فقه القرآن - ج ١

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]

فقه القرآن - ج ١

المؤلف:

قطب الدين سعيد بن هبة الله الراوندي [ قطب الدين الراوندي ]


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: الولاية
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤٤٤
الجزء ١ الجزء ٢

قيل : لما كان الضلال سببا للاذكار والأذكار مسببا عنه وهم ينزلون كل واحد من السبب والمسبب بمنزلة الاخر لالتباسهما واتصالهما كانت إرادة الضلال المسبب عنه الأذكار عنه إرادة للاذكار ، فكأنه قيل إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى ان ضلت. ونظيره قولهم : أعددت الخشبة ان يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح ان يجئ عدو فأدفعه.

وقوله تعالى ( ممن ترضون من الشهداء ) فيه ذكر يعود إلى الموصوفين اللذين هما ( فرجل وامرأتان ) ، ولا يجوز أن يكون فيه ذكر لشهيدين المقدم ذكرهما ، لاختلاف اعراب الموصوفين. ألا ترى أن ( شهيدين ) منصوبان و ( رجل وامرأتان ) اعرابهما الرفع. وإذا كان كذلك علمنا أن الوصف الذي هو ظرف انما هو وصف لقوله ( فرجل وامرأتان ) دون من تقدم ذكرهما من الشهيدين.

وقوله ( أن تضل ) لا يتعلق بقوله ( واستشهدوا ) ولكن يتعلق أن بفعل مضمر يدل هو عليه ، أي واستشهدوا رجلا وامرأتين أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى.

وقيل تقديره فرجل وامرأتان ، ويكون يشهدون خبر المبتداء ، والمفعول الثاني من ذكر محذوف ، تقديره فتذكر إحداهما الأخرى شهادتهما.

وقراءة حمزة على الشرط ان تضل إحداهما فتذكر إحداهما بالرفع والتشديد كقوله ( ومن عاد فينتقم الله منه ) ، والشرط والجزاء وصف المرأتين ، لان الشرط والجزاء جملة يوصف بها كما يوصل بها في قوله ( الذين ان مكناهم في الأرض ) (١) الآية.

وقال أبو عبيدة معنى ( ان تضل ) ان تنسى ، نظيره ( فعلتها إذا وانا من الضالين ) (٢) أي نسيت وجه الامر.

__________________

(١) سورة الحج : ٤١.

(٢) سورة الشعراء : ٢٠.

٤٠١

( فصل )

ومن بدع التفاسير ( فتذكر ) أي فتجعل إحداهما الأخرى ذكرا ، يعنى انهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلة الذكر. والمعنى ان لم يحضر رجلان من الشهداء الذين خبرت أحوالهم ، فحمدت أحوالهم بالكف عن البطن والفرج واليد واللسان واجتناب شرب الخمر والزنا والربا وعقوق الوالدين وغير ذلك ، يسترون عيوبهم ويتعاهدون الصلوات الخمس ويتوفرون على حضور جماعة المسلمين ، غير متخلفين عنهم الا لمرض أو علة أو عذر. يستشهد رجل وامرأتان من الشهداء الذين وصفناهم لكي ان نسيت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى. ولم يوجب هذا الحكم في الرجال ، لأنهم من النسيان أبعد والى التحفظ والتيقظ أقرب.

ويمكن أن يقال في ( أن تضل إحداهما ) : ان المرادان تنسى إحدى البينتين تذكرها شهادة الأخرى ، فيكون الكلام عاما في الرجال والنساء. وهذا صحيح لأنه لا يجوز أن يقيم الانسان شهادة الا على ما يعلم ، ولا يعول على ما يجد به خطه ، فان وجد خطه مكتوبا ولم يذكر الشهادة لم يجز له اقامتها ، فإن لم يذكر هو ويشهد معه آخر ثقة جاز له حينئذ إقامة الشهادة.

ويعتبر في شهادة النساء الايمان والستر والعفاف وطاعة الأزواج وترك البذاء والتبرج إلى أندية الرجال.

( باب ذكر ما يلزم الشهود )

ولما ذكر الله ما يلزم المستشهد من الواجبات والمندوبات ذكر بعده ما يلزم الشهداء فقال ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) ليقيموا الشهادة ، فعلى هذا يكون إشارة إلى أنه متى دعي الانسان لإقامة شهادة لم يجز له الامتناع منها على حال ، الا إذا علم

٤٠٢

أن من عليه الدين معسر فان شهد عليه حبسه فاستضر هو به وعياله.

وقيل : لا يأب الشهداء إذا ما دعوا ليستشهدوا.

وانما قال لهم شهداء قبل التحمل تنزيلا لما يساوق منزلة الكائن ، وقد أشار سبحانه بهذا إلى أنه لا يجوز أن يمتنع الانسان من الشهادة إذا دعي إليها ليشهد بها إذا كان من أهلها ، الا أن يكون حضوره مضرا لشئ من أمر الدين أو بأحد من المسلمين.

وعن قتادة : كان الرجل يطوف بين خلق كثير فلا يكتب له أحد ، فنزل ( ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ) ، كنى بالسأم عن الكسل لان الكسل صفة للمنافق ، ومنه الحديث ( لا يقول المؤمن كسلت ).

