ولا يصحّ وصفه تعالى بأنه «تارك» ؛ لأن هذه اللفظة تفيد في عرف المتكلّمين ما لا يجوز عليه تعالى ؛ لأنا قد بينا فيما مضى من هذا الكتاب أن حدّ الترك هو ما ابتدئ بالقدرة بدلا من ضدّ له يصحّ ابتداؤه على هذا الوجه ، ومعنى هذا الحدّ لا يصحّ فيه تعالى.
واللغة وإن أفادت في التسمية بالترك من كان غير فاعل ، فلا نصفه تعالى مطلقا بأنه تارك على مذهب اللغة ؛ لأن عرف المتكلّمين أخصّ في أسمائه وصفاته من اللغة. وان قيدناه [و] قلنا إنه : «تارك» بمعنى أنه لم يفعل ، جاز (١).
ـ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨].
أنظر يونس : ١٠٠ من الأمالي ، ٦٤ : ١ والأعراف : ١٤٦ من الأمالي ٣٠٤ : ١.
ـ (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩].
أنظر البقرة : ٧٤ من الأمالي ، ٥٠ : ٢ والبقرة : ٨ من الذخيرة : ٥٣٦.
ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢].
[إن سأل سائل فقال :] ما الذي أثبت لهم العلم به؟ وكيف يطابق وصفهم بالعلم هاهنا لوصفهم بالجهل في قوله تعالى : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) (٢).
الجواب : قلنا : هذه الآية معناها متعلّق بما قبلها ؛ لأنّه تعالى أمرهم بعبادته ، والاعتراف بنعمته ؛ ثمّ عدّد عليهم صنوف النّعم التي ليست إلّا من جهته ؛ ليستدلّوا بذلك على وجوب عبادته ؛ وانّ العبادة إنّما تجب لأجل النعم المخصوصة ؛ فقال جلّ من قائل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ
__________________
(١) الذخيرة : ٥٩١.
(٢) سورة الزمر ، الآية : ٦٤.