وكان ابن المعتز مجتازا بسامرّاء متأسفا عليها وله فيها كلام منثور ومنظوم في وصفها ، ولما استدبر أمرها جعلت تنقض وتحمل أنقاضها إلى بغداد ويعمّر بها ، فقال ابن المعتز :
قد أقفرت سرّ من را ، |
|
وما لشيء دوام |
فالنّقض يحمل منها |
|
كأنّها آجام |
ماتت كما مات فيل |
|
تسلّ منه العظام |
وحدثني بعض الأصدقاء قال اجتزت بسامرّاء أو قال أخبرني من اجتاز بسامرّاء : فرأيت على وجه حائط من حيطانها الخراب مكتوبا :
حكم الضّيوف بهذا الرّبع أنفذ من |
|
حكم الخلائف آبائي على الأمم |
فكلّ ما فيه مبذول لطارقه ، |
|
ولا ذمام به إلّا على الحرم |
وأظنّ هذا المعنى سبق إليه هذا الكاتب فإذا هو مأخوذ من قول أرطاة بن سهية المري حيث قال :
وإنّي لقوّام لدى الضيف موهنا |
|
إذا أغدف الستر البخيل المواكل |
دعا فأجابته كلاب كثيرة |
|
على ثقة مني بأنّي فاعل |
وما دون ضيفي من تلاد تحوزه |
|
لي النّفس إلّا أن تصان الحلائل |
وكتب عبد الله بن المعتز إلى صديق له يمدح سرّ من رأى ويصف خرابها ويذم بغداد وأهلها ويفضل سامراء : كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها ، وأقعد جدرانها ، فشاهد اليأس فيها ينطق ، وحبل الرجاء فيها يقصر ، فكأن عمرانها يطوى ، وكأنّ خرابها ينشر ، وقد وكّلت إلى الهجر نواحيها ، واستحثّ باقيها إلى فانيها ، وقد تمزقت بأهلها الديار ، فما يجب فيها حقّ جوار ، فالظاعن منها ممحوّ الأثر ، والمقيم بها على طرف سفر ، نهاره إرجاف ، وسروره أحلام ، ليس له زاد فيرحل ولا مرعى فيرتع ، فحالها تصف للعيون الشكوى ، وتشير إلى ذمّ الدنيا ، بعد ما كانت بالمرأى القريب جنة الأرض وقرار الملك ، تفيض بالجنود أقطارها عليهم أردية السيوف وغلائل الحديد ، كأنّ رماحهم قرون الوعول ، ودروعهم زبد السيول ، على خيل تأكل الأرض بحوافرها وتمدّ بالنقع حوافرها ، قد نشرت في وجوهها غررا كأنّها صحائف البرق وأمسكها تحجيل كأسورة اللّجين ونوّطت عذرا كالشّنوف في جيش يتلقّف الأعداء أوائله ولم ينهض أواخره ، وقد صبّ عليه وقار الصبر ، وهبّت له روائح النصر ، يصرفه ملك يملأ العين جمالا ، والقلوب جلالا ، لا تخلف مخيلته ، ولا تنقض مريرته ، ولا يخطئ بسهم الرأي غرض الصواب ، ولا يقطع بمطايا اللهو سفر الشباب ، قابضا بيد السياسة على أقطار ملك لا ينتشر حبله ، ولا تتشظّى عصاه ، ولا تطفى جمرته ، في سن شباب لم يجن مأثما ، وشيب لم يراهق هرما ، قد فرش مهاد عدله ، وخفض جناح رحمته ، راجما بالعواقب الظنون ، لا يطيش عن قلب فاضل الحزم بعد العزم ، ساعيا على الحقّ يعمل به عارفا بالله يقصد إليه ، مقرّا للحلم ويبذله ، قادرا على العقاب ويعدل فيه ، إذ الناس في دهر غافل قد اطمأنّت بهم سيرة لينة الحواشي خشنة المرام تطير بها أجنحة السرور ، ويهب فيها نسيم الحبور ، فالأطراف على مسرة ، والنظر إلى مبرّة ، قبل أن تخب مطايا الغير ، وتسفر