فإنّ الشّهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، فلا تسمع إلّا ممّن علم ، ولا تقبل إلّا منهم ، وهذا هو الأصل في الشّهادات.
ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزة ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشّهادة على الخطّ ـ أي : إذا تبيّن أنه خطّه ، أو خطّ فلان ـ صحيحة ، فكلّ من حصل له العلم بشيء ؛ جاز أن يشهد به ، وإن لم يشهده المشهود عليه. قال الله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف : ٨٦] وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ألا أخبركم بخير الشّهداء؟ الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها» (١).
قوله تعالى : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) قال مجاهد وقتادة : وما كنا نعلم أنّ ابنك يسرق ، ويصيّر أمرنا إلى هذا ، ولو علمنا بذلك ما ذهبنا به معنا ، وإنّما قلنا : ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل (٢).
وقال عكرمة : لعلّ الصّواع دفن في اللّيل ، فإنّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات(٣).
وقيل : رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله ، أمّا حقيقة الحال ، فغير معلومة لنا ، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
وعن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ ما كنا لليله ، ونهاره ، ومجيئه ، وذهابه حافظين.
وقيل : إنّ يعقوب ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لهم : فهب أنه سرق ، ولكن كيف علم الملك أن شرع بني إسرائيل أنّه من سرق يسترقّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم ، فقالوا عند ذلك : إنّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها ، فقوله : (وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ) أي : ما كنا نعلم أن الواقعة تصيبنا.
فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟.
فالجواب : لعلّ ذلك الحكم كان مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما ، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنّه كافرا.
__________________
(١) أخرجه مالك في الموطأ (٢ / ٧٢٠) كتاب الأقضية باب ما جاء في الشهادات (٣) ، ومسلم (٣ / ١٣٤٤) كتاب الأقضية : باب بيان خير الشهود (١٩ ـ ١٧١٩) وأبو داود (٣ / ٣٠٤ ـ ٣٠٥) كتاب الأقضية : باب في الشهادات (٣٥٩٦) والترمذي (٤ / ٤٧٢) كتاب الشهادات باب ما جاء في الشهداء أيهم خير (٢٢٩٥).
(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٧ / ٢٧٢) عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٥٥) عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وأبي الشيخ.
(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٢ / ٤٤٣).