لأنّ المؤمن لا يأتي السيّئات إلّا عن غلبة هواه رشده ونهاه. وهذا الوجه هو المناسب لتحقيق معنى الرحمة. وأمّا حمل الجهالة على معنى عدم العلم بناء على أنّ الجاهل بالذنب غير مؤاخذ ، فلا قوة لتفريع قوله : (ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ) عليه ، إلّا إذا أريد ثم تفطّن إلى أنّه عمل سوءا.
والضمير في قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) عائد إلى (سُوءاً) أي بعد السوء ، أي بعد عمله. ولك أن تجعله عائدا إلى المصدر المضمون في (عمل) مثل (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) [المائدة : ٨].
ومعنى (أَصْلَحَ) صيّر نفسه صالحة ، أو أصلح عمله بعد أن أساء. وقد تقدّم عند قوله تعالى : (فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ) في سورة المائدة [٣٩]. وعند قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) في سورة البقرة [١٦٠].
وجملة : (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دليل جواب الشرط ، أي هو شديد المغفرة والرحمة. وهذا كناية عن المغفرة لهذا التائب المصلح.
وقرأه نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف ـ بكسر همزة ـ (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) على أنّ الجملة موكّدة بإن فيعلم أنّ المراد أنّ الله قد غفر لمن تاب لأنّه كثير المغفرة والرحمة. وقرأه ابن عامر ، وعاصم ، ويعقوب فإنه ـ بفتح الهمزة ـ على أنّها (أنّ) المفتوحة أخت (إنّ) ، فيكون ما بعدها مؤوّلا بمصدر. والتقدير : فغفرانه ورحمته. وهذا جزء جملة يلزمه تقدير خبر ، أي له ، أي ثابت لمن عمل سوءا ثم تاب.
(وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (٥٥))
الواو استئنافية كما تقدّم في قوله : (وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) [الأنعام : ٥٣].
والجملة تذييل للكلام الذي مضى مبتدئا بقوله تعالى : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ) [الأنعام : ٥١].
والتفصيل : التبيين والتوضيح ، مشتقّ من الفصل ، وهو تفرّق الشيء عن الشيء. ولمّا كانت الأشياء المختلطة إذا فصلت يتبيّن بعضها من بعض أطلق التفصيل على التبيين بعلاقة اللزوم ، وشاع ذلك حتّى صار حقيقة ، ومن هذا القبيل أيضا تسمية الإيضاح تبيينا وإبانة ، فإنّ أصل الإبانة القطع. والمراد بالتفصيل الإيضاح ، أي الإتيان بالآيات الواضحة الدلالة