وأنّهم لا يقنعون بآيات الوحدانية ، ألا ترى إلى قولهم : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] إلى آخر ما حكي عنهم في تلك الآية ، فأنبأهم الله بأنّ إرسال الرسل للتبليغ والتبشير والنذارة لا للتّلهّي بهم باقتراح الآيات.
وعبّر ب (نُرْسِلُ) دون أرسلنا للدلالة على تجدّد الإرسال مقارنا لهذين الحالين ، أي ما أرسلنا وما نرسل ، فقوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) حالان مقدّرتان باعتبار المستقبل ومحقّقتان باعتبار الماضي.
والاستثناء من أحوال محذوفة ، أي ما أرسلناهم إلّا في حالة كونهم مبشّرين ومنذرين.
والقصر إضافي للردّ على من زعموا أنّه إن لم يأتهم بآية كما اقترحوا فليس برسول من عند الله ، فهو قصر قلب ، أي لم نرسل الرسول للإعجاب بإظهار خوارق العادات. وكنّى بالتبشير والإنذار عن التبليغ لأنّ التبليغ يستلزم الأمرين وهما الترغيب والترهيب ، فحصل بهذه الكناية إيجاز إذ استغنى بذكر اللازم عن الجمع بينه وبين الملزوم.
والفاء في قوله : (فَمَنْ آمَنَ) للتفريع ، أي فمن آمن من المرسل إليهم فلا خوف إلخ. و (فَمَنْ) الأظهر أنّها موصولة كما يرجّحه عطف (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا) عليه. ويجوز أن تكون شرطية لا سيما وهي في معنى التفصيل لقوله : (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ). فإن كانت شرطية فاقتران (فَلا خَوْفٌ) بالفاء بيّن ، وإن جعلت موصولة فالفاء لمعاملة الموصول معاملة الشرط ، والاستعمالات متقاربان.
ومعنى (أَصْلَحَ) فعل الصلاح ، وهو الطاعة لله فيما أمر ونهى ، لأنّ الله ما أراد بشرعه إلّا إصلاح الناس كما حكى عن شعيب (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) [هود : ٨٨].
والمسّ حقيقته مباشرة الجسم باليد وهو مرادف اللمس والجسّ ، ويستعار لإصابة جسم جسما آخر كما في هذه الآية.
وقد تقدّم في قوله تعالى : (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في سورة المائدة [٧٣]. ويستعار أيضا للتّكيّف بالأحوال كما يقال : به مسّ من الجنون. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١].
وجمع الضمائر العائدة إلى (من) مراعاة لمعناها ، وأمّا إفراد فعل (آمَنَ) و (أَصْلَحَ)