الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥].
والتّخويل : التفضّل بالعطاء. قيل : أصله إعطاء الخول ـ بفتحتين ـ وهو الخدم ، أي إعطاء العبيد. ثمّ استعمل مجازا في إعطاء مطلق ما ينفع ، أي تركتم ما أنعمنا به عليكم من مال وغيره.
و (ما) موصولة ومعنى تركهم إيّاه وراء ظهورهم بعدهم عنه تمثيلا لحال البعيد عن الشّيء بمن بارحه سائرا ، فهو يترك من يبارحه وراءه حين مبارحته لأنّه لو سار وهو بين يديه لبلغ إليه ولذلك يمثّل القاصد للشّيء بأنّه بين يديه ، ويقال للأمر الّذي يهيّئه المرء لنفسه : قد قدّمه.
(وَتَرَكْتُمْ) عطف على (جِئْتُمُونا) وهو يبيّن معنى (فُرادى) إلّا أنّ في الجملة الثّانية زيادة بيان لمعنى الانفراد بذكر كيفية هذا الانفراد لأنّ كلا الخبرين مستعمل في التّخطئة والتّنديم ، إذ جاءوا إلى القيامة وكانوا ينفون ذلك المجيء وتركوا ما كانوا فيه في الدّنيا وكان حالهم حال من ينوي الخلود. فبهذا الاعتبار عطفت الجملة ولم تفصل. وأبو البقاء جعل الجملة حالا من الواو في (جِئْتُمُونا) فيصير ترك ما خوّلوه هو محلّ التّنكيل.
وكذلك القول في جملة (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أنّها معطوفة على (جِئْتُمُونا) ـ و (تَرَكْتُمْ) لأنّ هذا الخبر أيضا مراد به التّخطئة والتّلهيف ، فالمشركون كانوا إذا اضطربت قلوبهم في أمر الإسلام علّلوا أنفسهم بأنّ آلهتهم تشفع لهم عند الله. وقد روى بعضهم : أنّ النّضر بن الحارث قال ذلك ، ولعلّه قاله استسخارا أو جهلا ، وأنّ الآية نزلت ردّا عليه ، أي أن في الآية ما هو ردّ عليه لا أنّها نزلت لإبطال قوله لأنّ هذه الآيات متّصل بعضها ببعض ، وفي قوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) بيان أيضا وتقرير لقوله : (فُرادى).
وقوله : (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) تهكّم بهم لأنّهم لا شفعاء لهم فسيق الخطاب إليهم مساق كلام من يترقّب ، أي يرى شيئا فلم يره على نحو قوله في الآية الأخرى (وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ) [النحل : ٢٧] ، بناء على أنّ نفي الوصف عن شيء يدلّ غالبا على وجود ذلك الشّيء ، فكان في هذا القول إيهام أنّ شفعاءهم موجودون سوى أنّهم لم يحضروا ، ولذلك جيء بالفعل المنفي بصيغة المضارع الدالّ على الحال دون الماضي ليشير إلى أنّ انتفاء رؤية الشّفعاء حاصل إلى الآن ، ففيه إيهام أنّ رؤيتهم محتملة الحصول بعد في المستقبل ، وذلك زيادة في التهكّم.