في حضور الجمع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم ؛ لأن تخصيص مثل هذا المعجز بالواحد والاثنين لا يجوز ، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفّرت الدواعي على نقلها ، فيصير ذلك بالغا حد التواتر ، يمتنع إخفاؤه. وأيضا فإن النصارى بالغوا في المسيح ، حتى ادّعوا ألوهيته ، ومن هذا شأنه في التعصّب يمتنع أن تخفى مناقبه ، فلما أنكروه ـ وهم أحق النّاس بإظهاره ـ علمنا أنه ما كان موجودا.
وأجاب المتكلمون بأن كلامه ـ حينئذ ـ إظهار لبراءة أمّه ، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء ، فنسبهم الناس إلى الكذب ، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صلىاللهعليهوسلم وذلك يدل على معجزته ، وصدقه.
قوله : (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) «يكون» يحتمل التمام والنقصان ، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك : (يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وقال هنا (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) قيل : لأن قصّتها أغرب من قصته ؛ ذلك أنه لم يعهد ولد من عذراء لم يمسسها بشر ألبتة ، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز ، فإنه يستبعد ، وقد يعهد بمثله ـ وإن كان قليلا ـ فلذلك أتى ب «يخلق» المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سبب ظاهر ، وإن كانت الأشياء كلها بخلقه وإيجاده ـ وإن كان لها أسباب ظاهرة.
قوله : (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) هذه الجملة حال ، والبشر ـ في الأصل ـ مصدر كالخلق ، ولذلك يسوّى فيه بين المذكّر والمؤنّث ، والمفرد ، والمثنى ، والجمع ، تقول : هذه بشر ، وهذا بشر ، وهؤلاء بشر. كقولك : هؤلاء خلق.
قيل : واشتقاقه من البشرة ، وهي ظاهر الجلد ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته ، وتقدم اختلاف القرّاء في (فَيَكُونُ) وما ذكر في توجيهه.
فصل
قال المفسّرون : إنما قالت ذلك ؛ لأن البشرية تقتضي التعجّب مما وقع على خلاف العادة ؛ إذ لم تجر عادة بأن يولد ولد بلا أب.
فصل
قال القرطبيّ : «معنى قوله : (قالَتْ رَبِ) أي : يا سيدي ، تخاطب جبريل ـ عليهالسلام ـ لأنه لما تمثّل لها ، قال لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) [مريم : ١٩] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد ، فقالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟) أي : بنكاح ، وذلك : لأن العادة التي أجراها الله في خلقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح ، [أو سفاح](١).
__________________
(١) سقط في أ.