إلا وهو متمكن قادر على الثناء على موجده ، وما في العالم جزء إلا وهو يعلم موجده من حيث ذاته لا من حيث ذات موجده ، وما في الوجود جزء إلا وهو متكلم يسبح بحمد خالقه ، وأعلمنا سبحانه أن من أسمائه تعالى الكريم ، ومن نزوله إلينا في كرمه يقول : يا عبدي إن شردت عني دعوتك إليّ ، يا عبدي إن عصيتني سترت عليك ، سترتك عن أعين من وليته إقامة حدودي فيك وفي أمثالك فلم أؤاخذك ، وتحببت إليك بالنعم ، وجررت على خطيئتك ذيل الكرم ، فمحا آثارها كرمي ، ودعوتك إليّ بالقدوم على نعمي فإذا رجعت إليّ قبلتك على ما كان منك ، ومن يفعل معك ذلك مع غناه عنك وفقرك إليه غيري؟ فهذا من معاملة الحق لنا على شاكلته من اسمه الكريم.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً) (٨٥)
الروح روحان : روح الأمر وهو الذي قال فيه تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وقال : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقال : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) فذكر الإنذار ، وهكذا قوله (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ) وكذلك (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا) فما جاء إلا بالإعلام وفيه ضرب من الزجر ، حيث ساق الإعلام بلفظة الإنذار ، فهو إعلام بزجر ، فإنه البشير النذير ، والبشارة لا تكون إلا عن إعلام ، فغلب في الإنزال الروحاني باب الزجر والخوف ، وأما الروح الثاني فهو الروح المضاف إلى نفس الحق تعالى بقوله : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) بياء الإضافة تنبيه على مقام التشريف ، فكان السؤال عن الروح الأول ، روح الأمر ، فإنه قال : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ) أي من أين ظهر؟ فقيل له (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) فما كان سؤالا عن الماهية كما زعم بعضهم ، فإنهم ما قالوا ما الروح؟ وإن كان السؤال بهذه الصيغة محتملا ، ولكن قوّى الوجه الذي ذهبنا إليه في السؤال ما جاء في الجواب من قول (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) ولم يقل هو كذا ، فعلوم الغيب تنزل بها الأرواح على قلوب العباد ، فإن الروح هو الملقي إلى القلب علم الغيب ، قال تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ) الآية (وَما أُوتِيتُمْ) أي أعطيتم (مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) فجعله هبة وهو علم الوهب لا علم الكسب ، فإنه لو أراد الكسب لم