أراد : أقبلت بحبليها ، فحذف الفعل ؛ للدلالة عليه.
ونظّره ابن عطية بقوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢] قال : «لأن بادىء الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة ، وليس الأمر كذلك ، وإنّما في الكلام محذوف ، يدركه فهم السامع الناظر في الأمر ، وتقديره : ـ في أمتنا ـ فلا نجاة من الموت إلا بحبل».
قال أبو حيان (١) : «وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعا ؛ لأنه مستثنى من جملة مقدّرة ، وهي : فلا نجاة من الموت ، وهو متصل على هذا التقدير ، فلا يكون استثناء منقطعا من الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعا ، متصلا ، والاستثناء المنقطع ـ كما قرره النحاة ـ على قسمين : منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل ، ومنه لا يمكن فيه ذلك ـ ومنه هذه الآية ـ على تقدير الانقطاع ـ إذ التقدير : لكن اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس ينجيهم من القتل ، والأسر ، وسبي الذراري ، واستئصال أموالهم ؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى ـ في سورة البقرة ـ : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١] ، فلم يستثن هناك».
قال محمد بن جرير الطبري : «قد ضربت الذلة على اليهود ، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا ، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة ، فقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) تقديره : لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس».
قال ابن الخطيب : «وهذا ضعيف ؛ لأن حمل لفظ «إلّا» على «لكن» خلاف الظاهر ، وأيضا : إذا حملنا الكلام على أن المراد : لكن قد يعتصمون بحبل من الله ، وحبل من الناس ، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه ، والإضمار خلاف الأصل ، فلا يصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة ، فإذا كان لا ضرورة ـ هاهنا ـ إلى ذلك ، كان المصير إليه غير جائز ، بل هاهنا وجه آخر ، وهو أن تحمل الذّلّة على كل هذه الأشياء ـ أعني : القتل ، والأسر ، وسبي الذراري ، وأخذ المال ، وإلحاق الصغار ، والمهانة ، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام ، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام ، وهو أخذ القليل من أموالهم ـ المسمّى بالجزية ـ وبقاء المهانة والصغار فيهم».
وقال بعضهم الباء ـ في قوله : «بحبل» ـ بمعنى : «مع» ، كقولك : اخرج بنا نفعل كذا ـ أي : معنا ، والتقدير : إلا مع حبل من الله.
فصل
تقدم الكلام في أن المراد بالحبل : العهد.
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٣ / ٣٣.