بالبرهان والملك ساكت ، فقال : أيها الملك إن كنت صادقا في ما ادعيته فصدقني بأن تقوم على سريرك ثلاث مرات على التوالي وتقعد على خلاف عادتك ؛ فقام الملك عقيب التماسه على التوالي ثلاث مرات ثم قعد ، حصل للحاضرين علم ضروري بأنه رسول الملك قبل أن يخطر ببالهم أن هذا الملك من عادته الإغواء أم يستحيل في حقه ذلك ، بل لو قال الملك صدقت وقد جعلت رسولا ووكيلا لعلم أنه وكيل ورسول ، فاذا خالف العادة بفعله كان ذلك كقوله أنت رسولي ، وهذا ابتداء نصب وتولية وتفويض ، ولا يتصور الكذب في التفويض وإنما يتصور في الإخبار ، والعلم يكون هذا تصديقا وتفويضا ضروريا ، ولذلك لم ينكر أحد صدق الأنبياء من هذه الجهة ، بل أنكروا كون ما جاء به الأنبياء خارقا للعادة وحملوه على السحر والتلبيس أو أنكروا وجود رب متكلم آمر ناه مصدق مرسل ، فأما من اعترف بجميع ذلك واعترف بكون المعجزة فعل الله تعالى حصل له العلم الضروري بالتصديق ، فإن قيل : فهب أنهم رأوا الله تعالى بأعينهم وسمعوه بآذانهم وهو يقول هذا رسولي ليخبركم بطريق سعادتكم وشقاوتكم ، فما الذي يؤمنكم أنه أغوى الرسول والمرسل إليه وأخبر عن المشقى بأنه مسعد وعن المسعد بأنه مشقى فان ذلك غير محال إذا لم تقولوا بتقبيح العقول؟ بل لو قدر عدم الرسول ولكن قال الله تعالى شفاها وعيانا ومشاهدة : نجاتكم في الصوم والصلاة والزكاة وهلاككم في تركها ، فبم نعلم صدقه؟ فلعله يلبس علينا ليغوينا ويهلكنا ، فإن الكذب عندكم ليس قبيحا لعينه وإن كان قبيحا فلا يمتنع على الله تعالى ما هو قبيح وظلم ، وما فيه فيه هلاك الخلق أجمعين ، والجواب : إن الكذب مأمون عليه ، فإنه إنما يكون في الكلام وكلام الله تعالى ليس بصوت ولا حرف حتى يتطرق إليه التلبيس بل هو معنى قائم بنفسه سبحانه ، فكل ما يعلمه الإنسان يقوم بذاته خبر عن معلومه على وفق علمه ولا يتصور الكذب فيه ، وكذلك في حق الله تعالى ، وعلى الجملة : الكذب في كلام النفس محال وفي ذلك الأمن عمّا قالوه ، وقد اتضح