ويجوز أن يراد من كثرت مدايناته ، فاحتاج أن يكتب لكل دين صغير أو كبير كتابا فربما قل كثرة الكتب.

والضمير في ( يكتبوه ) للدين أو للحق ( صغيرا أو كبيرا ) على أي حال كان الحق من صغير أو كبير. ويجوز أن يكون الضمير للكتاب وان يكتبوه مختصرا أو مشبعا.

ولا تخلوا بكتابته إلى أجله أي إلى وقته الذي اتفق الفريقان على تسميته ، قال الزجاج : هذا يؤكد أن الشهادة ابتداءا واجبة ، والمعنى لا تسأموا أن تكتبوا ما شهدتم عليه ، ولا حاجة إلى ما يؤكد به وجوب إقامة الشهادة.

وقال ابن جريج عذرا للأول : ( لا تسأموا ) خطاب للمتداينين ، يقول اكتبوا ما تتعاملون عليه بدين صغيرا كان الحق أو كبيرا ( ذلكم ) إشارة إلى ما تكتبوه ، لأنه في معنى المصدر ، أي ذلك الكتب ( أقسط ) أي أعدل ، من القسط ( وأقوم للشهادة ) وأعون على إقامة الشهادة ( وأدنى ألا ترتابوا ) أي أقرب من انتفاء الريب ، وانما قال إنه أصوب للشهادة لان الشهادة حينئذ أقرب إلى أن تأتوا بألفاظ المستدين وما

٤٠٣

يقع عليهم غلط النسيان ، وأنتم مع هذا أقرب إلى أن تشكوا فيما يشهد به الشهود عليكم من الحق والأجل إذا كانا مكتوبين.

( فصل )

وقد ذكر الله سبحانه في أول هذه الآية قبل الامر بالاستشهاد النهي عن الامتناع من الكتابة ، قال ( ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله ) والنهي يقتضي تحريم الامتناع. وقال عامر الشعبي : هو فرض على الكفاية كالجهاد.

وجوز الجبائي أن يأخذ الكاتب والشاهد الأجرة على ذلك ، وعندنا لا يجوز ذلك للشاهد.

والورق الذي يكتب فيه على صاحب الدين دون من عليه الدين ، ويكون الكتاب في يده لأنه له. وقال السدي : ذلك واجب على الكاتب في حال فراغه.

وقال مجاهد هو واجب. وقال الضحاك نسخها قوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ).

وقوله تعالى : ( أن يكتب كما علمه الله فليكتب ) يعني الكاتب ( وليملل الذي عليه الحق ) أمر لمن عليه الحق بالاملاء ( وليتق الله ربه ) معناه لا يملل الا الذي عليه الحق. والمراد بالامر الذي عليه الدين بالاملاء الندب دون الايجاب ، لأنه لو أملى غيره وأشهد هو كان جائزا بلا خلاف ولا ينقص منه شيئا. والبخس النقص ظلما ، ومنه قوله ( ولا تبخسوا الناس أشياءهم ) أي لا تنقصوهم ظالمين لهم.

والبخس فوق الغبن ، وفى هذا ايجاز وحذف ، لان المدين المملي ان أراد أن يحط في املائه من المال شيئا فان الدائن يمنعه ذلك ، وان تمكن من النقصان بوجه من الوجوه ـ اما بحيلة يحتالها واما بغباوة يكون من صاحب الدين ـ فلا يفعلن ذلك خشية من عقاب الله.

( ولا يأب كاتب ) ذكر بتنكير كاتب ، أي لا يمتنع أحد من الكتاب أن يكتب مثل ما علمه الله كتابهم. وقيل : هو كقوله ( وأحسن كما أحسن الله إليك ) أي ينفع

٤٠٤

الناس بكتابته كما نفعه الله بتعليمها.

و ( كما علمه الله ) يجوز أن يتعلق بأن يكتب وبقوله فليكتب.

فان قيل : أي فرق بين الوجهين؟

قلنا : ان علقته بأن يكتب فقد نهي عن الامتناع من الكتابة المقيدة ، ثم قيل له فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها للتوكيد. وان علقته بقوله فليكتب فقد نهي عن الامتناع من الكتابة على سبيل الاطلاق ثم أمر بها مقيدة. ( وليملل الذي عليه ) ولا يكن المملي الا من وجب عليه الحق ، لأنه هو المشهود على ثباته في ذمته واقراره به.

والاملال والاملاء لغتان قد نطق بهما القرآن.

( فصل )

ثم قال تعالى ( فإن كان الذي عليه الحق سفيها ).

قال مجاهد : السفيه الجاهل ، لأنه خفيف العقل بنقصه ، وأصل السفة الخفة.

وقوله ( أو ضعيفا ) هو الأحمق ـ عن مجاهد والشعبي.

وقوله ( أولا يستطيع أن يمل هو ) قال ابن عباس : هو الغبي والعاجز عن الاملاء بالعي أو الخرس.

