فإن قيل : المقدمة الأخيرة غير مسلمة وهو أن نظام الدين لا يحصل إلا بإمام مطاع ، فدلوا عليها.
فنقول : البرهان عليه أن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا ، ونظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع ، فهاتان مقدمتان ففي أيهما النزاع؟ فإن قيل لم قلتم إن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا ، بل لا يحصل إلا بخراب الدنيا ، فإن الدين والدنيا ضدان والاشتغال بعمارة أحدهما خراب الآخر ، قلنا : هذا كلام من لا يفهم ما نريده بالدنيا الآن ، فإنه لفظ مشترك قد يطلق على فضول التنعم والتلذذ والزيادة على الحاجة والضرورة ، وقد يطلق على جميع ما هو محتاج إليه قبل الموت. وأحدهما ضد الدين والآخر شرطه ، وهكذا يغلط من لا يميز بين معاني الألفاظ المشتركة. فنقول : نظام الدين بالمعرفة والعبادة لا يتوصل إليهما إلا بصحة البدن وبقاء الحياة وسلامة قدر الحاجات من الكسوة والمسكن والأقوات ، والأمن هو آخر الآفات ، ولعمري من أصبح آمنا في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ، وليس يأمن الإنسان على روحه وبدنه وماله ومسكنه وقوته في جميع الأحوال بل في بعضها ، فلا ينتظم الدين إلا بتحقيق الأمن على هذه المهمات الضرورية ، وإلا فمن كان جميع أوقاته مستغرقا بحراسة نفسه من سيوف الظلمة وطلب قوته من وجوه الغلبة ، متى يتفرغ للعلم والعمل وهما وسيلتاه إلى سعادة الآخرة ، فإذن بان نظام الدنيا ، أعني مقادير الحاجة شرط لنظام الدين.
وأما المقدمة الثانية وهو أن الدنيا والأمن على الأنفس والأموال لا ينتظم إلا بسلطان مطاع فتشهد له مشاهدة أوقات الفتن بموت السلاطين والأئمة ، وإن ذلك لو دام ولم يتدارك بنصب سلطان آخر مطاع دام الهرج وعم السيف وشمل القحط وهلكت المواشي وبطلت الصناعات ، وكان كل غلب سلب ولم يتفرغ أحد للعبادة والعلم إن بقي حيا ، والأكثرون يهلكون تحت ظلال السيوف ، ولهذا قيل : الدين والسلطان توأمان ، ولهذا قيل : الدين أس