ولكنّه خلقهم على ما وصف في قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥] الآية ، كما تقدّم بيانه. وقد قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) [هود : ١١٨] ، وبذلك تعلم أنّ هذه مشيئة كليّة تكوينيّة ، فلا تعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى في آخر هذه السورة [١٤٨] (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) الآية. فهذا من المشيئة المتعلّقة بالخلق والتكوين لا من المشيئة المتعلّقة بالأمر والتشريع. وبينهما بون ، سقط في مهواته من لم يقدّر له صون.
وقوله : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) تذييل مفرّع على ما سبق.
والمراد ب (الْجاهِلِينَ) يجوز أن يكون من الجهل الذي هو ضدّ العلم ، كما في قوله تعالى خطابا لنوح (إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) [هود : ٤٦] ، وهو ما حمل عليه المفسّرون هنا. ويجوز أن يكون من الجهل ضدّ الحلم ، أي لا تضق صدرا بإعراضهم. وهو أنسب بقوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ). وإرادة كلا المعنيين ينتظم مع مفاد الجملتين : جملة : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) وجملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى). ومع كون هذه الجملة تذييلا للكلام السابق فالمعنى : فلا يكبر عليك إعراضهم ولا تضق به صدرا ، وأيضا فكن عالما بأنّ الله لو شاء لجمعهم على الهدى. وهذا إنباء من الله تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم بأمر من علم الحقيقة يختصّ بحالة خاصّة فلا يطّرد في غير ذلك من مواقف التشريع.
وإنّما عدل على الأمر بالعلم لأنّ النّهي عن الجهل يتضمّنه فيتقرّر في الذهن مرتين ، ولأنّ في النهي عن الجهل بذلك تحريضا على استحضار العلم به ، كما يقال للمتعلّم : لا تنسى هذه المسألة. وليس في الكلام نهي عن شيء تلبّس به الرسول صلىاللهعليهوسلم كما توهّمه جمع من المفسّرين ، وذهبوا فيه مذاهب لا تستبين.
(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦))
تعليل لما أفاده قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ـ إلى قوله ـ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) [الأنعام : ٣٥] من تأييس من ولوج الدعوة إلى أنفسهم ، أي لا يستجيب الذين يسمعون دون هؤلاء الذين حرمهم فائدة السمع وفهم المسموع.
ومفهوم الحصر مؤذن بإعمال منطوقه الذي يومئ إلى إرجاء بعد تأييس بأنّ الله جعل لقوم آخرين قلوبا يفقهون بها وآذانا يسمعون بها فأولئك يستجيبون.