وقيل : المراد بالسفيه القوي على الاملاء الا أنه جاهل لا يعرف موضع صواب ما يمليه من خطأه. والضعيف العاجز عن الاملاء وإن كان شديدا رشيدا اما بعي بلسانه أو خرس. والذي لا يستطع أن يمل الممنوع مسنه اما بحبس أو لغيبة لا يقدر على حضور الكاتب الشاهد فحينئذ يمل عنه وليه.

وقيل : الأولى أن يكون المراد بالسفيه البذي اللسان الخفيف في نفسه فلا يوثق باملائه عليه. والضعيف الذي لا يحسن أن يملى. والذي لا يستطيعه من به لكنة أو خرس أو آفة يمنعه من الاملاء. وهذا أقرب.

وقال أكثر المفسرين : سفيها محجورا عليه لتبذيره وجهله بالتصرف ، أو

٤٠٥

ضعيفا صبيا أو شيخا مخبلا ، ولا يستطيع أن يمل هو أي غير مستطيع الاملاء بنفسه لعلي أو خرس ، فليملل وليه الذي يلي أمره من وصي إن كان سفيها أو وكيل إن كان غير مستطيع أو ترجمان يمل عنه وهو يصدقه.

والهاء في قوله ( وليه ) عائدة إلى السفيه في قول الضحاك وابن زيد الذي يقوم مقامه بأمره ، لان الله أمر أن لا يؤتى السفهاء أموالهم ، وأمر أن لا يقام لها بها.

وقال الربيع : يرجع إلى ولي الحق. والأول أقوى.

وإذا أشهد الولي على نفسه فلا يلزمه المال في ذمته ، بل يلزم ذلك في مال المولى عليه.

( فصل )

ونعود إلى ما كنا فيه من ذكر ما في قوله ( ذلكم أقسط عند الله ).

أعلم أن أكثر ما يبنى ( أفعل ) من الثلاثي ، وههنا بني من أفعل لأنه من ( أقسط ) بمعنى عدل وأزال الجور ، لامن ( قسط ) أي جار. وكذلك في قوله ( أقوم للشهادة ) لأنه افعل ، من اقامه إلى سواه ، وقال الشئ استوى.

وقال الجبائي : لا تجب الكتابة والاشهاد ، فإن لم يكن الثمن حاضرا وتسلم المشتري المبيع وأنسأ الثمن كان الكتاب فرضا ، وكذا الاشهاد لقوله تعالى ( وأشهدوا ذوي عدل منكم إذا تبايعتم ) ، وهذا أمر على الوجوب. قال : ولا دليل لمن جعله ندبا.

وهذا الامر فيما يتتابع عليه نقدا كالرباع والحيوان. وقيل من ههنا ذهب بعض الفقهاء إلى أن الاشهاد في بعض الساعات واجب. وليس كما قدر لأنه من باب الاحتياط.

فان قيل : فما معنى ( تجارة حاضرة ) ، وسواء كانت المبايعة بدين أو بعين

٤٠٦

والتجارة حاضرة وما معنى ادارتها بينهم؟.

قيل : أريد بالتجارة ما يتجر فيه من الابدال ، ومعنى ادارتها بينهم تعاطيهم إياها يدا بيد ، والمعنى الا أن يتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد ، فلا بأس أن لا يكتبوا ، لأنه لا يتوهم فيه ما يتوهم في التداين.

وأما قوله ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) فهو أمر بالاشهاد على التبايع مطلقا ناجزا وكاليا لأنه أحوط وأبعد مما عسى يقع من الاختلاف. ويجوز ان يراد واشهدوا إذا تبايعتم هذا التبايع ، يعنى التجارة الحاضرة ، على أن الاشهاد كان فيه دون الكتابة.

( فصل )

وقوله تعالى ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ).

( يضار ) يحتمل البناء للفاعل والمفعول ، والدليل عليه قراءة أبى عمرو ( ولا مضاررة ) بالاظهار والكسر ، وقراءة ابن عباس ( ولا يضارر ) بالاظهار والفتح.

والمعنى إذا كان على تفاعل نهي الكاتب والشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما وعن التحريف والزيادة والنقصان ، اي لا يكتب الكاتب الا الحق ولا يشهد الشاهد الا بالحق. وإذا كان على تفاعل فمعناه النهي عن الضرار بهما ، بأن يعجلا عن مهم أو لمزا ويحمل الشهيد مؤنة مجيئه من بلد ، اي لا يدعي الحاحا ولا يؤدى إذا كان في شغل.

وقال أبو جعفر محمد بن مبشر : جميع ما في هذه الآية كله على التخيير الا حرفين وهما ( لا يضار كاتب ولا شهيد ) ، لقوله ( وان تفعلوا فإنه فسوق بكم ) والثاني ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ).

ومعنى ( وان تفعلوا ) وان تضاروا فإنه أي فان الضرار فسوق بكم. وقيل وان تفعلوا شيئا مما نهيتم عنه.

