بينا أن الشعر ليس بأكثر من حروف تقدّم بعضها على بعض ، وجنس الحروف مقدور لكلّ قادر على الكلام من مفحم وغيره ، فكيف يكون ذلك مستحيلا ، وإنّما أوجب تعذّر الشعر على المفحم فقد العلم بغير شبهة.
أمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى النظم ، فربما فسّر الذاهب إلى هذا المذهب قوله بما يرجع إلى الفصاحة والمعاني دون نفس النظم المخصوص ، ومن فسّر بما يرجع إلى الفصاحة كان قوله داخلا فيما تقدّم فساده.
وإن صرّح بأنه أراد الطريقة والاسلوب فقد بينا أن طريقة النظم لا يقع فيها تزايد ، ولا تفاضل ، ولا يصحّ التحدّي فيها إلّا بالسبق إليها ، وأن السبق لا بدّ فيه من وقوع المشاركة بمجرى العادة ، وأن كلّ نظم من النظوم لا يعجز أحد عن احتذائه ومساواته ، وان كان بكلام قبيح خال من فصاحة ؛ ومضى من هذا ما فيه كفاية.
وأمّا من ذهب في جهة إعجاز القرآن إلى ما تضمنه الإخبار عن الغيوب ، وهذا بلا شكّ وجه من وجوه إعجاز جملة القرآن ، وضروب من آياته ، والأدلّة على أنه من الله تعالى ، وليس بوجه الّذي قصد بالتحدّي وجعل العلم المعجز.
والّذي يبطل هذا : أن كثيرا من القرآن خال من خبر بغيب ، والتحدّي وقع بسورة غير معيّنة ، وأيضا فإنّ الاخبار عن الغيوب في القرآن على ضربين : خبر عن ماض ، وخبر عن مستقبل ، فالأوّل الأخبار عن أحوال الأمم السالفة ، والثاني مثل قوله تعالى : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) (١) ، وقوله تعالى (الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣)) (٢) ، وأمثال ذلك من الأخبار الّتي وقعت مخبراتها موافقة للاخبار عنها.
فأمّا القسم الأوّل : فهو خبر عن أمور كائنة ومشهورة شائعة ، وذلك لا يسمّى خبرا عن غيب ، وليس في ذلك إلّا ما يمكن المخالف أن يدّعي أنه مأخوذ من الكتب أو من أفواه الرجال.
__________________
(١) سورة الفتح ، الآية : ٢٧.
(٢) سورة الروم ، الآيات : ١ ـ ٣.