وقال «رحمة» ؛ ليشمل جميع أنواع الرحمة ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيم إلا هو أكد ذلك بقوله : (مِنْ لَدُنْكَ) تنبيها للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه.
وقوله : (أَنْتَ الْوَهَّابُ) كأن العبد يقول : إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ ـ حقير ـ بالنسبة إلى كمال كرمك ، وغاية جودك ورحمتك ؛ فإنك أنت الوهاب.
قوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ)(٩)
قرأ أبو حاتم (١)(جامِعُ النَّاسِ) بالتنوين والنصب ـ و «ليوم» اللام للعلة ، أي : لجزاء يوم ، وقيل : هي بمعنى «في» ، ولم يذكر المجموع لأجله ، و «لا ريب» صفة ل «يوم» ، أي : لا شك فيه ، فالضمير في «فيه» عائد عليه ، وأبعد من جعله عائدا على الجمع المدلول عليه ب «جامع» ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى ، أو على العرض.
قوله : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) يجوز أن يكون من تمام حكاية قول الراسخين ، فيكون التفاتا من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيان بالاسم الظاهر ؛ دلالة على تعظيمه ، ويجوز أن يكون مستأنفا من كلام الله تعالى ، فلا التفات حينئذ.
و «الميعاد» مصدر ، وياؤه منقلبة عن واو ، لانكسار ما قبلها كميقات.
فإن قيل : لم قالوا ـ في هذه الآية ـ : إن الله لا يخلف الميعاد ، وقالوا ـ في تلك الآية ـ إنك لا تخلف الميعاد؟
فالجواب : أن هذه الآية في مقام الهيبة ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر ؛ لينتصف للمظلومين من الظالمين ، فكان ذكره باسمه الأعظم أولى في هذا المقام ، وفي تلك الآية مقام طلب العبد من ربه أن ينعم عليه بفضله ، ويتجاوز عن سيئاته ، فليس مقام الهيبة ، فلا جرم قال : (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).
فصل
اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصّون عن الزيغ ، وأن يخصّهم بالهداية والرحمة ، فكأنهم قالوا : ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا ؛ فإنها منقضية ، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة ؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة ، ووعدك حق ، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبد الآباد ، ومن وفقته وهديته ورحمته بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد.
فصل
احتج الجبائيّ ـ بهذه الآية ـ على القطع بوعيد الفساق ، قال : لأن الوعيد داخل
__________________
(١) وقرأ بها الحسن بن أبي الحسن ومسلم بن جندب.
انظر : الشواذ ١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٤٠٤ ، والدر المصون ٢ / ١٩.