٤٠٧

( باب )

( في تحمل الشهادة وآدابها )

اما التحمل فإنه فرض في الجملة ، فمن دعي إلى تحمله في بيع أو نكاح أو غيرهما من عقد أو دين لزمه التحمل ، لقوله ( ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ) ولم يفرق ولقوله ( ولا يضار كاتب ولا شهيد ) فان أهل التفسير تأولوا هذا الكلام بثلاث تأويلات :

فقال ابن عباس : معناه لا يضار الشاهد والكاتب لمن يدعوه إلى تحملها ، ولا يحتج عليه بأن لي شغلا أو خاطب غيري فيها.

ومنهم من قال : لا يضر الشاهد بمن يشهد له فيؤدي غير ما تحمل ، ولا يضر الكاتب بمن يكتب له فليكتب غير ما قيل له.

ومنهم من قال : لا يضار بالشاهد الكاتب من يستدعيه فيقول له دع اشغالك واشتغل بشغلي لحاجتي.

فإذا ثبت ان التحمل فرض على الجملة فإنه من فروض الكفايات إذا قام بها بعض سقط عن الباقين ، كالجهاد والصلاة على الموتى ورد السلام.

وقد يتعين التحمل ، وهو إذا دعي لتحملها على عقد النكاح أو على دين أو غيره وليس هناك غيره ، فحينئذ يتعين عليه التحمل كما يتعين في الصلاة على الجنائز والدفن ورد السلام.

( فصل )

واما الأداء فإنه في الجملة أيضا من الفرائض ، لقوله تعالى ( ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ).

٤٠٨

ويمكن ان يستدل بها على وجوب التحمل ، وعلى وجوب الأداء على ما قدمناه ، وهي بوجوب الأداء أشبه ، فإنه تعالى سماهم شهداء ونهاهم عن الاباء إذا دعوا إليها ، وانما يسمى شاهدا بعد تحملها حقيقة.

وهو من فروض الكفايات إذا كان هناك خلق وقد عرفوا الحق وصاروا به شاهدين ، فإذا قام به اثنان سقط الفرض عن الباقين كالصلاة على الجنائز ، وقد يتعين الفرض فيه ، وهو إذا لم يتحمل الشهادة الا اثنان أو تحملها خلق ولم يبق منهم الا اثنان تعين عليهما الأداء ، كما لو لم يبق من قرابة الميت الا من يطيق الدفن ، فإنه يتعين الفرض عليه.

فإذا ثبت هذا فالكلام في بيان فرائض الأعيان والكفايات ، وجملته انه لافرق ولا فصل بين فرائض الأعيان والكفايات ابتداءا ، وان الفرض يتوجه على الكل في الابتداء ، لأنه إذا زالت الشمس توجهت صلاة الظهر على الكل ، وإذا مات في البلد ميت توجه فرض القيام به على الكل ، وانما يفترقان في الثاني ، وهو انما كان من فرائض الأعيان لا يتعين ، وفروض الكفاية إذا قام بها قوم سقط الفرض عن الباقين ، لان المقصود دفن الميت فإذا دفن لم يبق وجوب دفنه بعد أن دفن على أحد.

( فصل )

وكل عقد يقع من دون الاشهاد وإن كان فعلى سبيل الاحتياط ، الا الطلاق فإنه لا يقع الا بالاشهاد على ما نذكره في بابه ، مع أنه ليس بعقد. قال الله تعالى ( واشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) فعند أصحابنا ان الاشهاد شرط في وقوع الطلاق ، لان ظاهر الامر يقتضيه ، والامر على الايجاب.

وقال قوم : ان ذلك راجع إلى الرجعة ، وتقديره : وأشهدوا على الامساك ان أمسكتم ذوي عدل ، وهو الرجعة في قول ابن عباس. وقال الشافعي الاشهاد

٤٠٩

على الرجعة أولى. ويجوز عند أكثرهم بغير اشهاد ، وانما ذكر الله الاشهاد كما دكر في قوله ( وأشهدوا إذا تبايعتم ) ، وهو على الندب ، فأما في الطلاق فهو محول على الوجوب.

ثم قال ( وأقيموا الشهادة لله ) إذا طولبتم بإقامتها ولكم معاشر المكلفين ( يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ). وانما أضاف الوعظ إلى من يؤمن بالله واليوم الآخر دون غيره لأنه الذي ينتفع به دون الكافر الجاحد لذلك.

( باب )

( شهادة كل ذي قرابة لمن يقرب منه وعليه وذكر من تقبل شهادته منهم ) كل من كان عدلا فشهادته جائزة اللا ما يشينه ، وكذلك اقرار العاقل على نفسه فيما يوجب حكما في الشرع ، سواء كان مسلما أو كافرا مطيعا أو عاصيا أو فاسقا وعلى كل حال الا ان يكون عبدا. ويمكن ان يستدل عليه من الآيات المتقدمة ـ فليتأملها.

فأما شهادة ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض فجائزة إذا كانوا عدولا من غير استثناء أحد ، لأنه تعالى شرط العدالة في قوله ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) ولم يشترط سواها. ويدخل في عموم هذا لقول ذوو القرابات كلهم ، وكذلك قوله ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم ) يدل أيضا عليه.

والذي يدل على جواز شهادة الانسان على أقربائه خاصة قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء الله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) (١) ، فان الله لما حكى عن الذين سعوا إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمر بنى أبيرق وقيامهم بالعذر وذبهم عنهم من حيث كانوا أصحاب فقر وفاقة

__________________

(١) سورة النساء : ١٣٥.

