مركب من لحم ودم وعظم منقسم بخمسة أصابع ، ثم إنه إن فتح بصيرته علم أنه كان على العرش ولا يكون يمينه في الكعبة ثم لا يكون حجرا أسود فيدرك بأدنى مسكة أنه استعير للمصافحة ، فإنه يؤمر باستلام الحجر وتقبيله كما يؤمر بتقبيل يمين الملك ، فاستعير اللفظ لذلك ، والكامل العقل البصير لا تعظم عنده هذه الامور ، بل يفهم معانيها على البديهة ، فلنرجع إلى معنى الاستواء والنزول ، أما الاستواء فهو نسبه للعرش لا محالة ، ولا يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إلا بكونه معلوما ، أو مرادا ، أو مقدورا عليه ، أو محلا مثل محل العرض ، أو مكانا مثل مستقر الجسم ، ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقلا وبعضها لا يصلح اللفظ للاستعارة به له ، فإن كان في جملة هذه النسبة ، مع أنه لا نسبة سواها ، نسبة لا يخيلها العقل ولا ينبو عنها اللفظ ، فليعلم أنها المراد إما كونه مكانا أو محلا ، كما كان للجوهر والعرض ، اذا اللفظ يصلح له ولكن العقل يخيله كما سبق ، وإما كونه معلوما ومرادا فالعقل لا يخيله ، ولكن اللفظ لا يصلح له ، وإما كونه مقدورا عليه وواقعا في قبضة القدرة ومسخرا له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح الاستيلاء عليه لأن يمتدح به وينبه به على غيره الذي هو دونه في العظم ، فهذا مما لا يخيله العقل ويصلح له اللفظ ، فأخلق بأن يكون هو المراد قطعا. أما صلاح اللفظ له فظاهر عند الخبير بلسان العرب ، وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إلا أوائلها ، فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى الأمير على مملكته ، حتى قال الشاعر :
قد استوى بشير على العراق |
|
من غير سيف ودم مهراق |
ولذلك قال بعض السلف رضي الله عنهم : يفهم من قوله تعالى (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (١) ما فهم من قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ
__________________
(١) سورة طه الآية : ٥