اعتمادهم عليها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع ، لأنه ربما يكون طرف الاحتمال تلف النفوس والأموال وهتك الأعراض ، فلو كان اعتمادهم على الطرق لمحض رجاء إدراك الواقع لكان الاحتياط بعدم الاعتماد عليها في مثل هذه الموارد مما يكون خطر المخالفة عظيما ، فاقدامهم على العمل بالطرق والأمارات والاعتماد عليها مع هذا الاحتمال ليس إلا لمكان تنزيل احتمال المخالفة منزلة العدم وكأنه لم يكن مع وجوده تكوينا.
فلا يقال : لعل اعتمادهم عليها لمكان حصول العلم لهم منها ، فان ذلك مما يكذبه الوجدان ، لوضوح وجود احتمال مخالفة الطريق للواقع في أنفسهم ومع ذلك يعتمدون عليها في إثبات مقاصدهم ، لمكان أن الطرق عندهم من حيث الإتقان والاستحكام كالأسباب المفيدة للعلم ، وليس عند العقلاء جعل وتعبد وتشريع ، حتى يقال : إن المجعول عندهم ما يكون منشأ لانتزاع هذا الاعتبار والحجية ، بل نفس الحجية والوسطية في الإثبات أمر عقلائي قابل بنفسه للاعتبار من دون أن يكون هناك ما يكون منشأ للانتزاع
________________________
البناء والالتزام من سنخ إرادة كلية على شيء في أنفسهم بنحو قابل للتخلف عنه في مقام العمل ـ كنذورهم ـ وبعد ما أمضى الشارع هذا التنزيل فلابد وأن يكون نظره أيضا في هذا التنزيل إلى إرادته لعملهم دون غيره ، وعليه فهذا التنزيل من الشارع مستتبع لهذه الإرادة التشريعية ، ولا نعنى من انتهاء أمره في أمثال هذا الجعل إلى الحكم التكليفي إلا هذا
فان قلت : إن مثل هذه الإرادة والبناء مأخوذ في مرحلة الامتثال وإرشاد إلى حكم العقل بموافقة الحجة ، ولا يمكن أن يكون منشأ اعتبار الحجة.
قلت : بعد ما لا يكون منشأ لاعتبار الحجة غير التنزيل المزبور واحتياج التنزيل إلى كون النظر إلى مثل هذا البناء والإرادة ، فلا محيص من كون البناء المزبور مصحح أصل الحجة لا من تبعاتها فارغا عن ثبوتها ، وبعد ما كان كذلك ، فلا محيص من كون رتبة هذه الإرادة والبناء الكلي سابقا عن التنزيل المزبور ، لأنه مصححه ، وبعد ذلك نسأل : بأن هذه الإرادة والبناء إرادة حقيقية ثابتة في فرض الموافقة ومخالفة الطريق للواقع؟ أو هو من الإرادات الطريقية المنحلة إلى الإرادة عند الموافقة والترخيص عند المخالفة؟ لا محيص للأول ، وإلا لازمه الالتزام بسببية الإمارة ، فلابد وأن يكون من الثاني. وعلى أي حال : يكون المنجز هذه الإرادة الطريقية ، لا صرف التنزيل المزبور ، كما أنه بناء عليه يبقى شبهة التضاد بحاله ، كما لا يخفى.