٤١٠

أمر بعده المؤمنين بهذه الآية ان يلزموا العدل وأن يكونوا قوامين بالقسط ، أي العدل ( شهداء لله ولو على أنفسكم ) يعني ولو كانت شهادتكم عى أنفسكم أو على آبائكم وأمهاتكم أو على أقرب الناس إليكم ، وقوموا فيها بالعدل وأقيموا على صحتها وقولوا فيها بالحق ولا تميلوا فيها لغنى غني ولا فقر فقير فتجوروا ، فان الله ساوى بين الغني والفقير فيما ألزمكم من إقامة الشهادة لكل واحد منهما في ذلك وفى غيره من الأمور كلها منكم ( فلا تتبعوا الهوى ) في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها لغني أو فقير إلى أحدهما ( فتعدلوا عن الحق ) أي تجوروا عنه وتضلوا ولكن قوموا بالقسط وأدوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها بالعدل لمن شهدتم عليه وله.

ونصب ( شهداء ) على الحال من الضمير في قوله ( قوامين ) ، وهو ضمير ( الذين آمنوا ). ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لكونوا ، كقولهم ( هذا حلو حامض ).

ويجوز أن يكون صفة للقوامين ، والمعنى كونوا قوامين بصفة من يصلح أن يكون شهيدا على سائر عباده.

( فصل )

فان قيل : كيف تكون شهادة الانسان على نفسه حتى يأمر الله بذلك؟ قلنا : بأن يكون عليه حق لغيره فيقر له به ولا يجحده ، فأدب الله المؤمنين أن لا يفعلوا ما فعله الذين عذروا بنى أبيرق في سرقتهم ما سرقوا أو خيانتهم ما خانوا وإضافتهم ذلك إلى غيرهم ـ فهذا الذي اختاره الطبري ونذكر في باب القضايا.

وقال السدي : انما نزلت وقد اختصم رجلان إلى عند رسول الله صلى الله عليه وآله غني وفقير ، فكان عليه‌السلام مع الفقير لظنه أن الفقير لا يظلم الغنى ، فأبى سبحانه الا القيام بالقسط في أمر الغنى والفقير ، فقال تعالى ( ان يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ).

٤١١

وهذا الوجه فيه بعد ، لان النبي لا يجور في الحكم ولا يميل إلى أحد الخصمين ، سواء كان غنيا أو فقيرا ، لان ذلك ينافي عصمته.

فعلى هذا لا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه ، وشهادة الوالد لولده وعليه ، وشهادة الرجل لزوجته وعليها ، وكذا لا بأس بشهادتها له وعليه فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه إذا كان مع كل واحد منهم غيره من أهل الشهادة.

ولا تقبل شهادة واحد منهم لصاحبه مع يمينه كما جاز مع الأجنبي ، فأما شهادة الولد لوالده وعليه فالمرتضى يجيزها أيضا على كل حال ، وإذا كان معه غيره من أهل الشهادات فظاهر الآية معه. وان كانت شهادة الانسان على نفسه مجازا لأنها اقرار على نفسه ، وشهادته على أقربائه والوالدين حقيقة ، فان الكلمة الواحدة تذكر ويراد بها الحقيقة والمجاز معا إذ لا مانع. وجمهور فقهائنا أيضا على ذلك ، لعموم الآيتين اللتين قدمناهما ، الا شهادة الولد على والده فإنهم لا يجوزونها لخبر يروونه.

وعذرهم في تأويل هذه الآية ما روي عن ابن عباس أنه قال : ان الله تعالى أمير المؤمنين بهذه الآية أن يقولوا الحق على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم لا يميلون إلى غني لغناه ولا إلى فقير لفقره. قالوا : وهذا أولى ، لأنه أليق بالظاهر على كل وجه من غير عدول عنه ، وهو أمر بقبول الحق وفعله وملازمة العدل والامر به.

( فصل )

ومما يؤكد القول الأول ما روي عن الحسن أنه قال : يعنى بالآية الشهادة خاصة ، وقوله ( ولو على أنفسكم ) أي ولو كانت شهادتكم تضر في الحال أنفسكم في الحال أو المآل ، لان على يقتضي ذلك.

ومعنى ( كنوا شهداء لله ) أي ليكن شهادتكم لأجل رضاء الله ولما أمر الله به وهو القسط.

٤١٢

وقال ابن شهاب : كان سلف المؤمنين على جواز شهادة كل ذي قرابة لمن تقرب منه وعليه حتى دخل الناس فيما بعدهم وظهرت منهم أمور حملت الولاة على اتهامهم فتركت شهادة من يتهم إذا كان من أقربائهم.

والاعتماد في المنع من شهادة الأقارب على التهمة التي تلحق لأجل النسب غير صحيح ، لأنه يلزم على ذلك أن لا تقبل شهادة الصديق لصديقه ولا الجار لجاره ، لان التهمة متطرقة. على أن العدالة مانعة من التهمة وحاجزة عنها.

