اعلم أن بينة الله في عباده على قسمين : القسم الواحد هو البينة الحقيقية ، وهو قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ) يعني في نفسه ، والبينة هنا الهدى ، وأما من تقام له البينة في غيره فقد يمكن أن يقبلها ، ويمكن أن لا يقبلها والذي يقبلها إن قبلها تقليدا ، لم تكن في حقّه آية بينة ولا تنفعه ، وإنما يكون التقليد فيما يجيء به الرسول من الأحكام لا من البينات والشواهد على صدقه ، وإن لم يقبلها تقليدا ، فما قبلها إلا أن يكون هو على بينة من ربه في أن تلك آية بينة على صدق دعوى من ظهرت على يديه فيما ادعاه. واعلم أن الأمر الذي كنى عنه الحق ، بأنه بينة لك من عنده هو سفير من الله إلى قلبك من خفي غيوبه مختص بك من حضرة الخطاب الإلهي والتعريف من الله أنه من عنده ، ومن كان على بينة من ربه فقد سعد وارتفع الإشكال ، ولا بد للبينة التي يكون عليها أن تكون بينة له (وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ) الشاهد حصول صورة المشهود في النفس عند الشهود ، فيعطي خلاف ما تعطيه الرؤية فإن الرؤية لا يتقدمها علم بالمرئي ، والشهود يتقدمه علم بالمشهود ، وهو المسمى بالعقائد ، ولهذا يقع الإقرار والإنكار في الشهود ، ولا يكون في الرؤية إلا الإقرار وليس فيها إنكار ، وإنما سمي شاهدا لأنه يشهد له ما رآه بصحة ما اعتقده ، فكل مشاهدة رؤية ، وما كل رؤية مشاهدة ، وفي هذه الآية وجوه كلها مقصودة لله ، فيكون العبد على كشف من الله لما يريده به أو منه ، وذلك لا يكون إلا بإخبار إلهي وإعلام بالشيء قبل وقوعه ، وقد يكون الشاهد الذي يتلوه منه هو ما يوافقه على ذلك من النفوس التي كشف الله لها عن ذلك ، وقد يكون أي شاهد يشهد له بصدق البيند التي هو عليها ، فإنه مهما تخلّق العبد باسم ما من الأسماء ، فشاهد حاله يشهد بتصحيح أو بفساد شواهد الأحوال ، فإن من قام به توفيق في أمر من الأمور المطلوبة بالسعادة وغيرها فشاهده يصدّق دعواه أو يكذبها ، وشواهد الأحوال على ضربين : ضرب يقوم بذات صاحب الدعوى ، وضرب يقوم بذات غيره مقارنا لدعواه ، فالمنوط به كصفرة الوجل وحمرة الخجل وترك الاعتراض على الله تعالى في أحكامه ، والصبر إذا نالته المصائب في حق من ادعى أنه في مقام الرضا بالقضا والتسليم لمجاري القدرة على الإطلاق ، والضرب الثاني ينبىء عن ذاته القائم بذات غيره ، كتحدثه بانفصال كون ما معيّن عنه بهيئته وهو ساكت ، ويكون ذلك على نوعين : إما بأن يجوز أن يوصل إليه بحيلة ما حتى يقع ذلك ولم تعلم هذه الحيلة من هذا المدّعي لقرينة