فلذلك صحّ إدخاله في حكم كذبهم دخول الخاصّ في العامّ ، لأنّ التذييل يؤذن بشمول ما ذيّل به وزيادة. فليس وصفهم بالكذب بعائد إلى التمنّي بل إلى ما تضمّنه من الوعد بالإيمان وعدم التكذيب بآيات الله.
(وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))
يجوز أن يكون عطفا على قوله (لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام : ٢٨] فيكون جواب (لَوْ) ، أي لو ردّوا لكذّبوا بالقرآن أيضا ، ولكذّبوا بالبعث كما كانوا مدّة الحياة الأولى. ويجوز أن تكون الجملة عطفت على جملة (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] ، ويكون ما بين الجملتين اعتراضا يتعلّق بالتكذيب للقرآن.
وقوله (إِنْ هِيَ) (إن) نافية للجنس ، والضمير بعدها مبهم يفسّره ما بعد الاستثناء المفرّغ. قصد من إبهامه الإيجاز اعتمادا على مفسّره ، والضمير لمّا كان مفسّرا بنكرة فهو في حكم النكرة ، وليس هو ضمير قصّة وشأن ، لأنّه لا يستقيم معه معنى الاستثناء ، والمعنى إن الحياة لنا إلّا حياتنا الدنيا ، أي انحصر جنس حياتنا في حياتنا الدنيا فلا حياة لنا غيرها فبطلت حياة بعد الموت ، فالاسم الواقع بعد (إِلَّا) في حكم البدل من الضمير.
وجملة : (وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) نفي للبعث ، وهو يستلزم تأكيد نفي الحياة غير حياة الدنيا ، لأنّ البعث لا يكون إلّا مع حياة. وإنّما عطفت ولم تفصل فتكون موكّدة للجملة قبلها لأنّ قصدهم إبطال قول الرّسول صلىاللهعليهوسلم أنّهم يحيون حياة ثانية ، وقوله تارة أنّهم مبعوثون بعد الموت ، فقصدوا إبطال كلّ باستقلاله.
(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠))
لمّا ذكر إنكارهم البعث أعقبه بوصف حالهم حين يحشرون إلى الله ، وهن حال البعث الذي أنكروه.
والقول في الخطاب وفي معنى (وُقِفُوا) وفي جواب (لَوْ) تقدّم في نظريتها آنفا. وتعليق (عَلى رَبِّهِمْ) ب (وُقِفُوا) تمثيل لحضورهم المحشر عند البعث. شبّهت حالهم في الحضور للحساب بحال عبد جنى فقبض عليه فوقف بين يدي ربّه. وبذلك تظهر مزية التعبير بلفظ (رَبِّهِمْ) دون اسم الجلالة.