وما روي عن النبي عليه‌السلام من أنه لا يجوز قبول شهادة المتهم والخصم والخائن والأجير له ما لم يفارقه ولا شهادة من خالف من أهل البدع وإن كان على ظاهر السنن والعفاف. فليس ذلك مستخرجا من اجتهاد أو عفاف ، وانما هو أيضا نص الهي به. ويمكن أن يستدل من الآيات المتقدمة على ذلك ، وقال تعالى ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) ، فبين عليه‌السلام كما علمه الله تعالى.

( فصل )

أما شهادات القرابات بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا فقد ذكرنا أن دليلنا قوله تعالى ( واشهدوا ذوي عدل منكم ) ، فشرط ـ كما ترى ـ العدالة وأن يكون من جملة المؤمنين بقوله ( منكم ) ، لا أن يكون عدلا عند نحلته وأهل ملته ولم يشترط سواها ويدخل في عموم هذا ذو القرابات كلهم.

وقوله ( واستشهدوا شهيدين ) يدل أيضا على هذه المسألة.

وما يقول المخالف : الولد جزء من أبيه ، فكأنه شهد لنفسه إذا شهد لما هو بعضه. فهذا غير محصل ، لان الولد ـ وإن كان مخلوقا من نطفة أبيه ـ ليس ببعض له على الحقيقة ، بل لكل واحد منهما حكم يخالف حكم صاحبه. وكذلك يسترق

٤١٣

الولد برق أمه وإن كان الأب جزءا على بعض الوجوه ، ويحرر بحرية الام وإن كان الأب عبدا كذلك ، والا لم يسر حكم واحد منهما إلى صاحبه هنا ، ولذلك تقبل شهادة العبيد لساداتهم إذا كان العبيد عدولا [ ويقتل أيضا على غيرهم وبهم ، ولا يقتل على ساداتهم العبيد وإن كان العبيد عدولا ] (١) ودليلنا عليه اجماع الفرقة.

ويمكن أن يستدل من القرآن على ذلك أيضا. ولو كنا ممن يثبت الاحكام بالأقيسة لكان لنا أن نقول : إذا كان العبد العدل بلا خلاف تقبل شهادته على رسوله وعلى آله ـ في رواية عنه وعنهم ـ فلان تقبل شهادته على غيره أولى. على أن العبيد العدول داخلون في عموم الآية ويحتاج في اخراجهم منها إلى دليل.

ولا يعترض على هذا بالنساء ، لأنهن داخلات في الظواهر التي ذكرناها ، مثل قوله ( ذوي عدل منكم ) وقوله ( شهيدين من رجالكم ) ، فأخرجن النساء من هذه الظواهر لأنهن ما دخلن فيها.

وكذلك شهادة الأعمى مقبولة إذا كان عدلا ، لان الأعمى داخل في ظواهر الآيات ، ولا يمنع عماه من كونها متناولة له.

ومعول من خالفنا في هذه المسألة على أن الأعمى تشتبه عليه الأصوات. وهذا غلط فاحش ، لان الضرير يعرف زوجته ووالديه وأولاده ضرورة ، ولا يدخل عليه شك في ذلك كله. ولو كان لا سبيل له إلى ذلك لم يحل له وطوء زوجته ، للتجويزة أن تكون غير من عقد عليها.

وان استدل المخالف بقوله ( وما يستوي الأعمى والبصير ) (٢) فالجواب عنه أن الآية مجملة لم تذكر ما يستوون فيه. وادعاء العموم فيما لم يذكر غير صحيح ، وظواهر آيات الشهادة تتناول الأعمى كتناولها البصير إذا كان عدلا ، لان قوله ( وأشهدوا ذوي

__________________

(١) الزيادة من م.

(٢) سورة فاطر : ١٩.

٤١٤

عدل منكم ) و ( استشهدوا شهيدين من رجالكم ) يدخل فيه الأعمى كدخول البصير ، فإن كان الذي يشهد عليه يحتاج فيه إلى الرؤية حتى تصح الشهادة فيه فلا تقبل حينئذ شهادة الأعمى فيه. فإن كان في وقت اشهاد الأعمى كان صحيحا ثم عمي فشهادته مقبولة في ذلك أيضا.

( فصل )

وقد مست الحاجة ههنا وفى مواضع كثيرة من كتابنا هذا إلى أن يفرق بين العموم والمجمل لتتمشى تلك الاستدلالات التي أوردناها :

اعلم أن الفرق بين العموم والمجمل : هو أن كل لفظ فعل لأجل ما أريد به فهو عموم ، وكل لفظ فعل لأجل ما أريد وما لم يرد فهو مجمل.

مثال الأول : قوله تعالى ( اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) (١) فلو خلينا وتلك الآية لقلنا اليهودي والنصراني مثل الوثني ، وكل من تناوله هذا الاسم وكنا فاعلين بموجب اللفظ وهو العموم.

وأما مثال الثاني : فهو قوله ( أقيموا الصلاة ) (٢) فلو فعلنا كل صلاة لكنا فاعلين ما لم يرد منا. وكذلك قوله ( خذ من أموالهم صدقة ) (٣) فإنه لا يجب ان يؤخذ كل صدقة بل صدقة مخصوصة.

