وجوابه : إنّ كثرة استعمال لفظ في معنى وصحّة ذلك الاستعمال مع كثرته دليل على أنّ هذا الاستعمال لا يعتمد على القرينة ولا يضرّ احتمال وجود بعض القرائن الحاليّة وغيرها أحياناً لأنّه يتصوّر في استعمال واحد أو بالنسبة إلى موارد معدودة من الاستعمال لا بالنسبة إلى الكثير منه ، فإذا ثبت أنّ صحّة الاستعمال في هذه الموارد لم يعتمد على القرينة نعلم بأنّها نشأت من الوضع.
فالإنصاف أنّ الاطّراد وعدمه من أحسن علائم الحقيقة والمجاز ، وعليه العمل في كشف معاني الألفاظ ، واعراض جمع من الأعلام عنه هنا قولاً ، مع التزامهم به في الكتب الفقهيّة عملاً ، غير ضارّ.
الأمر الثاني : أنّه لا يجري في الاطّراد أيضاً ما مرّ من إشكال الدور ، لأنّ المستعلم هنا يستعلم الوضع من كثرة استعمالات أهل اللسان ويكون جاهلاً بالوضع ولا يكون المستعلم والعالم واحداً.
الأمر الثالث : أنكر المحقّق العراقي رحمهالله كون الاطّراد من العلائم وحاصل كلامه : إنّه إمّا أن يكون المراد من الاطّراد الاطّراد في التبادر ، أو الاطّراد في الاستعمال ، فإن كان المراد هو الاطّراد في التبادر فمعناه تبادر معنى خاصّ من لفظ خاصّ في موارد كثيرة ، ومرجع هذا إنّه يعتبر في دلالة التبادر على الوضع عدم إتّكائه على القرينة ، وهو يحرز بإطراد التبادر ، فيكون الاطّراد حينئذٍ شرطاً من شرائط كون التبادر علامة وليس علامة مستقلّة ، وإن كان المراد هو الثاني فهو ليس منحصراً بالمعنى الحقيقي لوجوده في المجازات أيضاً فلا يمكن أن يكون علامة(١).
أقول : نختار الشقّ الثاني من كلامه. وأنّ المراد من الاطّراد هو الاطّراد في الاستعمال ، لكّنا نقول في جوابه : إنّ أدنى تأمّل في محاوراتنا اليوميّة يدلّنا على أنّ الاستعمالات الحقيقيّة أكثر من الاستعمالات المجازيّة بمراتب ، وما قيل من أنّ أكثر كلمات العرب مجازات قول زور ، ولا أساس له ، نعم يمكن أن يقال : إنّ المجاز في الأشعار والخطب كثير مطّرد ، ولكنّه أيضاً لا يكون بمرتبة كثرة الحقيقة فيهما ، وحينئذٍ يكون اطّراد الاستعمال سبباً للاطمئنان بأنّه مستعمل في المعنى الحقيقي ، وأمّا في الكلمات المتعارفة فالأمر أوضح ، وإن شئت اختبر نفسك في يوم واحد
__________________
(١) راجع بدائع الأفكار : ج ١ ، ص ٩٧ ـ ٩٨.