جميع هذه القيود ، فهم أحرار والأهواء هي التي تحكمهم ، ولذلك يُعدُّ المؤمن سجين الدنيا في زنزانة تتحطّم عند الموت لتحلِّق روحه منها نحو الحرية. وهذا هو السبب في أنَّ أولياء الله يتطلّعون إلى الموت ويعدونه فوزاً «فُزْتُ وربِّ الكعبة» أو يتمنّونه «اللهمَّ عجِّل وفاتي سريعاً» ، فهم يستقبلون الموت برحابة صدر ولا يهابونه أبداً.
إذا كان دفتر أعمال الانسان أبيض كان الموت نعمة له ؛ لأنه يتخلَّص عنده من الدنيا المفعمة بالمصائد والفخاخ الشيطانية ، ويتخلَّص كذلك من قيود الدنيا ليبلغ نعمة الحرية التي ينالها المؤمن في الآخرة.
حاء : يصف النبي عيسى عليهالسلام الدنيا كما يلي :
«إنَّما الدنيا قنطرةٌ فاعبروها ولا تعمروها» (١).
الدنيا ليست هدفاً ولا غاية ، بل وسيلة ، والنظر إلى الدنيا من هذه الزاوية يعدُّ إيجابياً جداً ، ونرتكب خطأً كبيراً إذا نظرنا إليها كهدف وغاية. لذلك شبّهها النبي عيسى عليهالسلام بالجسر الذي ينبغي العبور عليه لا المكث فيه ، فالعاقل لا يبني منزلاً على الجسر ، فهو ليس محلاً للتوقف والعيش ، والعجيب إذا صدر ذلك من الانسان.
في هذا المجال ورد حديث عن الامام علي عليهالسلام يقول فيه : «عجبت لعامر الدنيا دار الفناء وهو نازل دار البقاء» (٢).
طاء : ينقل الامام علي بن الحسين عليهماالسلام مكاشفة عن أمير المؤمنين عليهالسلام فيما يخصُّ الدنيا الدانية ، حيث يقول :
«إنّي كنت بفدك في بعض حيطانها ، فإذا أنا بامرأة قد قحمت عليّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها ، فلمّا نظرت إليها طار قلبي ممَّا تداخلني من جمالها فشبهتها ببُثينة بنت عامر الجُمحي وكانت من أجمل نساء قريش ، فقالت : يا ابن أبي طالب ، هل لك أن تتزوّج فاغنيك عن هذه المسحاة وأدلك على خزائن الأرض فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك؟ فقال لها : مَن
__________________
(١) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٩ ، الحديث ٦٠٣٣.
(٢) ميزان الحكمة ، الباب ١٢٥٤٩ ، الحديث ٦٠٣٥.