وعن داود بن الحصين قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : أقيموا الشهادة على الوالد والولد ولا تقيموها على الأخ في الدين للصبر. قلت : وما الصبر؟ قال : إذا تعدى فيه صاحب الحق الذي يدعيه قبله خلاف ما أمر الله

__________________

(١) سورة التوبة : ٥.

(٢) سورة البقرة : ٤٣.

(٣) سورة التوبة : ١٠٣.

٤١٥

به ورسوله (١).

ومثال ذلك : أن يكون لاحد على آخر دين وهو معسر ، وقد أمر الله بانظاره حتى يتيسر قال ( فنظرة إلى ميسرة ) (٢) ، ويسألك أن تقيم الشهادة له وأنت تعرفه بالعسر فلا يحل لك أن تقيم الشهادة في حال العسر ، وقال : لا تشهد بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفك.

وكلام الشيخ أبى جعفر الطوسي أن شهادة الولد لوالده جائزة ولا تجوز عليه.

فدليله الحديث النبوي الذي رواه المعصومون من أهل بيته ، فهو بيان لما أجمله الله في كتابه ، ويخصص به كثير من عموم القرآن.

وأما الآية التي يرى أنها دالة على خلاف هذا ـ وهي قوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين ) (٣) فهي وقوله ( يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين شهداء لله بالقسط ولا يجر منكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ) (٤) فالخطاب للولاة ، أي كونوا قوامين لأجل طاعة الله بالعدل والحكم في حال كونكم شهداء أي وسائط بين الخالق والخلق أو بين النبي وأمته كما قال ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) (٥) ، فالقائم بتنفيذ احكام الله بين خلقه إذا وفى بما عليه من حقه فهو شهيد لله على من وليه والرسول شهيد عليه بما نقله إليه.

والباء في قوله ( بالقسط ) متعلقة بـ ( قوامين ) ، أي كونوا قوامين بالقسط

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٥ / ١٤٢.

(٢) سورة البقرة : ٢٨٠.

(٣) سورة النساء : ١٣٥.

(٤) سورة المائدة : ٨.

(٥) سورة البقرة : ١٤٣.

٤١٦

شهداء بالعدل لله ، يعنى دوموا على فعل العدل والحق ، وليكن ذلك منكم لله لا لأمر آخر.

وقال أبو مسلم : يجوز أن تكون الشهادة ههنا بمعنى الحضور ، فيكونوا مأمورين بإقامة الحق والعدل ، وتحضروا المواضع التي تحضرونها لذلك لا تدعونه في وقت ولاحال ، أي شاهدوا من شاهدتم بالحق دون غيره ولا تزولوا عنه أبدا.

وفى تغاير ترتيب الآيتين مع الاتفاق في الألفاظ خبيئة لطيفة فليتأملها يقف عليها إن شاء الله.

( باب )

( شهادة من خالف الاسلام )

ولما بين الله تعالى في آي كثيرة انه لا يجوز قبول شهادة من خالف الاسلام على المسلمين في حال الاختيار ، أجاز تعالى قبول شهادتهم في حال الضرورة في الوصية خاصة ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم ) (١) فاللذان منكم مسلمان واللذان من غيركم ذميان من أهل الكتاب.

وقد قرئ ( شهادة بينكم ) (٢) ، أي ليقيم شهادة بينكم اثنان ، كما أن من رفع فنون أولم ينون فهو على نحو من هذا ، أي مقيم شهادة بينكم أو شهادة بينكم ( اثنان ذوا عدل منكم ) أي ينبغي أن تكون الشهادة المعتمدة هكذا.

وقرئ ( ولا يكتم شهادة الله ) الله على الوجهين : فالقصر بالجر حذف منه حرف القسم ، وبالمد عوض منه همزة الاستفهام ، كأنه قال : القسم بالله انا إذا لمن

__________________

(١) سورة المائدة : ١٠٦.

(٢) بتنوين ( شهادة ).

٤١٧

الظالمين. وفى مجيئ القسم وحرف الاستفهام قبله تهيب.

وذكر أبو جعفر عليه‌السلام : ان سبب نزول هذه الآية ما قال أسامة بن زيد عن أبيه قال : كان تميم الداري وأخوه عدي نصرانيين ، وكان متجرهما إلى مكة ، فلما هاجر [ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المدينة قدم ابن أبي مارية مولى عمرو بن العاص المدينة ] (١) وهو يريد الشام تاجرا ، فخرج هو وتميم الداري وأخوه عدي حتى إذا كانوا ببعض الطرق مرض ابن أبي مارية ، فكتب وصية بيده بحيث لا يدري بها أحد ودسها في متاعه ودفع المال إليهما وأوصى إليهما وقال : أبلغا هذا أهلي. فلما مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ، ثم رجعا بباقي المال إلى الورثة فلما فتش القوم المال نظروا إلى الوصية وفقدوا بعض ما كان فيها ولم يجدوا المال تاما ، فكلموا تميما وصاحبه فقالا : لاعلم لنا به وما دفعه إلينا أبلغناه كما هو ، فرفعوا أمرهم إلى النبي عليه‌السلام فنزلت هذه الآية. ومثله ذكر الواقدي (٢).

