الْحَكِيمُ) فلو رأى في ذلك العرض ما يوجب تقديم الحق وإيثار جنابه لدعا عليهم لا لهم ، فما عرض عليه إلا ما استحقوا به ما تعطيه هذه الآية من التسليم لله ، والتعريض لعفوه ، وقد ورد أن الحق إذا أحب صوت عبده في دعائه إياه أخّر الإجابة عنه حتى يتكرر ذلك منه ، حبا فيه لا إعراضا عنه ، ولذلك جاء بالاسم الحكيم ، والحكيم هو الذي يضع الأشياء مواضعها ، ولا يعدل بها عما تقتضيه وتطلبه حقائقها بصفاتها ، فكان صلىاللهعليهوسلم بترداد هذه الآية على علم عظيم من الله تعالى ، فمن تلا فهكذا يتلو وإلا فالسكوت أولى به.
(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨)
عرض عيسى عليهالسلام بالمغفرة لقومه لما عصوا الله ولم يتوبوا بقوله هذا ، وذلك لما علم أن رحمته تعالى سبقت غضبه ، وقد قام النبي محمد صلىاللهعليهوسلم بهذه الآية ليلة كاملة ما زال يرددها حتى طلع الفجر ، إذ كانت كلمة غيره فكان يكررها حكاية وقصده معلوم في ذلك ، كما قيل في المثل : إياك أعني فاسمعي يا جارة ، ولما كان في هذا اشتباه على المحجوبين من المعتزلة وغيرهم الذين يقولون : إن كفر العبد منسوب إلى اختراعه ، غير مستند إلى إرادة ربه سبحانه ، وإلا لما جاز أن يعاقبه عليه ، لا جرم بين الله تعالى جوابهم على لسان نبيه عيسى عليهالسلام في قوله : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ) علل جواز تعذيبه لهم بأنهم عباده ، تنبيها على أن التعذيب لا يحتاج في جوازه عقلا إلى معصية ولا كفر ، ولهذا لم يقل : فإنهم عصوك ، وإنما مجرد كونهم عبادا يجوز للمالك أن يفعل بهم ما يشاء ، حتى وليس عليه حق ، ومهما قال فالحسن الجميل (وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ولم يقل : «إنك أنت الغفور الرحيم» أدبا مع الجناب الإلهي ، فتأدب العبد الصالح مع الله في هذا القول لما عصى قومه الله ولم يتوبوا ـ نصيحة ـ لا تدخل بين الله وبين عباده ، ولا تسع عنده في خراب بلاده ، هم على كل حال عباده ، قل كما قال العبد الصالح ، صاحب العقل الراجح ، (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) انظر في هذا الأدب النبوي أين هو مما نسب إليه من النعت البنوي! هو عين روح الله وكلمته ، ونفخ روحه وابن أمته ، ما بينه وبين ربه سوى النسب العام ، الموجود لأهل الخصوص من الأنام ، وهو التقوى لا أمر زائد ، في غير واحد ـ مناجاة ـ إلهي جلّت عظمتك أن يعصيك عاص أوينساك