اللذان وقع القرآن عليها من غير إشارة إلى تأليف كتأليف الأجسام ، وأن يكون تعذّره كتعذّر الشعر على المفحم والفصاحة على الألكن ، وان كانا قادرين على أجناس الحروف.
وذلك أنه إذا أردنا ما ذكره [و] فسّره فقد عبّر عنه بغير عبارته ؛ لأن الشعر لا يتعذّر على المفحم والفصاحة على الألكن ؛ لأن جنسيهما غير مقدور لهما ، وإنّما يتعذّر ذلك منهما لفقد العلم بكيفيّة تقديم الحروف وتأخيرها كما يتعذّر الكتابة على الأمّي لفقد العلم لا لفقد القدرة ، فقد لحق مذهب أبي القاسم بالمذهب الأوّل الّذي أبطلناه ، وان كان أخطأ في العبارة عنه.
ووجدت له في كتابه الموسوم بعيون المسائل والجوابات ما يدلّ على أنه أراد غير ما دلّ لفظه الّذي حكيناه عليه ؛ لأنه قال : واحتجّ من ذهب إلى أن نظم القرآن ليس بمعجز عنه إلّا أن الله تعالى أعجز عنه ، وأنه لو لم يعجز عنه لكان مقدورا عليه : بأنه حروف جعل بعضها إلى جنب بعض ، فإذا قدر الإنسان على أن يقول «الحمد» فهو قادر على أن يقول «الحمد لله» ، ثمّ كذلك كلّ حرف ، ثمّ قال بلخي : يقال له وكذلك قول الشاعر :
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم |
|
لا يسألون عن السواد المقبل (١) |
إنّما هو حروف لا يمتنع على أحد من أهل اللغة أن يأتي بالحرف منها بعد الحرف ، فقد كان يجب أن يكون كلّ من قدر على الحروف لا يمتنع عليه الشعر.
وهذا الكلام يدلّ منه على أن تعذر معارضة القرآن هي جهة تعذّر الشعر على المفحم ، والشعر لا يتعذّر من الفحم ؛ لأنه مستحيل منه ، ولا لفقد قدرته عليه ، وإنّما يتعذّر لفقد علمه بكيفيّة نظمه وترتيبه ، فإن ارتكب أن الشعر مستحيل من المفحم وهو قادر عليه فحش خطاؤه ، وقيل له : قد يعود المفحم شاعرا ، ولو كان الشعر يستحيل منه لما جاز أن يقدر في حال من الأحوال عليه ، وقد
__________________
(١) البيت لحسان بن ثابت ، ديوانه ١ / ٧٤