وقيل في معنى الشهادة ههنا ثلاثة أقوال :

أحدها ـ الشهادة التي تقام بها الحقوق عند الحكام ، مصدر شهد يشهد إذا أظهر ما عنده من العلم بالشئ المتنازع فيه لإبانة حق عند حاكم أو غيره.

الثاني ـ شهادة الحضور لوصيين.

الثالث ـ شهادة ايمان بالله إذا ارتاب الورثة بالوصيين ، من قول القائل ( أشهد الله أني لمن الصادقين ).

والأولى أقوى وأليق بالقصة.

وفي كيفية الشهادة قولان :

أحدهما ـ أن يقول صحيحا كان أو مريضا : إذا حضرني الموت فافعلوا كذا

__________________

(١) الزيادة من ج.

(٢) انظر القصة في تفسير البرهان ٥٠٨ / ١ وأسباب النزول للواحدي ص ١٤٢.

٤١٨

وكذا ـ ذكره الزجاج.

الثاني ـ إذا حضر أسباب الموت من المرض.

( فصل )

وقوله تعالى ( شهادة بينكم ) ، قيل في رفعه ثلاثة أقوال : أحدها : ان يكون بالابتداء ، وتقديره شهادة بينكم شهادة اثنين ، ويرتفع اثنان بأنه خبر الابتداء ، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقال أبو علي الفارسي : واتسع في بين وأضيف إليه المصدر ، وذلك يدل على قول من يقول إن الظرف الذي يستعمل اسما يجوز ان يستعمل اسما في غير الشعر ، كما قال ( لقد تقطع بينكم ) (١) فيمن رفع.

الثاني : على تقدير محذوف ، وهو عليكم شهادة بينكم ، أو مما فرض عليكم شهادة بينكم ، ويرتفع اثنان بالمصدر ارتفاع الفاعل بفعله ، وتقديره [ ان يشهد اثنان الثالث : ان يكون الخبر إذا حضر ، فعلى هذا لا يجوز ان يرتفع اثنان بالمصدر ] (٢) لأنه خارج عن الصلة بكونه بعد الخبر لكن على تقدير ليشهد اثنان ، ولا يجوز ان يتعلق ( إذا حضر ) بالوصية لامرين : أحدهما ان المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، لأنه لو عمل فيما قبله للزم ان يقدر وقوعه في موضعه ، فإذا قدر ذلك لزم تقديم المضاف إليه على المضاف ، ومن ثم لم يجز القال زيد حين يأتي.

والاخر ان الوصية مصدر لا يتعلق به ما تقدم عليه.

وقوله ( إذا حضر أحدكم الموت ) يعني قرب أحدكم الموت ، كما قال ( حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان ) (٣) وقال ( حتى إذا جاء أحدهم الموت

__________________

(١) سورة الأنعام : ٩٤.

(٢) الزيادة من ج.

(٣) سورة النساء : ١٨.

٤١٩

توفته رسلنا ) (١) وقال ( حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون ) (٢) فكل ذلك يريد المقاربة ، ولولا ذلك لما أسند إليه القول بعد الموت.

( فصل )

واما قوله ( حين الوصية ) فلا يجوز ان يحمل على الشهادة ، لأنها إذا عملت في ظرف من الزمان لم يعمل في ظرف آخر منه. ويمكن حمله على ثلاثة أشياء : أحدها ان تعلقه بالموت كأنه قال والموت في ذلك الحين بمعنى قرب منه ، الثاني على حضر اي إذا حضر في هذا الحين ، الثالث ان يحمله على البدل من إذا ، لان ذلك الزمان في المعنى هو ذلك الزمان فيبدله منه فيكون بدل الشئ من الشئ إذا كان إياه.

وقوله ( اثنان ذوا عدل منكم ) خير المبتدأ الذي هو شهادة ، وتقديره شهادة بينكم شهادة اثنين على ما قدمناه ، لان شهادة لا تكون الا من اثنين على الغالب.

وقوله ( منكم ) صفة لقوله ( اثنان ) ، كما أن ( ذوي عدل ) صفة لهما ، وفي الظرف ضمير ، وفى ( منكم ) قولان : أحدهما ما قال ابن عباس اي من المسلمين ، وهو قول الباقر والصادق عليهما‌السلام. الثاني قال عكرمة من حي الموصى. والأول ظاهر واضح ، وهو اختيار الرماني ، لأنه لا حذف فيه.

وقوله تعالى ( أو آخران من غيركم ) تقديره أو شهادة آخرين من غيركم ، وحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه. و ( من غيركم ) صفة للآخرين ، اي آخران كائنان من غيركم.

وقيل في معنى غيركم قولان أيضا : أحدهما قال ابن عباس وجماعة انهما من غير أهل ملتكم ، وهو قولهما عليهما‌السلام. الثاني قال الحسن اي من غير

__________________

(١) سورة الأنعام : ٦١.

(٢) سورة المؤمنون : ٩٩.

٤٢٠