وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله. (وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً) تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه. قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح. (فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما) أي الحلم وكمال الرأي. (وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة. وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج. أو لاختلاف حال العارف في الالتفات إلى الوسائط. (وَما فَعَلْتُهُ) وما فعلت ما رأيته. (عَنْ أَمْرِي) عن رأيي وإنما فعلته بأمر الله عزوجل ، ومبني ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة. (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا.
ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه.
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً)(٨٣)
(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) يعني إسكندر الرومي ملك فارس والروم. وقيل المشرق والمغرب ولذلك سمي ذا القرنين ، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها ، وقيل لأنه انقرض في أيامه قرنان من الناس ، وقيل كان له قرنان أي ضفيرتان ، وقيل كان لتاجه قرنان. ويحتمل أنه لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه ينطح أقرانه. واختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه ، والسائلون هم اليهود سألوه امتحانا أو مشركو مكة. (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً) خطاب للسائلين والهاء لذي القرنين. وقيل لله.
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً)(٨٤)
(إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) أي مكنا له أمره من التصرف فيها كيف شاء فحذف المفعول. (وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) أراده وتوجه إليه. (سَبَباً) وصلة توصله إليه من العلم والقدرة والآلة.
(فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً)(٨٦)
(فَأَتْبَعَ سَبَباً) أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه ، وقرأ الكوفيون وابن عامر بقطع الألف مخففة التاء.
(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ) ذات حمأ من حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر «حامية» أي حارة ، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين أو «حمية» على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها. ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال (وَجَدَها تَغْرُبُ) ولم يقل كانت تغرب. وقيل إن ابن عباس سمع معاوية يقرأ «حامية» فقال «حمئة» فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة (وَوَجَدَ عِنْدَها) عند تلك العين. (قَوْماً) قيل كان لباسهم جلود