الله ـ تعالى ـ أكمل عقله وجعله صالحا لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين قالوا : (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) [مريم : ٢٩] فأجابهم بقوله: (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم : ٣٠].
والقول الثاني : أن المراد بهذا الوحي : الإلهام ، كقوله (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) [القصص : ٧] (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [النحل : ٦٨]. والأول أولى ؛ لأنه الظاهر من الوحي.
فإن قيل : كيف يجعله نبيا في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟.
فالجواب : لا يمتنع أن يشرفه الله ـ تعالى ـ بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في إخفاء ذلك [الوحي](١) عن إخوته : أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله.
فصل
إنما حملنا قوله ـ تبارك وتعالى ـ (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بأنك يوسف ، أي : لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال ، لأن هذا أمرا من الله تعالى ليوسف في أن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه ، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه](٢) طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفا من مخالفة أمر الله تعالى ، فصبر على تجرع تلك المرارة ، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصول إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة.
قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ) (١٨)
قوله تعالى : (وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ) الآية في «عشاء» وجهان :
أصحهما : ـ وهو الذي لا ينبغي أن [يقال](٣) غيره ـ أنه ظرف ، أي : ظرف زمان أي : جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني : جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يبكون» جملة حالية ، أي : جاءوه باكين.
والثاني : أن يكون «عشاء» جمع عاش ، كقائم وقيام.
قال أبو البقاء (٤) : «ويقرأ بضم العين ، والأصل : عشاة ، مثل : غاز وغزاة فحذفت
__________________
(١) في ب : الوقت.
(٢) سقط في : أ.
(٣) في ب : يحتال.
(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٥٠ ، وينظر في قراءتها البحر ٥ / ٢٨٨ ، والإتحاف ٢٦٣.