لما قبلها ؛ لأنّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمّا لكونه بمعناه ، وإمّا لأنه مترتب عليه.
قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله : (قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت : لتضمن فعل التقدير معنى العلم».
قال أبو حيّان (٢) ـ رحمهالله تعالى ـ «وكسرت «إنّها» إجراء لفعل التقدير مجرى العلم».
وهذا لا يصحّ علة لكسرها ، إنّما يصحّ علة لتعليقها الفعل قبلها.
فصل
معنى التقدير في اللغة : جعل الشيء على مقدار غيره ، يقال : قدر هذا الشيء بهذا ، أي : اجعله على مقداره ، وقدّر الله ـ سبحانه ـ الأقوات ، أي : جعلها على مقدار الكفاية ، ثمّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال : قضى الله عليه ، وقدر عليه ، أي : جعله على مقدار ما يكفي في الخير ، والشر. وقيل : معنى : «قدّرنا» كتبنا. وقال الزجاج : دبرنا. فإن [قيل](٣) لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزوجل؟
فالجواب : إنّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله ، كما يقول خاصة الملك : دبرنا كذا [وأمرنا بكذا](٤) ، والمدبر ، والآمر هو الملك لا هم ، وإنّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك ، فكذا هنا.
قوله تعالى : (إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ) في موضع مفعول ، التقدير : قضينا أنها تتخلف ، وتبقى مع من يبقى حتّى يهلك ، فتلحق بالهالكين.
قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) القصة لما بشروا إبراهيم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بالولد ، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليهالسلام ، وإلى آله ، وإنّ لوطا ، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة الله.
فقالوا : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ؛ لأنهم لما هجموا عليه ؛ استنكرهم ، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه.
وقيل : خاف ؛ لأنهم كانوا شبايا مردا حسان الوجوه ، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم ، فقال هذه الكلمة.
وقيل : إنّ النكرة ضدّ المعرفة ، فقوله : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ) ، أي : لا أعرفكم ، ولا أعرف أنكم من أي الأقوام ، ولأي غرض دخلتم عليّ ، فقال : (إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ).
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٥٨٢.
(٢) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٤٤٨.
(٣) في أ : قلت.
(٤) سقط من : ب.