الله تعالى الآن عالم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا ، وهو في الأزل إن كان عالما بأنه كان قد وجد كان هذا جهلا لا علما ، واذا لم يكن عالما بأنه قد وجد كان جهلا لا علما ، وإذا لم يكن عالما وهو الآن عالم فقد ظهر حدوث العلم بأن العالم كان قد وجد قبل هذا ، وهكذا القول في كل حادث ، وأما الإرادة فلا بد من حدوثها فإنها لو كانت قديمة لكان المراد معها ، فإن القدرة والإرادة مهما تمتا وارتفعت العوائق منها وجب حصول المراد ، فكيف يتأخر المراد عن الإرادة والقدرة من غير عائق؟ فلهذا قالت المعتزلة بحدوث إرادة في غير محل وقالت الكرامية بحدوثها في ذاته وربما عبروا عنه بأنه يخلق ايجادا في ذاته عند وجود كل موجود وهذا راجع إلى الإرادة.
وأما الكلام فكيف يكون قديما وفيه إخبار عما مضى ، فكيف قال في الأزل (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (١) ولم يكن قد خلق نوحا بعد ، وكيف قال في الأزل لموسى (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) (٢) ولم يخلق بعد موسى ، فكيف أمر ونهى من غير مأمور ولا منهي ، وإذا كان ذلك محالا ثم علم بالضرورة أنه آمر وناه ، واستحال ذلك في القدم ، علم قطعا أنه صار آمرا ناهيا بعد أن لم يكن ، فلا معنى لكونه محلا للحوادث إلا هذا. والجواب أنا نقول : مهما حللنا الشبهة في هذه الصفات الثلاثة انتهض منه دليل مستقل على إبطال كونه محلا للحوادث ، إذ لم يذهب إليه ذاهب إلا بسبب هذه الشبهة ، وإذا انكشف كان القول بها باطلا كالقول بأنه محل للألوان وغيرها مما لا يدل دليل على الانصاف بها ، فنقول : الباري تعالى في الأزل علم بوجود العالم في وقت وجوده وهذا العلم صفة واحدة
__________________
(١) سورة نوح الآية : ١.
(٢) سورة طه الآية : ١٢.