الأول : قال أبو مسلم : إن البياض عبارة عن الاستبشار ، والسواد عبارة عن الغم ، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) [النحل : ٥٨] ، ويقال : لفلان عندي يد بيضاء.
وقال بعضهم في الشيب : [الخفيف]
١٥٦٣ ـ يا بياض القرون سوّدت وجهي |
|
عند بيض الوجوه سود القرون |
فلعمري لأخفينّك جهدي |
|
عن عياني ، وعن عيان العيون |
بسواد فيه بياض لوجهي |
|
وسواد لوجهك الملعون (١) |
وتقول العرب ـ لمن نال بغيته ، وفاز بمطلوبه ـ : ابيضّ وجهه ، ومعناه : الاستبشار والتهلل ، ويقال ـ لمن وصل إليه مكروه ـ : اربدّ وجهه ، واغبرّ لونه ، وتغيرت صورته ، فعلى هذا معنى الآية : إن المؤمن مستبشر بحسناته ، وبنعيم الله ، والكافر على ضد ذلك.
الثاني : أن البياض والسواد يحصلان حقيقة ؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما ، ولا دليل يصرفه ، فوجب المصير إليه ، ولأبي مسلم أن يقول : بل معنا دليل يصرفه ، وهو قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) [عبس : ٣٨ ـ ٤١] ، فجعل الغبرة والقترة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلا له.
فصل
احتجوا بهذه الآية على أن المكلّف إما مؤمن ، وإما كافر ، وليس ـ هنا ـ قسم ثالث كما قاله المعتزلة ـ فلو كان ثمّ ثالث لذكره ، قالوا : ويؤيده قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) [عبس : ٣٨ ـ ٤٢].
وأجاب القاضي : بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه ؛ لأنه تعالى قال : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ،) فذكرهما منكرين ، وذلك لا يفيد العموم ، وأيضا فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم ، ومعلوم أن الكافر الأصليّ من أهل النار ، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم ، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين :
الأول : أن المراد منه كل من أسلم وقت استخراج الذريّة من صلب آدم ، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلىاللهعليهوسلم فيدخل الكل فيه.
الثاني : أنه قال : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ)، فجعل موجب العذاب هو الكفر ، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافرا أصليّا.
قال الزمخشري : هم المنافقون ، آمنوا بألسنتهم ، وأنكروا بقلوبهم.
__________________
(١) الأبيات لابن الرومي. ينظر ديوانه ٦ / ٢٤٨٣ ونهاية الأرب ٢ / ٣٠ وأمالي القالي ١ / ١٤٤.