بل القديم عبارة عما هو واجب الوجود من جميع الجهات. فإن قيل اختص بجهة فوق لأنه أشرف الجهات ، قلنا أي إنما صارت الجهة جهة فوق بخلقه العالم في هذا الحيز الذي خلقه فيه. فقيل خلق العالم لم يكن فوق ولا تحت أصلا ، إذ هما مشتقان من الرأس والرجل ولم يكن إذ ذاك حيوان فتسمى الجهة التي تلي رأسه فوق والمقابل له تحت.
والوجه الثاني أنه لو كان بجهة لكان محاذيا لجسم العالم ، وكل محاذ فإما أصغر منه وإما أكبر وإما مساو ، وكل ذلك يوجب التقدير بمقدار ، وذلك المقدار يجوز في العقل أن يفرض أصغر منه أو أكبر فيحتاج إلى مقدار ومخصص.
فإن قيل : لو كان الاختصاص بالجهة يوجب التقدير لكان العرض مقدرا. قلنا : العرض ليس في جهة بنفسه ، بل بتبعيته للجوهر فلا جرم هو أيضا مقدر بالتبعية. فإنا نعلم أنه لا توجد عشرة أعراض إلا في عشرة جواهر ، ولا يتصور أن يكون في عشرين ، فتقدير الأعراض عشرة لازم بطريق التبعية لتقدير الجواهر ، كما لزم كونه بجهة بطريق التبعية.
فإن قيل : فإن لم يكن مخصوصا بجهة فوق ، فما بال الوجوه والأيدي ترفع إلى السماء في الأدعية شرعا وطبعا ، وما باله صلىاللهعليهوسلم قال للجارية التي قصد إعتاقها فأراد أن يستيقن إيمانها أين الله فأشارت إلى السماء فقال إنها مؤمنة؟ (١) فالجواب عن الأول أن هذا يضاهي قول القائل : إن لم يكن الله تعالى في الكعبة وهو بيته فما بالنا نحجه ونزوره ، وما بالنا نستقبله في الصلاة؟ وإن لم يكن في الأرض ، فما بالنا نتذلل بوضع وجوهنا على الأرض في السجود؟ وهذا هذيان. بل يقال : قصد الشرع من تعبد الخلق بالكعبة في الصلاة ملازمة الثبوت في جهة واحدة ، فإن ذلك لا محالة أقرب إلى الخشوع
__________________
(١) رواه الامام مالك. والحديث صحيح