( هـ ج ).

(٢) في م ( ينتهى من الوجوه ).

٤٠