الأول لذلك فإنها كانت صغيرة ولم تبلغ الحلم أو أنه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها ، أو قتلت نفسا فتقاد بها ، نبه به على أن القتل إنما يباح حدا أو قصاصا وكلا الأمرين منتف ، ولعل تغيير النظم بأن جعل خرقها جزاء ، واعتراض موسى عليه الصلاة والسلام مستأنفا في الأولى وفي الثانية قتله من جملة الشرط واعتراضه جزاء ، لأن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام ولذلك فصله بقوله : (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) أي منكرا ، وقرأ نافع في رواية قالون وورش وابن عامر ويعقوب وأبو بكر (نُكْراً) بضمتين.
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)(٧٦)
(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) زاد فيه (لَكَ) مكافحة بالعتاب على رفض الوصية ، ووسما بقلة الثبات والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير أول مرة حتى زاد في الاستنكار ثاني مرة.
(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي) وإن سألت صحبتك ، وعن يعقوب «فلا تصحبني» أي فلا تجعلني صاحبك. (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) قد وجدت عذرا من قبلي لما خالفتك ثلاث مرات. وعن رسول الله صلىاللهعليهوسلم «رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب». وقرأ نافع (مِنْ لَدُنِّي) بتحريك النون والاكتفاء بها عن نون الدعامة كقوله : قدني من نصر الحبيبين قدى. وأبو بكر (لَدُنِّي) بتحريك النون وإسكان الضاد من عضد.
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(٧٧)
(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ) قرية أنطاكية وقيل أبلة البصرة. وقيل باجروان أرمينية. (اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما) وقرئ (يُضَيِّفُوهُما) من أضافه يقال ضافه إذا نزل به ضيفا وأضافه وضيفه أنزله ، وأصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال. (فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم قال :
يريد الرّمح صدر أبي براء |
|
ويعدل عن دماء بني عقيل |
وقال :
إنّ دهرا يلمّ شملي بجمل |
|
لزمان يهمّ بالإحسان |
وانقض انفعل من قضضته إذا كسرته ، ومنه انقضاض الطير والكواكب لهويه ، أو أفعل من النقض.
وقرئ «أن ينقض» و «أن ينقاص» بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولا. (فَأَقامَهُ) بعمارته أو بعمود عمده به ، وقيل مسحه بيده فقام. وقيل نقضه وبناه. (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) تحريضا على أخذ الجعل لينتعشا به ، أو تعريضا بأنه فضول لما في (لَوْ) من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك نفسه ، واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين ، وقرأ ابن كثير والبصريان «لتخذت» أي لأخذت وأظهر ابن كثير ويعقوب وحفص الدال وأدغمه الباقون.
(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً)(٧٨)
(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله (فَلا تُصاحِبْنِي) أو إلى الاعتراض