وعلم السامعون أنّ هؤلاء كانوا مستهزءين بالقرآن. وتقدّم معنى الاستهزاء عند قوله تعالى في سورة البقرة : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).
(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (٦))
هذه الجملة بيان لجملة : (فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ). جاء بيانها بطريقة الاستفهام الإنكاري عن عدم رؤية القرون الكثيرة الذين أهلكتهم حوادث خارقة للعادة يدلّ حالها على أنّها مسلّطة عليهم من الله عقابا لهم على التكذيب.
والرؤية يجوز أن تكون قلبية ، أي ألم يعلموا كثرة القرون الذين أهلكناهم ، ويجوز أن تكون بصربة بتقدير : ألم يروا آثار القرون التي أهلكناها كديار عاد وحجر ثمود ، وقد رآها كثير من المشركين في رحلاتهم ، وحدّثوا عنها الناس حتى تواترت بينهم فكانت بمنزلة المرئي وتحقّقتها نفوسهم.
وعلى كلا الوجهين ففعل (يَرَوْا) معلّق عن العمل في المفعولين أو المفعول ، باسم الاستفهام وهو (كَمْ).
و (كم) اسم للسؤال عن عدد مبهم فلا بدّ بعده من تفسير ، وهو تمييزه. كما تقدّم في قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ) في سورة البقرة [ ] وتكون خبرية فتدلّ على عدد كبير مبهم ولا بدّ من مفسّر هو تمييز للإبهام. فأمّا الاستفهامية فمفسّرها منصوب أو مجرور ، وإن كانت خبرية فمفسّرها مجرور لا غير ، ولمّا كان (كم) اسما في الموضعين كان له موقع الأسماء بحسب العوامل رفع ونصب وجرّ ، فهي هنا في موضع مفعول أو مفعولين ل (يَرَوْا). و (من) فزائدة جارّة لمميّز (كَمْ) الخبرية لوقوع الفصل بينها وبين مميّزها فإنّ ذلك يوجب جرّه ب (من) ، كما بيّناه عند قوله تعالى : (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) في سورة البقرة.
والقرن أصله الزمن الطويل ، وكثر إطلاقه على الأمّة التي دامت طويلا. قال تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى). وفسّر القرن بالأمّة البائدة. ويطلق القرن على الجيل من الأمّة ، ومنه حديث خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. ويطلق على مقدار من الزمن قدره مائة سنة على الأشهر ، وقيل : غير ذلك.