والثاني : أنه و (أُنْزِلَ) أي : آمنوا بالمنزّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهر ، بدليل المقابلة في قوله : (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ). فإن الضمير يعود على النهار ، ومن جوّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على الذى (أُنْزِلَ) ، أي : واكفروا آخر المنزّل ، وأسباب النزول تخالف هذا التأويل وفي هذا البيت الذي أنشدناه فائدة ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خزيمة العبسي ، وبعده : [الكامل]
١٥١٠ ـ يجد النّساء حواسرا يندبنه |
|
يبكين قبل تبلّج الأسحار |
قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا |
|
فاليوم حين بدون للنّظّار |
يخمشن حرّات الوجوه على امرىء |
|
سهل الخليقة طيّب الأخبار (١) |
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفة اصطلاح العرب في ذلك ، وهو أنهم كانوا إذا قتل لهم قتيل لا تقوم عليه نائحة ولا تندبه نادبة ، حتى يؤخذ بثأره ، فقال هذا : من سرّه قتل مالك ، فليأت في أول النهار يجدنا قد أخذنا بثأره ، فذكر اللازم للشيء ، وهو من باب الكناية.
وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي : كيف تنشد قول الربيع : ... حين بدأن ، أو بدين؟ فقال الأصمعيّ : بدأن ، فقال : أخطأت ، فقال : بدين ، فقال : أخطأت ، فغضب الأصمعيّ ، وكان الصواب أن يقول : بدون ـ بالواو ـ لأنه من باب : بدا يبدو ، أي : ظهر ـ فأتى الأصمعي يوما للشيباني ، وقال له : كيف تصغّر مختارا؟ فقال : مخيتير ، فضحك منه ، وصفّق بيديه ، وشنّع عليه في حلقته ، وكان الصواب أن يقول : مخيّر ـ بتشديد الياء ـ وذلك أنه اجتمع زائدان ـ ، الميم والتاء ـ والميم أولى بالبقاء ؛ لعلة ذكرها التصريفيّون ، فأبقاها ، وحذف التاء ، وأتى بياء التصغير ، فقلب ـ لأجلها ـ الألف ياء ، وأدغمها فيها ، فصار : مخيّرا ـ كما ترى ـ وهو يحتمل أن يكون اسم فاعل ، أو اسم مفعول ـ كما كان يحتملها مكبّره ، وهذا ـ أيضا ـ يلبس باسم الفاعل خيّر فهو مخيّر ، والقرائن تبينه.
ومفعول (يَرْجِعُونَ) محذوف ـ أيضا ـ اقتصارا ـ أي : لعلهم يكونون من أهل الرجوع ، أو اختصارا أي : يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه.
فصل
قال القرطبيّ : والطائفة : الجماعة ـ من طاف يطوف ـ وقد يستعمل للواحد على معنى: نفس طائفة ، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلّ ما أنزل ، وأن يكون بعض ما أنزل أما الأول ففيه وجوه :
الأول : أن اليهود والنصارى استخرجوا حيلة في تشكيك ضعفة المسلمين في صحة
__________________
(١) ينظر : الدر المصون ٢ / ١٣٤.