المشروب ، فلو فرضنا أنّ الطبيب علم من بعض القرائن عدم امتثاله وارتكابه لما نهى عنه وبالنتيجة دوام مرضه وموته ، فهل يمكن حينئذٍ أن يستند موت المريض إلى علم الطبيب؟ وهكذا إذا علم الاستاذ الممتحن عدم نجاح تلميذه في الامتحان من بعض القرائن من قبل ، فهل يصحّ أن يستند عدم نجاحه إلى علم الاستاذ؟ أو فرضنا اختراع آلة ينعكس فيها جميع أفعال العباد والحوادث الآتية فهل يجوز استناد جميع تلك الحوادث إلى تلك الآلة؟ كلاّ ، فإنّ علم الباري تعالى بأفعال عباده من هذا الباب.
والإنصاف أنّ هذا الدليل أشبه شيء بالمغالطة ، وسيأتي أنّ الميل إلى مذهب الجبر ليس له دليل فلسفي برهاني ، بل له جذور أخلاقيّة أو اجتماعيّة أو نفسانيّة ، وأنّ الإنسان يميل إليه ويلتزم به لأن يكون مستريحاً في المعاصي في مقابل وجدانه القاضي بعصيانه والحاكم باستحقاقه للمذمّة والعقاب ، وقد قال الله تعالى في حقّ منكري القيامة : ( بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ) (١) وهكذا حال منكري الاختيار المتمسّكين بمذهب الجبر.
هذا كلّه ما استدلّ به الجبريون المعتقدون بالله.
وهناك وجوه اخرى للقول بالجبر يشترك فيها كلتا الطائفتين الالهيّون والمادّيون :
وهو أنّه لو كنّا مختارين في أعمالنا لوجب القدرة على تكرار الأعمال بعينها ، فإذا ألقينا حجراً في موضع خاصّ وكان هو معلولاً لاختيارنا وإرادتنا فلنكن قادرين على إلقائه في نفس ذلك الموضع في المرّة الثانيّة مع أنّه نتخلّف عنه غالباً ، بل قد يقع على نفس الموضع السابق صدفة.
وأجاب عنه المحقّق الطوسي رحمهالله : بوجهين ولنا جواب ثالث لعلّه أدقّ منهما :
الأوّل : فهو النقض بأنّه قد يصدر عنّا أعمال تكراريّة متشابهة كحركة اليد والأصابع.
__________________
(١) سورة القيامة : الآية ٥.