«يتجرعه» جرعة جرعة ، حيث لا يتجرأ على ابتلاعه دفعة ، ولا يستغني عنه حتى لا يتجرع ، ضرورة العطش الهالك الحالك ، (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ويروّيه ، بل ويزداده عطشا على عطش ، فقد يشرب الشارب ماء ولا يسيغه لمرض العطاش ، فقد يسيغه لو لا العطاش ، ولكنه ماء (لا يَكادُ يُسِيغُهُ) لأنه لا يروي ، بل ويزيده عطشا!
ثم (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) في الجحيم (يَأْتِيهِ ... وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فهو ذائق طعم الموت بكل بواعثه وكوارثه من كل مكان خارج وجوده ، ومن كل مكان من جسمه ، وحتى من مكان حياته وهو فمه الآكل الشارب ، فإنهما مميتان كسائر بواعثه ، وعلّه من أتعسه حيث يختص بالذكر بينها ، فأصبح باعث الحياة باعث الموت وكارثه! ولكنه لا يموت ، فهو ـ إذا ـ أموت من الموت ببأسه ، وأحيى من الحياة ببؤسها ، جمعا بين كوارث الموت والحياة ، حياة خالدة مارجة بموت خالد ، لا حظوة في تلك ولا خلاص عن ذلك (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ).
اجل! وان غواشي الكروب ، وحوازب الأمور تطرقه من كل مطرق ، وتطلع عليه من كل مطلع ، حيث (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ...)! وقد يوصف المغموم بالكرب ، والمضغوط بالخطب بأنه في غمرات الموت ، مبالغة في عظيم ما يغشاه ، وأليم ما يلقاه.
وترى إذا (ما هُوَ بِمَيِّتٍ) فأين موت النار بمن في النار صيانة على العدالة الربانية؟ ان «كل مكان» هنا هي مكانات الجحيم ، فما دام الجحيم (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) منها ، فإذا زال الجحيم فلا مكان ـ إذا ـ يأتيه الموت منه ، ولا هو كائن حتى يأتيه الموت!.
ثم الموت الآتي من قبل الله حين ختام العذاب العدل ، ليس هو من أي مكان فضلا عن كل مكان ، وانما هو من خالق الزمان والمكان ولذلك