قال : فذمّه وهو يرى أنّه مدحه ، ألا ترى أنّه قد أثبت الصون ونفى عنه الهبات ، كأنّه قال : الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان ، ولو قال : «كان الهبات صوانها» ، فكان يهب ولا يصون ، كأنّه قال : كان الذي يقوم لها مقام الصوان أن توهب.
وهذا الذي قاله لا يتصور إلا حيث يكون الخبر عين المبتدأ ، بل منزّل منزلته وقائم مقامه ، وذلك نحو : «كان زيد زهيرا» ، إذا أردت تشبيه زيد بزهير فيما مضى ، فإن أردت عكس هذا قلت : «كان زهير زيدا».
فأما إذا كان الثاني هو الأول ، فإنّ المعنى على كل حال واحد ، نحو : «كان أخو عمرو زيدا» ، فأما قوله :
فكان مضلّي من هديت برشده |
|
البيت (١). |
فإنّ المعنى واحد جعلت الخبر «مضلّي» أو «من هديت» إذا أردت أنّ الهداية والإضلال وقعا فيما مضى. ألا ترى أنّك إذا قلت : كان مضلّي فيما مضى من وقعت الهداية منه إليّ ، وكان من وقعت الهداية منه إليّ مضلّي فيما مضى ، كان المعنى واحدا. وإنّما كان يختلف المعنى لو كان زمن الخبر في الحال وزمن المخبر عنه فيما مضى ، ألا ترى أنّك إذا قلت : كان مضلّي فيما مضى من هديت به الآن ، كان عكس قولك : كان من هديت به فيما مضى مضلّي الآن.
وأما قوله :
ثياب كريم لا يصون حسانها |
|
إذا نشرت كان الهبات صوانها (٢) |
فإنّك إذا جعلت «الهبات» خلاف «الصوان» ، فإنّه يبطل المعنى المراد من المدح بجعل الصوان خبرا ، ولو جعلت «الهبات» هي نفس «الصوان» لكان المعنى واحدا ، نصبت «الصوان» أو رفعته ، فكأنّك قلت : «كان الهبات صوانا لها» ، و «كان الصوان هبة لها».
هذا إن قدّرنا أنّ المخاطب يعلم إحدى المعرفتين ويجهل الأخرى ، فإن قدّرنا أنّ المخاطب يعلم المعرفتين إلّا أنّه يجهل نسبة إحداهما إلى الأخرى ، وذلك نحو : «كان زيد أخا عمرو» ، إذا قدّرنا أنّ المخاطب يعلم زيدا بقلبه كعلمنا الآن مالكا والشافعيّ وأمثالهما
______________________
(١) تقدم بالرقم ٢٥٥.
(٢) تقدم بالرقم ٢٥٦.